الأحد، 12 فبراير 2012

إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ


أولاً- من الشبهات التي أثيرت حول كتابة المصحف الشريف ، الشبهة التي أثيرت حول قول الله عز وجل :﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ (طه:63) ، حيث جيء بضمير الإشارة ( هذان ) بالألف ، وكان من حقه أن يأتي بالباء هكذا :( هذين ) ، وفقًا للقاعدة النحوية التي تنصُّ على وجوب مجيء المثنى بعد ( إن ) بالياء .

ثانيًا- وفي الإجابة عن هذه الشبهة أقول بعون الله وتعليمه : ذكر النحاة والمفسرون في هذه الآية قراءات ، أشهرها ثلاث :

الأولى : ﴿ إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ بتشديد نون ( إنَّ ) ، و ( هذان ) بالألف .

الثانية : ﴿ إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ بتشديد نون ( إنَّ ) ، و ( هذين ) بالياء .

الثالثة : ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ بتخفيف نون ( إنْ ) ، و ( هذان ) بالألف .

أما القراءة الأولى :﴿ إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ فهي قراءة سبعية متواترة عن الأئمة ، قيل : هي قراءة أهل المدينة والكوفة . قال أبو عبيد في ( فضائل القرآن ) :« رأيتها في الإمام مصحف عثمان ( هذن ) ، ليس فيها ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها » . وقال أبو زيد :« سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفًا » . وقال الفراء :« إنهم زادوا فيها النون في التثنية ، وتركوها على حالها في الرفع والنصب والجر ، كما فعلوا في ( الذي ) ، فقالوا : ( الذين ) في الرفع والنصب والجر » .

وروي عن ابن عباس أنه قال :« إن الله تبارك اسمه أنزل القرآن بلغة كل حي من أحياء العرب » . وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب الأخفش ، وهو رأس رؤساء الرواة ، أنها لغة كنانة ، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد ، يقولون : أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان . قال الشاعر :

إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها

فأتى باسم ( إن ) بالألف ، وعلى هذه اللغة حملت قراءة :﴿ إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ، قال أبو جعفر النحاس :« وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية ؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة ، وقد حكاها من يُرتضَى بعلمه وأمانته ؛ منهم أبو زيد الأنصاري ، وهو الذي يقول : إذا قال سيبويه : حدثني من أثق به ، فإنما يعنيني ، وأبو الخطاب الأخفش ، وهو رئيس من رؤساء اللغة ، والكسائي والفراء كلهم قالوا : هذا على لغة بني الحارث بن كعب » .

وأضاف أبو جعفر النحاس قائلاً :« ومن أبْيَن ما في هذا قول سيبويه : واعلم أنك إذا ثنَّيت الواحد زدت عليه زائدتين : الأولى منهما : حرف مد ولين ، وهو حرف الإعراب . قال أبو جعفر : فقول سيبويه : ( وهو حرف الإعراب ) ، يوجب أن الأصل ألا يتغير ، فيكون ( إِنَّ هذان ) جاء على أصله ؛ ليعلم ذلك .. ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة ؛ إذ كان الأئمة قد رَوَوْها » .

والقاعدة التي عليها المحققون : أن القرآن الكريم هو الأصل الذي ينبغي أن تقعّد عليه اللغة ، وبه تضبط قواعد النحو ، فإذا ثبتت القراءة القرآنية لزم قبولها والمصير إليها ، ولا ترد بقياس عربية ولا فشو لغة . قال أبو عمرو الداني :« أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة ، والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر ، والأصح في النقل ، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ، ولا فشو لغة ؛ لأن القرآن سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها » .

فثبت أن تجرؤ بعض النحاة ، ومن تبعهم من المشكِّكين الطاعنين على القول بأن هذه القراءة من اللحن ؛ لأنها تخالف القاعدة النحوية التي تنصُّ على وجوب نصب الاسم بعد ( إن ) ، مردود بأنها قراءة متواترة ، فلا يجوز إنكارها ، ولا تضعيفها بوجه من وجوه النحو ، لها في غيره ما تحمل عليه ؛ فمن المقرَّر أن من ضوابط قبول القراءة أن توافقَ اللغة العربية ولو بوجه ، ولا يشترط أن توافقها من جميع الوجوه .

وأما القراءة الثانية :﴿ إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ بالياء ، فقد رويت عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة- رضي الله عنهم- وهي قراءة أبي عمرو ، جاء في كتاب ( الحجة في القراءات السبع ) المنسوب لابن خَالَوَيْهِ فول مؤلفه :« قرأ أبو عمرو :﴿ إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ بالياء ؛ لأن تثنية المنصوب والمجرور بالياء في لغة فصحاء العرب ، وأبو عمرو مستغن عن إقامة دليل على صحتها ؛ كما أن القارئ في قول الله جل وعز :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ (المائدة: 23) مستغن عن الاحتجاج على منازعه ، إن نازعه في صحة قراءته » . ولكنهم استشكلوها من حيث إنها مخالفة لخط المصحف الإمام ؛ ولهذا قال الزجاج :« لا أجيز قراءة أبي عمرو ؛ لأنها خلاف المصحف » ، ومخالفتها لخط المصحف لا يطعن فيها ؛ لأنها رواية صحيحة وافقت وجهًا مقبولاً في العربية .

وأما القراءة الثالثة :﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ بتخفيف النون ، فهي قراءة حفص ، وتخريجها على أن ( إنْ ) هي المخففة من الثقيلة ، و ( هذان ) مبتدأ ، خبره ( لساحران ) ، أدخلت عليه اللام للفرق بين ( إن ) النافية ، و ( إن ) المخففة من الثقيلة ، هذا مذهب جمهور البصريين . ومذهب الكوفيين أن ( إنْ ) نافية ، واللام بمعنى ( إلاّ ) ، والتقدير : ما هذان إلا ساحران ، وإليه ذهب الخليل بن أحمد زعيم البصريين في أحد قوليه ، وهو قوله : وأنا أقرؤها ، إن شئتم ، مخفّفة على الأصل :﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ، وهي مروية عن أُبَيِّ بن كعب ، وروي عنه أيضًا :( ما هذان إلا ساحران ) ، وبه فسرت القراءة الأولى .

ثالثًا- هذه هي أشهر أوجه القراءات التي حملت عليها هذه الآية ، وهي أوجه فصيحة كلها ، وقد اتفقت المصاحف العثمانية جميعها على رسم ( هذان ) بغير ألف وياء ، هكذا :( هذن ) ؛ ليحتمل هذه الأوجه من القراءات المختلفة ، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير في تعقيبه على ذلك :« ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود ، فلا التفات إلى ما روي من ادِّعاء أن كتابة ( إنَّ هذان ) خطأ من كاتب المصحف ، وروايتهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفَّان عن أبيه ، وعن عروة بن الزبير عن عائشة ، وليس في ذلك سند صحيح ، حسبوا أن المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف ، وهذا تغفُّل ، فإن المصحف ما كتب إلا بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيِّفًا وعشرين سنة في أقطار الإسلام ، وما كتبت المصاحف إلا من حفظ الحفَّاظ ، وما أخذ المسلمون القرآن إلا من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف ، وبعد ذلك إلى اليوم ، فلو كان في بعضها خطأ في الخط ، لما تبعه القرَّاء ، ولكان بمنزلة ما تُرك من الأَلِفات في كلمات كثيرة ، وبمنزلة كتابة ألف ( الصلاة ، والزكاة ، والحياة ) ، و( الرِّبا ) بالواو ، في موضع الألف ، وما قرؤوها إلا بأَلِفَاتها » .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق