قال الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(آل عمران:59) ، فأخبر سبحانه أن مثل عيسى عند الله في الخلق والتكوين كمثل آدم .
ومن الشبهات التي تُثار حول الآية الكريمة قوله تعالى :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ؛ إذ كان وجه الكلام يقتضي أن يقال :( ؛كُنْ فَكان ﴾ لأن قوله تعالى للشيء :﴿ كُنْ ﴾ ، يقتضي أن يكون ذلك الشيء المكوَّن واقعًا في الحال عقِب التكوين ، دون مهلة أو تأخير . وإذا كان كذلك ، فكيف يصح أن يقال :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ؟
وقد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن ذلك ، وذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ حكاية حال ماضية ، ولا قول هناك حقيقة ؛ وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده ؛ إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر ؛ ولهذا قالوا : أصل الكلام :( كُنْ ، فَكَانَ ) . وإنما عبَّر بصيغة المضارع دون صيغة الماضي ، بأن يقال : فَكَانَ ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة في الذهن كما وقعت .
وهذا القول مبنيٌّ على أن ﴿ ثُمَّ ﴾ لترتيب الخبر ، وفي ذلك قال البغوي ما نصُّه :« فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل : معناه : خلقه ، ثم أخبركم : أني قلت له : كن فكان ، من غير ترتيب في الخلق ؛ كما يكون في الولادة ، وهو مثل قول الرجل : أعطيتك اليوم درهمًا ، ثم أعطيتك أمس درهمًا . أي : ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » .
ولكن هذا الذي أجابوا به خلافُ الظاهر ، يأباه نظم الكلام ومعناه ، وبيانه : أن قول الله تعالى للشيء ﴿ كُنْ ﴾ لا يقتضي وقوع ذلك الشيء في الحال ؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت ، أو يكون متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها . وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله سبحانه ؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور ، والذي قضت حكمة الله تعالى ألَّا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به . وهذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(يس: 82) . وذلك الشيء المراد معلومٌ قبل إيجاده ، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه ، وبذلك كان مُقدَّرًا مَقضِيًّا ؛ فإن الله سبحانه يقول ، ويكتب ممَّا يعلمه ما شاء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر :« إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » . وفي صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« كان الله ، ولم يكن شيء معه ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض » . وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة » .
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن- كما قال ابن تيمية- أن المخلوق قبل أن يخلَق ، كان مَعلومًا ، مُخْبَرًا عنه ، مَكتوبًا فيه شيء ، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج ؛ بل هو عدمٌ مَحضٌ ، ونَفْيٌ صِرفٌ . وإذا كان كذلك ، كان الخطاب مُوَجَّهًا إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخُلِق ، ثم كُوِّن ؛ كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( النحل:40 ) . فالذي يُقال له :( كُنْ ﴾ هو الذي يُرادُ . وهو حين يُرادُ قبل أن يُخلَق له ثُبوتٌ وتَميُّزٌ في العلم والتقدير . ولولا ذلك ، لما تميَّز المُرَادُ المَخلوقُ من غيره .
فثبت بذلك أن الله عز وجل ، إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه ، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب بقوله :﴿ كُنْ ﴾ ، ﴿ فَيَكُونُ ﴾. أي : فيوجد ذلك الشيء المُكَوَّنُ عَقِبَ التكوين ، لا معه في الزمان ، ولا عقبه مباشرة ؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة المضارع مسبوقة بفاء التعقيب . وكونُ الفاء للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول لا معه في الزمان ، خلافًا لما قرَّره علماء التفسير . ويبيِّن لك ذلك أنه لو قيل :( كن ، فكان ) ، لكان الأمر والخلق واحدًا ، ولم يتدرج الخلْق ، ولجمد الكون على ما كان عليه منذ انبثاقه إلى الآن ، بلا توسع وتطور ، ولألغي مفهوم الزمن ؛ بل ولَمَا جاء خلق الإنسان متأخرًا في طريق هذا التكوين الذي يمضي بـ﴿ كُنْ ﴾ ، وما يزال ﴿ َيَكُونُ ﴾ ؛ ولهذا أتى سبحانه وتعالى بصيغة الاستقبال مسبوقة بفاء التعقيب ، وكونها للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول لا معه .
أما ﴿ ثُمَّ ﴾ فهي عاطفة ما بعدها على ما قبلها ، وهو قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ، وهي لترتيب المُخْبَر عنه ، لا لترتيب الخبَر ؛ لأن المعنى : ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب ، ثم قال له :﴿ كُنْ ﴾ ، فدل على أن تكوينه بقوله تعالى :﴿ كُنْ ﴾ أرفع رتبة من قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود . والتَّكوين المشار إليه بقوله :﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه على الصفة المقصودة ، بإيجاد الروح فيه ، ونقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية ، وما بين الطورين فترة طويلة من الزمن ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ .
بقي أن تعلم أن ( الفاء ) تفيد التعقيبَ ، والتسبيبَ . فلو قيل :( كن ، فكان ) ، لم تدلَّ الفاء إلا على التسبيب ، وأن القول سببٌ للكون . فلما قال الله عز وجل :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر . وهذا لا يعني استعقابه في الحال من غير مهلة ؛ لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال ، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده به ، وتقصره عليه ؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع ؛ لأنه موضوع لما هو كائن لم ينقطع . وهذا يعني- كما تقدم- أن آدم خُلِقَ بشرًا حيًّا ذا نفس ، ثم صيرته القدرة الربانية الخلاقة إنسانًا عاقلاً واعيًا بنفخ الروح فيه بعد تسويته ، بعد ذلك أمر الله سبحانه الملائكة أن يسجدوا له ، ولم يأمرهم قبل ذلك ، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾(ص: 71- 72)
وعلى هذا الذي ذكرناه يكون الترتيب في الآية الكريمة ترتيبًا زمانيًّا ؛ إذ بينَ خلق آدم بشرًا من تراب ، وجعله إنسانًا بتسويته وإيجاد الروح فيه زمن طويل . وبهذا يُعْلَم أنه لو قيل :( كن ، فكان ) ، لفسد معنى الكلام ، واختل نظمه .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق