من الشبهات التي أثارها المشككون في بلاغة القرآن شبهة تأنيث الضمير وجمعه في قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾(فصلت:37) . وكان وجه الكلام يقتضي أن يقال :( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُما ) بتثنية الضمير وتذكيره ؛ لأنه يعود على ( الشمس والقمر ) . وللنحاة والمفسرين في الإجابة عن هذه الشبهة ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الضمير يعود على الأربعة المتعاطفة ، فيكون التقدير : واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار ، والشمس والقمر . فلما أعيد على هذه الأربعة جيء به جمع مؤنث ، ولم يؤت به جمع مذكر ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الإناث . يقال : الأقلام بريتها ، وبريتهن . وكذلك هنا يجوز أن يقال : خلقها ، وخلقهن .
والثاني : أنه يعود على لفظ الآيات في قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ ﴾ ، وهو جمع مؤنث .
والثالث : أنه يعود على ( َالشَّمْس وَالْقَمَر ) ؛ لأن الاثنين جمعٌ في مذهب بعضهم ، والجمعُ مؤنثٌ .
ثانيًا- وتحقيق القول في هذه المسألة : أن الضمير في قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُنَّ ﴾ للشمس والقمر ؛ كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، بدليل أن الآية الكريمة نهت عن السجود لهما ، وأمرت بالسجود لله الذي ( خلقهما ) ، أو ( خلقهن ) ، وكلا التعبيرين جائز وفصيح ؛ ولكن الثاني أفصح من الأول . والعرب إنما تسند الفعل إلى ضمير الجمع ، إذا كان ذلك الضمير يعود على مفردين قد عطف أحدهما على الآخر ، ولم يكن لكل منهما ثانٍ في الوجود . فـ( الشمس ) لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود ، و( القمر ) لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود . تقول : خلق الله الشمس والقمر . فإن أتيت بضميرهما مسندًا إلى الفعل ، قلت : الشمس والقمر خلقهما الله ، وخلقهن الله . والثاني هو الأفصح والأشهر في لسان العرب ؛ لأنهما- كما ذكرنا- مفردان لا ثاني لهما في الوجود ، فيعاملان معاملة الجمع ؛ لأنهما لا يثنَّيان . وأما قولهم : القمران للشمس والقمر ، فمن باب تغليب المذكر على المؤنث ؛ كما قال تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾(القيامة:9) . أي : جُمِع القمران ؛ فإن التثنية أخت العطف ؛ وكأنه قيل : جُمِع القمر ، والقمر .. وهذا من الأسرار الدقيقة في البيان الأعلى .
وأما التعبير عنهما بضمير من يعقل ( هُنَّ ) فلتغليب الشمس على القمر ؛ لأهميتها ؛ ولأن الضمير ( هُنَّ ) لفظ مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع ، ونظير ذلك قوله تعالى :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾(الزخرف:9) ،
﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ﴾(الأنبياء:56) .
ومما يدلك على أن ( هُنَّ ) مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع قوله تعالى :﴿ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾(التوبة:36) ، فأتى بضمير من يعقل ( فِيهِنَّ ) ، وهو عائد على الأربعة الحرم .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق