الأحد، 12 فبراير 2012

إن الذين هادوا والصَّابئون


أولاً- من الشبهات التي أثيرت حول كتابة المصحف الشريف ، واتخذها المغرضون دليلاً على وقوع اللحن في القرآن الكريم الشبهة التي أثيرت حول قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (المائدة:69) .

وموضع الشبهة هنا لفظ ( الصَّابِئُونَ ) ، حيث أتى بالواو ، وكان من حقه- على حدِّ زعمهم- أن يأتي بالياء هكذا :( الصَّابِئِينَ ) ؛ لأنه معطوف على ( الَّذِينَ آمَنُواْ ) ، وحجتهم في ذلك أنه أتى كذلك في آية البقرة :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ (البقرة:62) ، وآية الحج :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (الحج:17) . فقالوا : لما أتى في آية المائدة بالواو خلافًا لما في آية البقرة وآية الحج ، دل على أنه لحن ، وأنه من خطأ كاتب الوحي .

ثانيًا- وهنا لا بد أن أذكِّر القارئ بأن هذه الشبهة قديمة ، وقد عدَّها المغرضون من اللحن الموجود في القرآن الكريم ، ورَوَوا عن عائشة- رضي الله عنها- أنها لما سئلت عن اللحن في القرآن في بعض الألفاظ ، ومنها لفظ :﴿ الصَّابِئُونَ ﴾ ، أجابت بأن هذا خطأ ، وأنه من عمل كتاب الوحي ، ونقلوا عنها أنها كانت تقرأ :﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ ، بالياء . ونحو ذلك ما رُوِيَ عن سعيد بن جُبَيْر- رضي الله عنه- من أنه قال :« في القرآن أربعة أحرف لحن ، هي : ( وَالصَّابئُونَ ) ، ( والمُقِيمِينَ ) ، ( فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ ) ، و( إنْ هَذَانِ لسَاَحِرَانِ ) » ، ونحو ذلك ما رويَ من أنه لما فرغ من المصحف ، أتى به عثمان ، فنظر فيه فقال :« قد أحسنتم وأجملتم ، أرى فيه شيئًا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها » .

وهذه الروايات وغيرها مهما يكن سندها صحيحًا ، فإنها مخالفة للمتواتر القاطع . وما خالف المتواتر القاطع فهو ساقط مردود لا يلتفت إليه ، ولا يعمل به . وممَّا يجب أن يُوقَن به أن هذه الألفاظ التي زعموا أنها لحنٌ قد نزل بها الوحي هكذا ، ونطق بها النبي صلى الله عليه وسلم كما نزلت ، وتلقاها المسلمون منه وقرؤوها كما نطقها ، وكتبوها في المصاحف كما تلقوها وقرؤوها ، وهم عَرَبٌ خُلَّص لا يشك في عربيتهم وفصاحتهم وأمانتهم . وقد اتفق الجمهور على قراءة قوله تعالى :﴿ والصَّابِئُونَ ﴾ ، بالواو ، على نحو ما هو مرسوم في المصحف الشريف ؛ إلا ابن محيصن فقد قرأها بالياء ، وكذلك الجحدري وعثمان وأبي وابن جبير ، كما قال أبو حيان في البحر المحيط . وقال الزمخشري في الكشاف :« وبها قرأ ابن كثير ، ولم ينقل عن عائشة- رضي الله عنها- في الصحيح أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو ، كما لم ينقل عنها أنها خطَّأت من قرأها بالواو ».

ثالثًا- قال الفخر الرازي عند تفسيره لآية البقرة :« فإن قال قائل : إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ .. ﴾ ، وفي سورة الحج :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ .. ﴾ ، فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ، ورفع ( الصابئين ) في آية ، ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك ؟ والجواب : لما كان المتكلم أحكم الحاكمين ، فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد ، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم ، والله أعلم » .

والظاهر من سياق هذه الآية في سورة البقرة أنها مَسوقَة ؛ للترغيب في الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ، والعمل الصالح . ونظيرها في ذلك آية المائدة :﴿ إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، فذكر سبحانه في هاتين الآيتين من أهل الملل أصنافًا أربعة : ( الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ) ، ثم أخبر أنه من آمن من هؤلاء بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا ، فأولئك هم المحمودون والسعداء في الآخرة ، بخلاف من لم يكن منهم كذلك .

وهذا وعد مؤكَّد منه سبحانه وتعالى ، والله لا يخلف وعده ، وقد ضمَّنه البيان الأخير عن الدين الذي يقبله من الناس ، أيًّاً كان وصفهم وعنوانهم ، وما كانوا عليه قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل ، فيما غبر من التاريخ .

ثم قال تعالى في سورة الحج :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾(الحج:17 ) ، فزاد على ما ذكر في الآيتين السابقتين : ( المجوس والمشركين ) ؛ لأن هذه الآية مَسوقَة لبيان التفويض إلى الله تعالى في الحكم بين أهل الملل ، وفيها يخبر الله سبحانه أنه يفصل بين أهل الملل يوم القيامة أجمعين ، ولم يذكرهم هنا ؛ ليتبين منهم المحمود والسعيد في الآخرة ، خلافًا لآيتي البقرة والمائدة ؛ لأنهما جاءتا في مَساق بيان فضل التوحيد ، والإيمان بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح

أما اقتصاره سبحانه وتعالى في آيتي البقرة والمائدة على ذكر الأصناف الأربعة من أهل الملل فلأن هؤلاء هم أتباع الأنبياء عليهم السلام ، خلافًا للمجوس الذين هم أتباع الشياطين ، وخلافًا للمشركين الذين هم عَبَدَة الأصنام والأوثان ، وهم المنكرون للأنبياء على الإطلاق ، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم ، فهؤلاء كلهم لم يذكر منهم سعيد في الآخرة . أما أتباع الأنبياء- عليهم السلام- فهم ( الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئون ) ؛ فمن آمن من هؤلاء الأصناف الأربعة بالله تعالى واليوم الآخر ، وعمل صالحًا ، ومات قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فله أجره عند ربه ، ولا يلحقه خوف من عقاب ، ولا يناله حزن على فوات ثواب ، والله تعالى لا يضيع أجر من أمن وأحسن عملاً .

وبذلك تكون الآيتان قد تضمنتا التسوية بين ( الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ) ، في كينونة الأجر لهم في الآخرة ، وأن إيمانهم في الدنيا قد أنتج لهم الأمن في الآخرة ، فلا خوف مما يستقبل ، ولا حزن على ما فات ؛ إذ من استقر له أجره عند ربه ، فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة والسعادة .

وأما ( الصَّابِئُونَ ) في آية المائدة بالرفع فهو معطوف على موضع ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا ) ، وهذا العطف جائز في اللغة ، سواء كان المعطوف عليه مما خفي فيه الإعراب ، أو لم يخف . وسواء ذكر خبر ( إنَّ ) في حال عطف المرفوع على موضع اسمها ، أو لم يذكر ، وإن كان الأغلب في نحو ذلك أن يكون الخبر مذكورًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾(التوبة: 3) ، فأتى قوله :﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ مرفوعًا في قراءة الجمهور . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي :﴿ وَرَسُولَهُ ﴾ منصوبًا ، عطفًا على لفظ اسم ( أنَّ ) . وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف . وجوَّز بعضهم فيه أن يكون معطوفًا على موضع اسم ( أنَّ ) ، قياسًا على العطف على موضع اسم ( إنَّ ) المكسورة كما في آية المائدة . ومنهم من أجاز ذلك مع ( إنَّ ) المكسورة ، ومنعه مع ( أنَّ ) المفتوحة . والأحسن هنا أن يكون ﴿ رَسُولُهُ ﴾ مرفوعًا على الابتداء ، خبره محذوف لدلالة ما قبله عليه . أي : أن الله بريء من المشركين ، ورسولُه بريء منهم أيضًا . وإنما قلنا : هذا هو الأحسن ؛ لأن خبر ( أنَّ ) في هذه الآية جاء مذكورًا ، وليس لأن ( أنَّ ) المفتوحة أقل توكيدًا من المكسورة ، بدليل أنه قرئ :﴿ إِنَّ اللَّهَ ﴾ بكسر الهمزة ، وهي قراءة الحسن والأعرج .

ومن هنا يمكننا القول : إذا جاز في آية التوبة أن يكون التقدير : ( أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، ( وَرَسُولُهُ بريء منهم ) ، فإنه لا يجوز أن يقال مثله في آية المائدة ، فلا يجوز أن يقال : التقدير :( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ، ( وَالصَّابِئُونَ كذلك لا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون ) ؛ وذلك لأن هذا الذي قالوه يقتضي أن كلام الله تعالى على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح ، وأنه لا يكون صحيحًا إلا بتفكيك هذا النظم المحكم على التقدير الذي تأولوه . وهذا مما لا ينبغي أن يقول به عاقل يؤمن بأن كلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟

ولهذا كان ما ذهب إليه الكسائي والفرَّاء أولى الأقوال في التعليل لرفع لفظ ( الصَّابِئِينَ ) عطفًا على موضع ( إنَّ ، واسمها ) ؛ لأن موضعهما الرفع . ولا خلاف بين أرباب اللسان في أن قولنا :( إنَّ زيدًا ) يقوم مقام قولنا :( زيدٌ ) ؛ لأن ( إنَّ ) لا تغير الابتداء ، وليس لها من وظيفة سوى تأكيد اتصاف المبتدأ بالخبر وأما نصب الاسم بعدها فيرجع إلى العرف اللغوي الذي اصطلح عليه أهل اللغة ، والقول بأن ( إنَّ ) هي التي تنصب وترفع قول لا أساس له من الصحة .

وأما تقديم لفظ ( الصَّابِئِينَ ) على لفظ ( النَّصَارَى ) في آيتي المائدة والحج فلأن ( الصابئين ) مقدمون على ( النصارى ) في الزمان ، فهم أقدم من النصارى ؛ كما قدِّم لفظ ( الذِينَ هَادُوا ) على لفظهما ؛ لأن اليهود أقدم في الزمان من الصابئين والنصارى .

والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا : إذا قدم لفظ ( الصابئين ) على لفظ ( النصارى ) في آيتي المائدة والحج لتقدمه عليهم في الزمان ، فلماذا قدم لفظ ( النصارى ) عليه في آية البقرة ؟

ويجاب عن ذلك بأن النصارى مقدمون على الصابئين في المرتبة والفضل ؛ ولهذا قدِّم لفظهم في آية البقرة على لفظ ( الصابئين ) ، ورسم الثاني بالياء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ؛ لأنه معطوف على اسم ( إن ) ؛ ولكن لما كان الصابئون مقدمون في الزمان على النصارى ، قدم لفظهم على لفظ ( النصارى ) لتقدم زمنهم ، ورسم لفظهم بالواو ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ؛ لأنه معطوف على محل اسم ( إن ) ، فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير ؛ ليشعر أنهم مؤخرون في المرتبة ، وإن قدموا في الزمن واللفظ . وهذا اختيار الشيخ ابن تيمية ، والله تعالى أعلم ! نسأله سبحانه أن ينوِّر بصائرنا ، ويزيدنا فهمًا لكلامه وعلمًا بأسرار بيانه ، إنه سميع مجيب .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق