الأحد، 12 فبراير 2012

سر رفع السموات بغير عمد ترونها


قال الله عز وجل :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (يوسف:105) . ومن أعظم هذه الآيات التي تدل على عظمة الله وجلاله وأن ما أنزله من الوحي هو الحق ، رفع السموات بعَمَد غير مرئية ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾(الرعد:2) .

والعَمَد هي الدعائم ؛ وهو اسم جمع عند الأكثرين ، ويدل على الكثرة . والمفرد : عِماد . أو : عَمود . وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب :( عُمُدٍ ) ، بضمتين ، جمع : عِماد ؛ كشهاب وشهب . أو : جمع : عَمود ، كرسول ورسل . ويجمعان في القلة على : أعمدة .. واختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى :﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ على قولين :

أحدهما : أنها مرفوعة بغير عمد مرئية . قاله قتادة ، ومجاهد ، وإياس بن معاوية ، وغيرهم . قالوا : وذلك دليل على وجود الصانع الحكيم ، تعالى شأنه .

والثاني : أنها مرفوعة بعمد ؛ ولكنها لا تُرَى . قال ابن عباس رضي الله عنهما :« يقول : ترونها بغير عمد . ويقال : بعمد لا ترونها » .

وجمهور المفسرين على أن السموات لا عمد لها ألبتة . ولو كان لها عمد ، لاحتاجت تلك العمد إلى عمد ، ويتسلسل الأمر . قالوا : فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية ، بدليل قوله تعالى :﴿ وََيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (الحج:65) ، ونحو هذا من الآيات .

وقد انبنى على هذا الخلاف بينهم خلاف آخر في موضع جملة ( تَرَوْنَهَا ) من الإعراب ، فذكروا فيها ثلاثة أقوال :

الأول : أنها استئنافية ، جيء بها للاستشهاد على كون السموات مرفوعة بغير عمد ؛ كأنه قيل : ما الدليل على ذلك ؟ فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد . قالوا : فهو كقولك : أنا بلا سيف ، ولا رمح تراني . فالضمير في قوله تعالى :﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ للعمد .

والثاني : أنها حالية من السموات . أي : رفعها مرئيَّةً لكم بغير عمد . فالضمير في قوله تعالى : ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ للسموات .

والثالث : أنها صفة للعمد . أي : بغير عمد مرئية . فالضمير للعمد ، واستدل لذلك بقراءة أبي بن كعب :﴿ تَرَوْنَهُ ﴾ ، بعوْد الضمير مذكرًا على لفظ : عمد .

فعلى تقدير الاستئنافية والحالية تكون السموات مرفوعة بغير عمد . وأما على تقدير الوصفية فيحتمل توجُّه النفي إلى الصفة والموصوف ، فيكون حكم السموات كحكمها في التقدير الأول والثاني ؛ لأنها لو كان لها عمد ، لكانت مرئية . ويحتمل توجه النفي إلى الصفة دون الموصوف ، فيفيد أن للسموات عَمَدًا ؛ ولكنها غير مرئية ، وهذا القول هو الصواب ، وبيانه :

أولاً- أن نفي الذات الموصوفة بأداة من أدوات النفي قد يكون نفيًا للصفة دون الذات ، وقد يكون نفيًا للذات والصفة معًا ، فمن الأول قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ (الأنبياء:8) . أي : بل هم جسد يأكلونه . فالنفي هنا هو للصفة دون الذات . ومن الثاني قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ (البقرة:273) . أي : لا سؤال لهم أصلاً ، فلا يحصل منهم إلحاف ؛ وهو نفي للذات والصفة معًا . ويسمَّى هذا النوع عند أهل البديع :« نَفْيُ الشيء بإيجابه » ، وعبارة ابن رشيق في تفسيره :« أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء ، وباطنه نفيه ، بأن ينفَى ما هو من سببه ، كوصفه ، وهو المنفي في الباطن » . وقال غيره :« أن ينفى الشيءُ مقيدًا ، والمراد نفيه مطلقًا ، مبالغة في النفي وتأكيدًا له » .

ثانيًا- لفظ ( غَيْر ) موضوع- في الأصل- للمغايرة ، وهو مستلزم للنفي ، ومعناه عند الجمهور كمعنى ( لَا ) النافية ؛ إلا أن بينهما فرقًا من وجهين :

أحدهما : أن ( غَيْر ) اسم ، و( لَا ) أداة .

والثاني : أن ( غَيْر ) معناها : المغايرة بين الشيئين ، و( لَا ) معناها : النفي المجرد .

ويتضح لك هذا الفرق بينهما أنك إذا قلت :« أخذت فلانًا بذنبٍ » ، فقولك : ( ذنب ) هو الذي أخذته به ، وإذا قلت :« أخذته بلا ذنب » ، فقولك : ( لا ذنب ) هو الذي أخذته به ، وهو بمنزلة ( ذنب ) في الإثبات .

فإذا قلت :« أخذته بغير ذنب » ، فـ( غَيْر ) هو الذي أخذته به ، و( ذَنْب ) لم تأخذه به ؛ لأن لفظ ( غَيْر ) مسلوب منه ما أضيف إليه ، وما أضيف إليه هنا هو ( ذَنْبٌ ) ، فهو المسلوب منه .

ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران:112) ، فـ( غَيْر ) هو الذي قتلوا به . وأما ( حَق ) فلم يقتلوا به ؛ وإنما أضيف لفظ ( غَيْر ) إليه ؛ لأنه اسم مبهم ، لا يفهم معناه إلا بالإضافة . ولما كان مدلول ( غَيْر ) المغايرة ، كان معنى ( بِغَيْرِ حَقٍّ ) : بباطل .

ثالثًا- النفي بـ( غَيْرٍ ) يرد في اللغة على أوجه ؛ منها :

أن يكون متناولاً للذات ، إذا كان غير موصوف ، كقوله تعالى :﴿ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران:112) ، وقوله :﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ (الحج:40) . فإذا كانت الذات موصوفة ، كان النفي بـ( غَيْر ) واقعًا على الصفة دون الذات ، كما في قوله تعالى :﴿ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (الرعد:2) ؛ فالمنفي بـ( غَيْر ) هنا هو الرؤية ، لا العمد . وعليه تكون السموات مرفوعة بعمد لا تُرَى .. فتأمل ذلك ، فإنه من الأسرار الدقيقة في البيان القرآني المعجز !!!

رابعًا- العمد غير المرئية في العلوم الكونية :


تشير الدراسات الكونية إلى وجود قوى مستترة ‏,‏ في اللبنات الأولية للمادة ، وفي كل من الذرات والجزيئات ، وفي كافة أجرام السماء ‏,‏ تحكم بناء الكون ، وتمسك بأطرافه إلى أن يشاء الله تعالى ، فيدمره ، ويعيد خلق غيره من جديد ‏.‏

ومن القوى التي تعرف عليها العلماء في كل من الأرض والسماء أربع صور ‏,‏ يعتقد بأنها أوجه متعددة لقوة عظمى واحدة ، تسري في مختلف جنبات الكون ؛ لتربطه برباط وثيق ، وإلا لانفرط عقده ، وهذه القوى هي ‏:‏

1- القوة النووية الشديدة . 2- القوة النووية الضعيفة . 3- القوة الكهربائية المغناطيسية ‏(‏ الكهرومغناطيسية‏ ) . 4- قوة الجاذبية . ‏‏

هذه القوى الأربع هي الدعائم الخفية التي يقوم عليها بناء السموات والأرض‏ ,‏ وقد أدركها العلماء من خلال آثارها الظاهرة والخفية في كل أشياء الكون المدركة . وتعتبر قوة الجاذبية على المدى القصير أضعف القوى المعروفة لنا‏ ,‏ وتساوي : (‏10‏- 39 )‏ من القوة النووية الشديدة‏ ؛ ولكن على المدى الطويل تصبح القوة العظمى في الكون ‏,‏ نظرًا لطبيعتها التراكمية ، فتمسك بكافة أجرام السماء‏‏ وبمختلف تجمعاتها ‏.‏ ولولا هذا الرباط الحاكم الذي أودعه الله‏‏ تعالى في الأرض وفي أجرام السماء ، ما كانت الأرض ، ولا كانت السماء . ولو زال هذا الرباط ، لانفرط عقد الكون وانهارت مكوناته .

ولا يزال أهل العلم يبحثون عن موجات الجاذبية المنتشرة في أرجاء الكون كله ‏,‏ منطلقة بسرعة الضوء دون أن ترى ‏.‏ ويفترض وجود هذه القوة على هيئة جسيمات خاصة في داخل الذرة لم تكتشف بعد ، يطلق عليها اسم الجسيم الجاذب ، أو ‏(‏ الجرافيتون ‏( Graviton .

منذ العقدين الأولين من القرن العشرين تنادى العلماء بوجود موجات للجاذبية من الإشعاع التجاذبي ، تسري في كافة أجزاء الكون ؛ وذلك على أساس أنه بتحرك جسيمات مشحونة بالكهرباء ، مثل الإليكترونات والبروتونات الموجودة في ذرات العناصر والمركبات ، فإن هذه الجسيمات تكون مصحوبة في حركتها بإشعاعات من الموجات الكهرومغناطيسية .

وقياسًا على ذلك فإن الجسيمات غير المشحونة ‏(‏ مثل النيوترونات‏ )‏ تكون مصحوبة في حركتها بموجات الجاذبية ‏,‏ ويعكف علماء الفيزياء اليوم على محاولة قياس تلك الأمواج ‏,‏ والبحث عن حاملها من جسيمات أولية في بناء المادة ، يحتمل وجوده في داخل ذرات العناصر والمركبات ‏,‏ واقترحوا له اسم : الجاذب . أو : الجرافيتون . وتوقعوا أنه يتحرك بسرعة الضوء‏ ,‏ وانطلاقا من ذلك تصوروا أن موجات الجاذبية تسبح في الكون ؛ لتربط كافة أجزائه برباط وثيق من نواة الذرة إلى المجرة العظمى وتجمعاتها إلى كل الكون ‏,‏ وأن هذه الموجات التجاذبية هي من السنن الأولى التي أودعها الله تعالى مادة الكون وكل المكان والزمان‏!!‏

وهنا تجب التفرقة بين قوة الجاذبية ( TheGravitationalForce )‏، وموجات الجاذبية TheGravitationalWaves ) ( ، فبينما الأولى تمثل قوة الجذب للمادة الداخلة في تركيب جسم ما ، حين تتبادل الجذب مع جسم آخر ‏,‏ فإن الثانية هي أثر لقوة الجاذبية‏ .‏ وقد أشارت نظرية النسبية العامة إلى موجات الجاذبية الكونية على أنها رابط بين المكان والزمان على هيئة موجات ، تؤثر في حقول الجاذبية في الكون ، كما تؤثر على الأجرام السماوية التي تقابلها . وقد بذلت محاولات كثيرة لاستكشاف موجات الجاذبية القادمة إلينا من خارج مجموعتنا الشمسية ؛ ولكنها لم تكلل بعد بالنجاح ‏.

والجاذبية وموجاتها التي قامت بها السماوات والأرض منذ بدء خلقهما‏ ,‏ ستكون سببًا في هدم هذا البناء عندما يأذن الله‏‏ تعالى‏ بتوقف عملية توسع الكون ، فتبدأ الجاذبية وموجاتها في العمل علي انكماش الكون ، وإعادة جمع كافة مكوناته على هيئة جرم واحد، شبيه بالجرم الابتدائي الذي بدأ به خلق الكون . وسبحان القائل ‏:‏﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الأنبياء‏:104) .‏

خامسًا- نظرية الخيوط العظمى وتماسك الكون :

في محاولة لجمع القوى الأربع المعروفة في الكون ‏(‏ القوة النووية الشديدة والقوى النووية الضعيفة ‏,‏ والقوة الكهرومغناطيسية ‏,‏ وقوة الجاذبية ‏)‏ في صورة واحدة للقوة اقترح علماء الفيزياء ما يعرف باسم نظرية الخيوط العظمى ‏ (TheTheoryOfSuperstrings)‏، والتي تفترض أن الوحدات البانية للبنات الأولية للمادة من مثل : ( الكواركات ، والفوتونات‏ ,‏ والإليكترونات ، وغيرها ) ، ‏تتكون من خيوط طولية في حدود (‏10‏- 35‏ ) من المتر ‏تلتف حول ذواتها ، على هيئة الزنبرك المتناهي في ضآلة الحجم ‏,‏ فتبدو كما لو كانت نقاطًا ، أو جسيمات‏ ,‏ وهي ليست كذلك‏ .‏

وتفيد النظرية في التغلب على الصعوبات التي تواجهها الدراسات النظرية في التعامل مع مثل تلك الأبعاد شديدة التضاؤل ، حيث تتضح الحاجة إلى فيزياء كمية غير موجودة حاليًا ‏,‏ ويمكن تمثيل حركة الجسيمات في هذه الحالة بموجات تتحرك بطول الخيط .‏ كذلك يمكن تمثيل انشطار تلك الجسيمات واندماجها مع بعضها البعض بانقسام تلك الخيوط والتحامها ‏.‏

وتقترح النظرية وجود مادة خفية (ShadowMatter)‏يمكنها أن تتعامل مع المادة العادية عبر الجاذبية ؛ لتجعل من كل شيء في الكون ‏(‏ من نواة الذرة إلى المجرة العظمى ، وتجمعاتها المختلفة إلي كل السماء ‏)‏ بناء شديد الإحكام ‏,‏ قويّ الترابط‏ .‏ وقد تكون هذه المادة الخفية هي ما يسمَّى باسم المادة الداكنة (DarkMatter)، والتي يمكن أن تعوض الكتل الناقصة في حسابات الجزء المدرك من الكون ‏,‏ وقد تكون من القوى الرابطة له ‏.‏

وتفسر النظرية جميع العلاقات المعروفة بين اللبنات الأولية للمادة ‏,‏ وبين كافة القوى المعروفة في الجزء المدرك من الكون ‏.‏ وتفترض النظرية أن اللبنات الأولية للمادة ما هي إلا طرق مختلفة لتذبذب تلك الخيوط العظمى في كون ذي أحد عشر بعدًا‏ ،‏ ومن ثم ، إذا كانت النظرية النسبية قد تحدثت عن كون منحن ‏,‏ منحنية فيه الأبعاد المكانية الثلاثة ‏(‏ الطول ‏,‏ العرض ‏,‏ والارتفاع ‏)‏ في بعد رابع هو الزمن‏ ,‏ فإن نظرية الخيوط العظمى تتعامل مع كون ذي أحد عشر بعدًا ، منها سبعة أبعاد مطوية على هيئة لفائف الخيوط العظمى التي لم يتمكن العلماء بعد من إدراكها .

وسبحان القائل ‏:‏﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ (الرعد:2) ، والله قد أنزل هذه الحقيقة الكونية على خاتم أنبيائه ورسله‏ صلى الله عليه وسلم‏‏ من قبل أربعة عشر قرنًا ‏,‏ ولا يمكن لعاقل أن ينسبها إلى مصدر غير الله الخالق ‏.

بقلم : محمد إسماعيل عتوك


الفقرتان : الرابعة والخامسة من هذا المقال منقولتان بتصرف من مقال للدكتور زغلول النجار .

0 التعليقات:

إرسال تعليق