الأحد، 12 فبراير 2012

وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا


قال الله عز وجل :﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15- 16) .

أولاً- هذه الآية الكريمة من سورة نوح وردت في سياق خطاب نوح لقومه . ومناسبتها لما قبلها أن نوحًا – عليه السلام – لما نبَه قومه على النظر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى النظر في العالم علوه وسفله ، وأقام عليهم الحجة فيما أودعه سبحانه في العالم العلوي من الأجرام الفلكية المرئية التي خلقها الله عز وجل بقدرته العظيمة ، وبما فيها من القمر الذي جعله فيها نورًا ، والشمس سراجًا ، فانتقل بهم – عليه السلام - من الاستدلال عليهم أولاً بآثار وجود الله ووحدانيته وقدرته مما في أنفسهم من الدلائل ، إلى ما في العالم العلوي من هذه الدلائل الشاهدة على عظمة الخالق جل وعلا ووحدانيته وقدرته الباهرة .

ثانيًا- وجمهور المفسرين على القول بأن السموات سبع متطابقة تحيط بالأرض ، بعضهن فوق بعض كالقباب ، وأن القمر في السماء الدنيا . وإذا كان كذلك ، فكيف قال ربنا :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا . أي : في السموات السبع الطباق ، والقمر ليس فيهن ؛ وإنما هو في إحداهن ؟ ولعلمائنا الإجلاء في الإجابة عن هذا السؤال ثلاثة أقوال :

أحدها : روي عن الحسن البصري أنه قال في تفسير الآية :« يعني في السماء الدنيا ؛ كما يقال : أتيت بني تميم ، وإنما أتى بعضهم . وفلان متوار في دور بني فلان ، وهو في دار واحدة » ، فذكر الكل وأراد الجزء . وهذا مذهب البصريين ، وهو من المجاز المرسل . قال الطبري :« وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : إنما قيل :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا على المجاز ؛ كما يقال : أتيت بني تميم ؛ وإنما أتى بعضهم » . وقال ابن كيسان :« إذا كان في إحداهن ، فهو فيهن » . وقال النحاس :« سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية ، فقال : جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن ، فقد جعله فيهن ؛ كما تقول : أعطني الثياب المعلمة ، وإن كنت إنما أعلمت أحدها » . وقال الرازي :« كيف قال :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ، والقمر ليس فيها بأسرها ؛ بل في السماء الدنيا ؟ والجواب : هذا كما يقال : السلطان في العراق ، ليس المراد : أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق ؛ بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق ، فكذا ههنا » . وقال أبو حيان :« وصحَّ كون السموات ظرفًا للقمر ؛ لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها » .

وقال الدكتور زغلول النجار :« ويشير القرآن الكريم إلى أن الله تعالى قد قسم السماء إلى سبع سموات , كما قسم الأرض إلى سبع أرضين ، فقال تعالي :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾(الطلاق: 12) . وقال سبحانه وتعالى :﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15- 16) . وقال عز من قائل :﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (الملك: 3) .. ويتضح من هذه الآيات بصفة عامة , ومن آيتي سورة نوح بصفة خاصة أن السموات السبع متطابقة حول مركز واحد , يغلف الخارج منها الداخل , وإلا ما كان جميع ما في السماء الدنيا واقعًا في داخل باقي السموات ؛ فيكون كل من القمر والشمس - وهما من أجرام السماء الدنيا - واقعين في كل السموات السبع » .

والقول الثاني : قال قطرب :« قوله تعالى :﴿ فِيهِنَّ ﴾ بمعنى :( معهن ) . أي : وخلق القمر معهن نورًا » .. وقال الكلبي ومقاتل :« أي : خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض » . وعليه تكون ( في ) بمعنى ( مع ) ، والقول بتناوب معاني حروف الجر هو مذهب الكوفيين ، والبصريون على خلافهم في ذلك .

والقول الثالث : قال ابن الأنبا ري :« يقال : إن القمر وجهه يضيء لأهل السموات ، وظهره لأهل الأرض ؛ ولهذا قال تعالى :{ فيهن } ، لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء » . وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم :« أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات ، وظهورهما مما يلي الأرض » ، فيكون نور القمر محيطًا بجميع السماوات ؛ لأنها لطيفة لا تحجب نوره . وروي عن عكرمة أن نور القمر يضيء فيهن كلهن ؛ كما لو كان سبع زجاجات أسفل منها شهاب أضاءت كلهن ، فكذلك نور القمر في السموات كلهن لصفائهن . فعلى هذه الأقوال يكون التقدير : وجعل نور القمر في السموات السبع الطباق .

ثالثًا- واعلم أن هذه الأقوال التي أجاب بها العلماء خطأ كبير ؛ لأنها مخالفة لكلام الله عز وجل .

1- أما القول الأول فمخالفته لنص الآية واضحة وصريحة .. الله سبحانه وتعالى يقول :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ، وهم يقولون في تأويله :( وجعل القمر في إحداهن ) ، وهذا تحريف واضح لكلام الباري عز وجل . وظاهر كلامه سبحانه أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله ، ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل . ثم إن كون القمر في السموات السبع الطباق لا يلزم منه أن يملأهن . وكذلك كما لو كان في إحداهن ، فلا يلزم أن يملأها . فقولنا : جعل القمر فيهن ؛ كقولنا : جعل القمر في إحداهن ، من حيث أن الظرف لا يلزم أن يملأه المظروف كما قال أبو حيان .

2- وأما القول الثاني ، وهو أن قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ ﴾ بمعنى :( وخلق القمر معهن ) ، فهو قول ، اللغة منه براء ، وإن قال به كثير من العلماء .. ويرده أولاً : أنه لو كان المراد معنى المعية ، لوجب أن يقال :{ وجعل القمر معهن نورًا } . فلما لم يقل ذلك ، وقال :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ، علم أن المراد معنى الظرفية ، وأن القمر الذي جعل نورًا كائن في السبع الطباق ، وليس معهن . ويرده ثانيًا : تفسير ﴿ جَعَلَ الْقَمَرَ ﴾ بمعنى :( خلق القمر ) ، وهو خطأ ؛ لأن عملية الجعل مترتبة على عملية الخلق . وهذا يعني أن القمر مخلوق قبل أن يجعل نورًا .

3- وأما القول الثالث ، وهو أن المجعول في السبع الطباق هو نور القمر لا عينه ، فهو قول باطل بنص الآية . قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي :« واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق ؛ لأن لفظة { َجَعَلَ } في الآية هي التي بمعنى صيَّر ، وهي تنصب المبتدأ والخبر . والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر ، فقولك : جعلت الطين خزفًا ، والحديد خاتمًا ، لا يخفى فيه أن الطين هو الخرف بعينه ، والحديد هو الخاتم ، وكذلك قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ؛ فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه ، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق ، وكون المجعول فيها مطلق نوره ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل :{ وجعل نور القمر فيهن } . أما قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر ، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه » .

رابعًا- نخلص مما تقدم إلى القول بأن النص القرآني نص محكم في صياغته وفي معناه ، لا يجوز لأحد أن يعبث به باسم التأويل أو التفسير . وإذا قال الله عز وجل قولاً ، فقوله سبحانه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وقوله سبحانه :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا نص صريح في أن نفس القمر الذي جعله الله سبحانه نورًا كائن في السموات السبع الطباق . وإذ ثبت ذلك بنص الآية ، فلا بد من معرفة المراد من السموات السبع الطباق التي جعل القمر فيهن نورًا ، وجعلت الشمس سراجًا . ولمعرفة ذلك نقول :

السموات جمع : سماء . والسماء اسم مشتق من السمو ، وهو العلو ، يذكر ويؤنث ، ويطلق على الواحد ، وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي . والأصل فيه هو الدلالة على موجود حسي في العلو ؛ ولهذا قالوا : كل ما علاك فأظلك فهو سماء . وقال الشاعر :

وقد يسمى سماء لكل مرتفع ... وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

وقد ورد اسم ( السماء ) في القرآن الكريم بصيغة المفرد والجمع ، وبالتعريف غالبًا ، دلالة على معهود ، مما يعني أن الموصوف في كل حالة مشاهد معلوم للأمم ، ومع ذلك فقد اختلف العلماء في مدلول لفظ السموات في القرآن الكريم ، وقصره بعضهم على سماوات المعراج . وإلى هذا أشار الدكتور محمد دودح في مقال نشر له في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تحت عنوان ( حقائق علم الفلك تشهد للقرآن الكريم بالوحي ) ، فقال :« قد أُشْكِلَ على بعض الفضلاء مدلول لفظ السموات في القرآن الكريم ، فقصروه على سماوات المعراج , وهي أمر غيبي مسلَّم به طبقًا للمنقول ، والأصل في الغيبي غير المرصود التفويض بلا تكييف ولا إنكار ، إذا ثبت نقله ؛ ولكن ينبغي تمييزه عن السموات المرئية التي طالبنا الكتاب العزيز في جملة مواضع بالنظر إليها والتطلع إلى بديع صنع الله تعالى ومعاينة الدلائل الحسية على حكمته تعالى وتقديره في الخلق . ولا مُستند إذًا لقصر دلالة لفظ السموات في الكتاب العزيز على أمر غيبي ، وتجهيل القائل بأنها كيانات حسية مرصودة معلومة ، أو ينزلها على الكون المحسوس . والقاعدة أن دلالة اللفظ إذا تعددت معانيه فهي بحسب سياقه , والمسألة أيضًا قد يختلف فيها الفهم ، ولا يعلم مراد الله تعالى بيقين سواه ، فضلاً على أن الترصد والتعجل بالاتهام يطال العلماء سلفًا وخلفًا القائلين بأن أجرام السموات مرئية ، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد صرح رحمه الله تعالى أن السموات في القرآن الكريم هي أفلاك تلك الأجرام السماوية المشاهدة ، وأن قول أغلب العلماء كذلك أنها الأفلاك ، يعني : مجاري الأجرام السماوية المشاهدة .. فنحن إذًا مخاطبون وفق مطلق اللغة وقرائن السياق ، ولا مستند لدعوى شرعية رأي وتعطيل قواعد الخطاب . قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي يرحمه الله تعالى : وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول » .

ثم قال :« والقمر هو أحد الأجرام الفلكية المرئية ، والكتاب العزيز يصرح بأنه في السموات ؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجاً﴾(نوح: 15- 16) , وفضلاً على الدلالة على أن نوح عليه السلام كان يقيم الحجة على قومه بما هو ليس غيبيًا ؛ وإنما أمرًا مرصودًا ، فإن الدلالة على أن القمر في السموات صريحة مما يعني أن المراد هو سماوات الأجرام المشاهدة ، ومع البيان في جملة مواضع في الكتاب العزيز بأن ما في السموات مُعاين ، وتكرار الأمر مرارًا بتوجيه النظر إلى ما فيها ، فقد فسرها الأعلام بالأفلاك . أي : الطرائق الشفافة المميزة بما فيها من أجرام مشاهدة .

وقوله تعالى :﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ ﴾(يونس: 101) لم يوجِّه النظر للسموات ذاتها ؛ وإنما إلى ما فيها ، مما يعني أنها طرائق ، وأن أجرامها مرئية , ومثله قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ ﴾(الأعراف: 185) , قال الألوسي رحمهم الله تعالى جميعا :« أجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا تُرى ؛ لأنها شفافة ، لا لون لها ؛ لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب » . وقال أيضًا :« وظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء ، أجرامها مرئية » .

ثم نقل الدكتور محمد دودح عن ابن عاشور قوله بأن المراد بالسموات السبع : آفاق الأجرام المشاهدة ، مع أن ابن عاشور فسرها بالأجرام نفسها دون آفاقها ، وأنكر قول من فسرها بأفلاك تلك الأجرام . ونص قوله في ذلك عند تفسير قول الله عز وجل :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(البقرة: 29) :« وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السموات سبعًا ، وهو أعلم بها وبالمراد منها ؛ إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السموات الأجرام العلوية العظيمة ، وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ، ويدل لذلك أمور :

أحدها : أن السموات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض ، وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض ، فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي ، وهذا ثابت للسيارات .

ثانيها : أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى ، فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم ، الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها .

ثالثها : أنها وصفت بالسبع ، وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع .

رابعها : أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ؛ ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي ، فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض .

ثم قال :« وبعضهم يفسر السموات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج » .

وانتهى من ذلك إلى القول :« هذا ، وقد ذكر الله تعالى السموات سبعًا هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسموات ، وجعل السموات كلها في مقابلة الأرض ؛ وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة ، وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض : نِبْتون ، أُورَانوس ، زُحَل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان .

والأرض في اصطلاحهم كوكب سيَّار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعدَّ معها ؛ لأنها التي منها تنظر الكواكب ، وعُدَّ عوضًا عنها القمر ، وهو من توابع الأرض ، فعدُّه معها عوض عن عدِّ الأرض تقريبًا لأفهام السامعين » .

وكرر ابن عاشور ذلك في موضع آخر ، فقال :« أثبت القرآن سبع سموات ، ولم يبيّن مسمَّاها في قوله ( سورة نوح ) :﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص ، متمايزة بما يملاّها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب .. ويجوز أن تكون السموات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمسي ، وهي : فُلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخُ ، والمشتري ، وزحلُ ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ؛ إلا أنها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زُحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر . وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدِّ القمر ، وهذا هو الظاهرُ ، والشمس من جملة الكواكب » .

وانتهى من ذلك إلى القول :« وقوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ﴾ صالح لاعتبار القمر من السموات . أي : الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة ؛ لأن ظرفية ( في ) تكون لوقوع المحوي في حاويه مثل الوعاء ، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته » .

وجاء في كتاب ( القرآن وإعجازه العلمي ) :« والسموات السبع التي يرد ذكرها في كثير من الآيات هي على أرجح الأقوال الكواكب السبع السيارة المعروفة .. وجاء في تفسير علماء الفلك لهذه الآية : أنه يصح أن يراد بالسموات السبع مدارات الكواكب السيارة التي تدور حول الشمس ، ويصح أن يراد بها الطبقات المختلفة لما يحيط بالأرض » .

خامسًا- وخلاصة القول في ذلك أن السموات السبع في القرآن الكريم ؛ سواء كان المراد منها الأجرام السماوية نفسها ، وهي الكواكب السبع السيارة العظيمة المرتبطة بالنظام الشمسي . أو كان المراد منها أفلاك تلك الأجرام ، وهي الطرق التي تسلكها الأجرام في دورانها . أو كان المراد منها الطبقات المختلفة لما يحيط بالأرض ، ليس المراد منها هو مطلق ما علاك . وهذا ما أشار إليه الشيخ الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان ) بقوله :« وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله :﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15- 16) ، فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق ، وأن الله حفطها من كل شيطان رجيم ، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء ، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك » .

وقال رحمه الله في موضع آخر :« وقد قدمنا في سورة الحجر أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنيَّة ، لا السماء التي هي مطلق ما علاك ؛ لأن الله بين في سورة الحجر أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة ، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات: 47) ، وقوله :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (النبأ: 12) ، وليست مطلق ما علاك ، والبيان المذكور في سورة الحجر في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 16-17) ؛ فآية الحجر هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة ، لا مطلق ما علاك » .

وانتهى من ذلك إلى القول :« وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه جل وعلا في آية الفرقان هذه بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ؛ لأنه قال هنا :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61) ؛ وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك . وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم » .

فثبت بما تقدم كله أن القمر عينه كائن في السموات السبع الطباق ، لا مطلق نوره ؛ لأن نوره المجعول فيهن هو عين القمر ، وأنه في خصوص السماء ذات البروج ، وأن ذات البروج هي المبنيَّة ، المحفوظة ، وأن المراد منها ليس مطلق ما علاك . ولولا ذلك ، لكان قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ﴾ خطأً يحتاج إلى تصحيح . سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرا .. ولو كان المراد من السبع الطباق السماء الدنيا وما يحيط بها من سموات ست غير مرئية ، لما جاز خطاب القوم بقول الله عز وجل :﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ﴾ . يقول الدكتور زغلول النجار :« إننا في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه لا ندرك من السموات السبع التي أخبرنا بها ربنا تبارك وتعالي , وأخبر بها خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ، إلا جزءًا محدودًا من السماء الدنيا التي خصها الخالق سبحانه بالنجوم والكواكب » .

فإذا كنا لا ندرك من السموات السبع إلا جزءًا محدودًا من السماء الدنيا ، ولا ندرك الجزء الأعظم منها ، وما يحيط بها من سموات ، فكيف يجوز أن يخاطب قوم نوح بقول الله عز وجل :﴿ أََلَمْ تَرَوْا ؟ فالقوم المخاطبون بهذا الخطاب كانوا على علم ودراية بكيفية خلق الله عز وجل سبع سموات طباقًا ، وبجعل القمر في هذه السموات نورًا ، والشمس سراجًا ؛ ولكنهم غفلوا عن ذلك ، فجاء هذا الخطاب ينبههم إلى بديع صنع الله عز وجل ، ويذكرهم بعظيم قدرته . وقد قدمنا أن نوحًا – عليه السلام – أقام الحجة على قومه بهاتين الآيتين الكريمتين مستدلاً بهما على وجود الخالق جل وعلا ووحدانيته وبديع صنعه وقدرته ، فكيف يحتج عليهم بشيء لم يروه ، ولم يدركوا منه إلا جزءًا يسيرًا ؟ فلو لم تكن هذه السموات السبع الطباق مرئية لهم ، ما جاز خطابهم بهذا الخطاب . ويدلك على ذلك أيضًا أن الرؤية في اللغة هي إدراك الشيء من الجهة المقابلة ، ولا تكون إلا مع وجود العلم .. والله تعالى أعلم بمراده .!

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

1 التعليقات:

Unknown يقول...

شكرا لك جزيل الشكر على هاذا البحث اقدر مجهودك الرائع في تقديم هاذا البحث عن الاعجاز في هذه الاية لقد استفدت كثيرا

إرسال تعليق