أولاً- من الأخطاء اللغوية المزعومة في القرآن الكريم تمثيل جماعة المنافقين بالواحد في قوله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾(البقرة:17) ، حيث كان الظاهر يقتضي أن يقال :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُمْ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) ، وبذلك يتم التطابق بين أجزاء الصورة في المُمَثَّل ، والمُمَثَّل به . وإذا كان كذلك، فكيف يقال :﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ وهو جمع ، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي ﴾ ، وهو مفرد ؟ وقد أجابوا عن ذلك من وجوه : أحدها : أن ( الَّذِي ) هنا مفرد في اللفظ ، ومعناه على الجمع ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فحُمِل أول الكلام على الواحد ، وآخره على الجمع . والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا ، فلما أضاءت ما حولهم ذهب الله بنورهم . وزعم أصحاب هذا القول أنه يجوز في اللغة وضع « الذي » موضع « الذين » ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ ﴾(التوبة: 69) . أي : كالذين خاضوا . والثاني : أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد ؛ وإنما شُبِّهَت قصتُهم بقصة المستوقد . أي : قصة المنافقين كقصة الذي استوقد نارًا ، ومثله قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ﴾(الجمعة: 5) . والثالث : قيل : إنما وُحِّد ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ، و ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾؛ لأنه كان واحدًا في جماعة ، تولَّى إيقاد النار لهم ، فلما ذهب الضوءُ رجع عليهم جميعًا ؛ ولذلك قال :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ . والرابع : ومنهم من قال: إن جواب ﴿ فلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ محذوف للإيجاز ، وجملة ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ استئنافية راجعة إلى بيان حال الممثل . وتقدير الكلام : فلما أضاءت ما حوله - خمدت أو طفئت - ذهب الله بنورهم . ثانيًا- وتحقيق القول في هذه المسألة أن يقال : إن المراد من الآية الكريمة تمثيل المنافقين ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالذي استوقد نارًا ، مع جماعته التي اجتمعت على ضوء ناره التي استوقدها ، فذهب الله تعالى بنور طائفة من تلك الجماعة ؛ لأنها آثرت الظلمة على النور، والضلالة على الهدى .. تلك هي طائفة المنافقين . ويتضح لك ذلك إذا علمت أن التمثيل في الآية الكريمة هو تمثيل صورة بصورة : الأولى : هي المعبَّر عنها بقوله تعالى : ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ . وعناصرها: طائفة المنافقين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين .. والثانية : هي المعبَّر عنها بقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، وعناصرها : الذي استوقد نارًا ، وجماعته ، ومنهم الطائفة التي ذهب الله تعالى بنورها . وعلى هذا الذي ذكرناه يكون التشبيه قائم بين مثل المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ومثل تلك الطائفة المخصوصة التي ذهب الله تعالى بنورها مع مستوقد النار وجماعته ، فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به ، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه ، وقد طُوِيَ ذكرُ كل منهما اعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه ، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه . وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على مثل الطائفة التي ذهب الله بنورها - كما يقتضيه ترتيب الكلام - لأن مثلها هو المقابل لمثل طائفة المنافقين ، فيقال :( مثلهم كمثل الذين اجتمعوا على نار المستوقد ، فلما أضاءت ما حوله ، ذهب الله بنورهم ) ؛ ولكن خولِف هذا النظم لفائدة جليلة ، وهي تقديم ما هو أهم . والأهم هنا هو :﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ؛ لأنه مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا غاية البلاغة والإعجاز، وهو من أساليب القرآن المعجزة ، ونوع عزيز من أنواع البديع ، سمَّاه الأندلسي في شرح البديعية :( الاحتباك ) ، وذكره الزركشي في البرهان ، وسَمَّاه :( الحذف المقابلي ) ، ومثَّل له الكرماني في الغرائب بقوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة:171) ، وقال في تقديره :« مثل الذين كفروا معك يا محمد! كمثل الناعق مع الغنم. فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر ، وله في القرآن نظائر ، وهو أبلغ ما يكون في الكلام ، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها ، وقلَّ من تنبَّه له ، أو نبَّه عليه من أهل فنِّ البلاغة » . وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ تمثيلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله في ذلك :﴿ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ ، وتكون الطائفة التي ذهب الله بنورها من جماعة المستوقد تمثيلاً لطائفة المنافقين . وممَّا يستأنس به هنا ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والتِّرمذيُّ في سننه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِا فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِا » ، فمثَّل عليه الصلاة والسلام نفسه برجل استوقد نارًا ، ومثَّل الناس الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ التي تقع في النار . وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿ اسْتَوْقَدَ ﴾ دالاً على الطلب ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه بمعنى :( أوقد ) . وأما ما احتجُّوا به من أن جعله للطلب يقتضي حذف جملة حتى يَصِحَّ المعنى ، وأن إضاءة النار لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الاتقاد ، فليس بشيء ؛ لأنه مبني على أن معنى ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ : ( الذين استوقدوا نارًا ) ، وأنه مثل للمنافقين . وفرق كبير بين أن يكون ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ مثلاً للمنافق ، وبين أن يكون مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فليس من الصواب في شيء بعد هذا البيان أن يذهب ذاهب إلى أن ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ هو مثل المنافق ، وأنه مفرد في معنى الجمع ، وأن ناره التي استوقدها قد خمدت ، وأن نفاقه كان سببًا في إذهاب نوره . ولا يخفى ما في ذلك من خطر ؛ إذ كيف يُجْعَل منافقًا من أضاء بناره الوجود من حوله ، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين ؟ وكيف يحكم على نوره الذي رفعه لهداية الناس بالذَّهاب ، وعلى ناره التي استوقدها بالخمود .. هذه النار التي أوقدها الله تعالى له ؛ ليهتدي بنور ضوئها الذي ملأ الوجود كلُّ موجود في هذا الوجود ؟! نسأله سبحانه أن ينور قلوبنا ، ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ . ترسل التعليقات على المقالات على الإيميل |
0 التعليقات:
إرسال تعليق