الأحد، 12 فبراير 2012

سر دخول الواو على جواب : فلما


قال الله تبارك وتعالى في حق يوسف عليه السلام :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ { يوسف : 15 }

أولاً- في تعليقه على هذه الآية الكريمة قال صاحب كتاب ( أكذوبة الإعجاز العلمي ) تحت عنوان ( تعليقات على القرآن ) متسائلاً : « أين جواب لمّا ؟ » ، ثم قال كالمجيب عن سؤاله : « ولو حذفت الواو التي قبل ( أَوْحَيْنَا ) ، لاستقام المعنى » ، وغرضه من ذلك الطعن في بلاغة القرآن الكريم ، وأسلوبه المعجز ؛ وذلك من خلال إثارة هذه الشبهة التي يريد أن يثبت من إثارتها- على حد زعمه- ما في القرآن الكريم من حروف زائدة ، لا يستقيم المعنى إلا على حذفها ، وهذا يتناقض مع ما يوصف به هذا القرآن من بلاغة وبيان وإعجاز .

ثانيًا- وقبل الإجابة عن هذه الشبهة لا بد من أن نستعرض بعض ما قاله علماء النحو والتفسير في تأويل جواب قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ في هذه الآية الكريمة ، المعجزة في نظمها ، وفي معناها . وقد اختلفوا في تأويل هذا الجواب على قولين :

أحدهما : أنه مذكور في الكلام ، فقال الإمام الطبري : قوله : ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوا ، فأدخلت الواو في الجواب .. لأن قوله :﴿ وَأَجْمَعُوا هو الجواب . ومذهب الفرَّاء أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِِلَيْهِ ﴾ . والمعنى :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾ ، ﴿ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾ ، وأدخلت الواو في الجواب .

وهذا القول يتفق تمامًًا مع القول الذي ذكره صاحب كتاب ( أكذوبة الإعجاز العلمي ) ، ولكنه يختلف عنه في الغرض الذي سيق لأجله كل منهما ، وعلى قول الفراء هذا جمهور الكوفيين ، ومن تبعهم من المتأخرين والمعاصرين . وقد وصفه الشيخ محي الدين الدرويش في كتابه ( إعراب القرآن ) بأنه ( قول جيِّد لو ساعدت اللغة على زيادة الواو ) ، واختاره الدكتور فخر الدين قباوة مدرس النحو في جامعة حلب ، على أنه الصواب ، وعلل لزيادة الواو بأنها للتوكيد ، ووجه التوكيد بها- على حد زعمه- أنها قائمة مقام تكرار الجملة مرتين ، متابعًا في ذلك ابن جني ، وابن السرَّاج من قبله .. وبنحو هذا القول قال الدكتور فاضل السامرائي في لمساته البيانية .

والقول الثاني: أن الجواب محذوف ، وأن حذفه من بلاغة القرآن وإعجازه. أما الواو في قوله تعالى :﴿ وَأَجْمَعُوا ، وفي قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا ﴾ فهي واو العطف . وتقدير الكلام على هذا القول : :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ( جعلوه فيه أو عظمت فتنتهم ) وَأَوْحَيْنَا إِِلَيْهِ ﴾ .

واختار هذا القول الدكتور فضل حسن عباس في كتابه ( لطائف المنان في دعوى الزيادة في القرآن ) ، وعدَّ القول بزيادة هذه الواو خروجًا عن الصواب ، وجرأة على كتاب الله ، وابتعادًا بالآية الكريمة وبالنظم المحكم عن المعنى المراد ، ثم ذكر أن حذف الجواب في مثل هذه المواضع لم يأت عبثًا ؛ وإنما هو أمر يقصده القرآن قصدًا .

ثالثًا- وفي الإجابة عن هذه المسألة الخلافية أقول بعون الله وتوفيقه : القول بزيادة ( الواو ) ، والقول بحذف الجواب زعم باطل ، وعبث بكلام الله سبحانه وتعالى ، وكلامه سبحانه منزَّهٌ من العبث والزيادة . وإذا كان في القول بزيادة هذه الواو في الآية الكريمة خروجٌ عن الصواب وجرأة على كتاب الله وابتعادٌ بها وبالنظم المحكم عن المعنى المراد- كما قال الدكتور فضل حسن عباس- فإن القول بحذف الجواب فيها لا يقلُّ منه جرأة على كتاب الله تعالى ، وهو الخروج عن الصواب بعينه ، والابتعاد بالآية الكريمة وبالنظم المحكم عن المعنى المراد ؛ وإلا فما معنى أن يقال في تقدير الآية الكريمة : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ( جعلوه فيه أو عظمت فتنتهم ) وأوحينا إليه .. ألا ترى أن كلا التقديرين لا يليق ببلاغة القرآن العظيم ، ويخرجه عن كونه كتابًا معجزًا في نظمه وفي معناه ؟! ثم إن هذا ليس من مواضع حذف الجواب في القرآن ، حتى يقاس عليها .

والحق الذي ينبغي أن يقال : هو أن المعنى المراد من الآية الكريمة ما نصَّ عليه الفرَّاء ، وأورده صاحب كتاب ( أكذوبة الإعجاز العلمي ) ؛ ولكن ليس على زيادة هذه الواو - كما زعم هو وغيره من المغرمين بالقول بالزيادة في القرآن الكريم - والقرآن منزَّه منها ، ومن كل قول يخل بنظمه ومعناه ؛ فالنص القرآني نصٌّ محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فلا يزاد عليه شيء ، ولا ينقص منه شيء باسم البلاغة والإعجاز .

ويقولون :« إذا عُرِفَ السبب ، بطل العجب » . والسبب في هذا الخلاف هو ما قعَّده النحاة من قواعد تمنع من دخول الواو في جواب الشرط . فلما اعترضتهم نصوص من القرآن الكريم وكلام العرب ، جاء فيها جواب الشرط مقترنًا بالواو ، اختلفوا في تأويلها على النحو الذي ذكرناه ، دون أن يتعِبوا أنفسهم في البحث عن سرِّ وجودها وفائدته في التركيب اللغوي ، فلا شيء أسهل على المرء من أن يقول : هذا الحرف زائد وأنه زيد للتوكيد . أو يقول : الجواب هنا محذوف وأن حذفه من البلاغة والإعجاز ، وكلا القولين لا يقوم على حجة أو برهان ، فضلاً عن أنه مخالف لنص القرآن الكريم .

فالقضية- إذًا- ليست قضية بلاغة وإعجاز ؛ وإنما هي قضية قاعدة نحوية ، وضعها النحاة ، وتبعهم فيها المتأخرون ، والمعاصرون .. ولو كانت قضية بلاغة وإعجاز ، لما سمحوا لأنفسهم أن يقولوا بزيادة كثير من الحروف في القرآن الكريم بحجة التوكيد ، وهم لا يقولون ذلك إلا في المواضع التي يتعذر عليهم فيها تقدير كلام محذوف ؛ كقولهم بزيادة ( لا ) في قوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾(الأعراف:12) ، ونحو ذلك كثير مما لا يخفى على المشتغلين بعلم النحو والبلاغة والتفسير .

ونعود بعد هذا إلى الآية الكريمة ، ومعناها عند من ﴿ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ : أن الله تعالى لما أراد أن يطمئن يوسف- عليه السلام- ويؤنسه في وحشة البئر ، بشَّره بما سيؤول إليه أمره . وقد تم ذلك في الوقت الذي ذهب به إخوته ، وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، في هذا الوقت الذي تم فيه الإجماع من الإخوة على إلقاء أخيهم في غيابة الجب جاءته البشرى من ربه عز وجل :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . والواو الجامعة في قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا ﴾ هي التي دلت على هذا المعنى ؛ إذ جمعت بين وقوع حدثين معًا : حدث الإجماع ، وحدث الإيحاء ، والدليل على ذلك :

1- قوله تعالى في آخر السورة :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ(يوسف:102) . فقوله :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ إشارة إلى قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ . وقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ إشارة إلى قوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .

قال الفخر الرازي :« واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام ، لما ألقي في الجب ، قال تعالى :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا ؛ وذلك يدل ظاهرًا على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت . وعندنا الإرهاص جائز ، فلا يبعد أن يقال : إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق ؛ بل لأجل تقوية قلبه ، وإزالة الحزن عن صدره ، ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام » .

وأضاف الفخر الرازي قائلاً :« وفي المراد من قوله تعالى :﴿ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قولان :

الأول : المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف : أنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم ، وهم لا يشعرون في ذلك الوقت أنك يوسف . والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ، ويصير مستوليًا عليهم ، ويصيرون تحت قهره وقدرته .

والثاني : أن المراد : إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال ، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه . والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه ، فربما ازداد حسدهم ، فكانوا يقصدون قتله » .

2- قوله تعالى في آخر سورة يوسف :﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾(يوسف:70) . فجواب قوله تعالى هنا :﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ هو قوله تعالى :﴿ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، وهذا لا يختلف فيه اثنان .

قال الفرَّاء في تفسير هذه الآية الكريمة :« وربما أدخلت العرب في مثلها الواو ، وهي جواب على حالها ؛ كقوله في أول السورة :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾ ، والمعنى والله أعلم : أوحينا إليه ، وهي في قراءة عبد الله :﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، وفي قراءتنا بغير واو . ومثله في الكلام :( لما أتاني ، وأثب عليه ) ؛ وكأنه قال : لما أتاني ، وثبت عليه . وربما أدخلت العرب في جواب ( لما ) : ( لكن ) ، فيقول الرجل : ( لما شتمني ، لكن أثب عليه ) ؛ فكأنه استأنف الكلام استئنافًا ، وتوهم أن ما قبله فيه جوابه » .

فثبت بذلك أن العرب تدخل الواو في جواب ( فَلَمَّا ) لإرادة الجمع بين حدوث فعل الشرط وجوابه معًا في وقت واحد ؛ ألا ترى كيف جمعت هذه الواو في قولهم :( لما أتاني ، وأثب عليه ) بين وقوع الإتيان ، وقوع الوثوب في وقت واحد ؟! والقرآن الكريم يجري في ذلك على لغة العرب . وبهذا يظهر لنا سر الإعجاز البياني في هذه الواو التي قال قوم عنها : إنها زائدة ، وقال آخرون : إنها عاطفة ، وهي ليست بهذا ، ولا ذاك . والشواهد من القرآن الكريم وكلام العرب هي الفصل في ذلك .. وسبحان الذي خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، له الحمد ، وله المنة .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق