سئل الشيخ أحمد بن تيمية عن الفرق بين معنى قوله تعالى :﴿ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾(التكاثر: 5) ، و ﴿ عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ (التكاثر: 7) ، و ﴿ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ (الواقعة: 95( ، وأي مقام منها أعلى ؟ فأجاب قائلاً :
الحمد لله رب العالمين ! للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة : منها أن يقال :( عِلْمَ الْيَقِينِ ) ما علمه بالسماع والخبر ، والقياس والنظر ، و ( عَيْنَ الْيَقِينِ ) ما شاهده وعاينه بالبصر ، و ( حَقُّ الْيَقِينِ ) ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار .
فالأول : مثل من أخبر أن هناك عسلاً وصدَّق المخبر ، أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده .
والثاني : مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه ، وهذا أعلى ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس المخبر كالمعاين » .
والثالث : مثل من ذاق العسل ووجد طعمه وحلاوته . ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله ؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما عندهم من الذَّوْب والوَجْد ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :« ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار » ، وقال صلى الله عليه وسلم :« ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا ، وبالإسلام دينُا ، وبمحمد رسولاً » .
فالناس فيما يوجد في القلوب ، وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث ؛ وكذلك درجات الناس فيما يخبرون به من أمور الدنيا ، فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به ، فإن شاهده ولم يذقه كان له معاينة له ، فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به ، ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته ؛ فإن العبارة إنما تفيد التمثيل والتقريب . وأما معرفة الحقيقة فلا تحصل بمجرد العبارة إلا لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه وعرفه وخبره ؛ ولهذا يُسَمَّون أهل المعرفة ؛ لأنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر .
وفي الحديث الصحيح :« أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب ، فيما سأله عنه من أمور النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فهل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له ، بعد أن يدخل فيه ؟ قال : لا . قال : وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلب لا يسخطه أحد » .
فالإيمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته ، لا يسخطه القلب ؛ بل يحبه ويرضاه ، فإن له من الحلاوة في القلب واللذة والسرور والبهجة ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه ، والناس متفاوتون في ذوقه ، والفرح والسرور الذي في القلب له من البشاشة ما هو بحسبه ، وإذا خالط القلب لم يسخطه . قال تعالى :
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾(يونس:5)
﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾(الرعد:36)
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾(التوبة: 124) .
فأخبر سبحانه أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن ، والاستبشار هو الفرح والسرور ؛ وذلك لما يجدونه في قلوبهم من الحلاوة واللَّذة والبهجة بما أنزل الله ، واللَّذةُ أبدًا تتبع المحبة ، فمن أحب شيئًا ونال ما أحبه وجد اللَّذة به ، فالذوق هو إدراك المحبوب اللَّذةَ الظاهرة - كالأكل مثلاً - حال الإنسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه ، ثم يذوقه ويتناوله ، فيجد حينئذ لذته وحلاوته ، وكذلك النكاح ، وأمثال ذلك .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق