الأحد، 12 فبراير 2012

وامسحوا برؤوسكم - سر دخول الباء


قال الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ (المائدة:6) ، فأتى سبحانه بعل المسح مُعدًّى إلى الرؤوس بالباء هكذا : ، وكان وجه الكلام أن يقال :( وامسحوا رؤوسكم ) بطرح الباء .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما سرُّ دخول هذه الباء على الرؤوس ، وما مدلولها ؟ وهل وجودها وعدمه سواء ؟ وفي الإجابة عن ذلك أقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- الفعل ( مسح ) مشتق – في عرف اللغة - من ( المسح ) ، وهو إمرار الشيء على الشيء بسطًا بأداة أو نحوها ، والأصل فيه أن يَعدَّى إلى المفعول بنفسه ؛ كقولك : مسح بيده رأس اليتيم ، ومنه قول الشاعر :

مسحت بأطراف الأَكُفِّ مدامعي *** فصار خِضابًا بالأَكُفِّ كما ترى

وقد يُعدَّى إلى المفعول بالباء ؛ كقولك : مسح برأس اليتيم ، ومنه قول الشاعر لعلي بن زياد :

يا بن الذي مسح النبي برأسه *** ودعا له بالخير عند المسجد

وعلى هذا ورد قوله تعالى :﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (ص:33) . قال ابن عباس- رضي الله عنهما والزهري :« مَسحُ سليمانُ صلى الله عليه وسلم بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف ؛ بل بيده تكريمًا لها ومحبة » . وهذا هو المرجح في تفسير هذه الآية .. والله تعالى أعلم .

وأما المسح - في تعارف الشرع - فهو إمرار اليد المبتلة على الأعضاء لإزالة الأثر عنها ، والله تعالى أمر في الوضوء بالمسح بالرؤوس والأرجل إلى الكعبين بالماء ، فقال تعالى :﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وأمر في التيمم بالمسح بالوجه والأيدي بالصعيد ، فقال سبحانه :﴿ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾ .

واتفق العلماء على وجوب استيعاب مسح الوجوه والأيدي في التيمم ؛ ولكنهم اختلفوا في القدر الواجب مسحه من الرأس في الوضوء . قال أبو حيان في البحر المحيط :« فروي عن ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن سلمة بن الأكوع : أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن إبراهيم والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها . وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك : وجوب التعميم . والمشهور من مذهب الشافعي : وجوب أدنى ما يطلق عليه اسم المسح ، ومشهور مذهب أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع » .

وقال الزمخشريُّ :« أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية ، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح ، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما روي : أنه مسح على ناصيته ، وقدر الناصية بربع الرأس » .

وهذا الخلاف بينهم مبني على اختلافهم في مدلول الباء الداخلة على الرؤوس في قوله :﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ ؛ فذهب فريق منهم إلى أنها زائدة مؤكدة ، والمعنى : امسحوا رؤوسكم . وذهب فريق آخر إلى أنها للتبعيض ، والمعنى : امسحوا بعض رؤوسكم . وذهب فريق ثالث إلى أنها للإلصاق ، والمعنى : ألصقوا المسح برؤوسكم .

فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله أخذًا بالاحتياط ، وحجته قوله تعالى في التيمم :﴿ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾ ؛ فكما لا يجزىء في التيمم مسح بعض الوجه اتفاقًا ، فكذلك لا يجزىء في الوضوء مسح بعض الرأس .

ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعض الرأس أخذًا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث مسح على ناصيته ؛ كما في حديث المغيرة بن شُعْبَةَ :« أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ، فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه » ، وقدروا الناصية بربع الرأس .

ومن رآها للإلصاق لم يوجب التعميم ؛ بل رأى أنه يكفي مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس أخذًا باليقين ؛ فإن قولك : مسحت برأس اليتيم ، يقتضي مسح جزء من الرأس ، ومسح الرأس كله . قال الزمخشري :« المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسحُ بعضه ومستوفيُه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه » .

ثانيًا- أما كون ( الباء زائدة ) فهو ظاهر مذهب سيبويه ، فإنه حكى :« خشنت صدره وبصدره . ومسحت رأسه وبرأسه » ، والمعنى واحد . وقال الفرَّاءُ :« تقول العرب : خذ الخطام وخذ بالخطام . وخذ برأسه ورأسه » . فعلى قول الفراء تكون ( الباء ) صلة ، دخولها في الكلام ، وخروجها منه سواء ، وتعليل البصريين لزيادتها بأنها للتوكيد ليس بشيء .

وعلل بعضهم لزيادتها بأنها إنما زيدت ؛ لتفيد معنى بديعًا ، وهو أن الغسل- لغة- يقتضي مغسولاً به ، والمسح- لغة- لا يقتضي ممسوحًا به . فلو قال : ( وامسحوا رؤوسكم ) ، لأجزأ المسح باليد إمرارًا من غير شيء على الرأس ، فدخلت الباء ؛ لتفيد ممسوحًا به ، وهو الماء ؛ فكأنه قال : وامسحوا برؤوسكم الماء .. وهذا التعليل مردود بقوله تعالى :﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (ص:33) ؛ فإن ( الباء ) دخلت على ( السوق ) ، ولم تفد ممسوحًا به . فلو كان المسح بدخول ( الباء ) يقتضي ممسوحًا به ، لاقتضاه هنا .

وأما كون ( الباء للتبعيض ) فينكره أكثر النحاة ، حتى قال العُكْبُريُّ :« وقال من لا خبرة له بالعربية : الباء في مثل هذا للتبعيض ، وليس بشيء يعرفه أهل العلم » . ومنهم من نسبه إلى أصحاب الشافعي . قال ابن جني :« وأما ما يحكيه أصحاب الشافعي من أن الباء للتبعيض فشيء لا يعرفه أصحابنا ، ولا ورد به ثَبِتٌ » . ومنهم من نقل عن ابن هشام أنه نسبه إلى الشافعي في شرح قصيدة كعب بن زهير ، والذي حققه السيوطي أن الباء عند الشافعي للإلصاق ، وأنكر أن تكون عنده للتبعيض ، وقال :« هي للإلصاق . أي : ألصقوا المسح برؤوسكم ، وهو يصدق ببعض شعره ، وبه تمسك الشافعي » ، ونقل عبارة ( الأم للشافعي ) ، وقال في آخرها :« وليس فيه أن الباء للتبعيض ، كما ظن كثير من الناس » .

وأما ابن هشام فقد ذكر في مغني اللبيب من معاني الباء : التبعيض ، وحكاه عن الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك والكوفيين ، ثم قال : « قيل : ومنه :﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ » ، ثم عقَّب عليه بقوله :« والظاهر أن الباء للإلصاق ، أو للاستعانة ، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا ؛ فإن ( مسح ) يتعدى إلى المُزَال عنه بنفسه ، والى المُزيل بـ( الباء ) ، والأصل : امسحوا رؤوسكم بالماء ، فقلب معمول : مسح » .

وعلى هذا القول يكون في ( الباء ) قولاً رابعًا ، وهو كونها للاستعانة ، وهي التي تدخل على آلة الفعل ؛ كما في قولك :( مسحت بالمنديل يدي ) ، وحكى الرازي عن الشافعي :« أنه لو قيل : مسحت المنديل ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية . أما لو قال : مسحت يدي بالمنديل ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل » . وحملوا على ذلك قول الله تعالى :﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ ، فقالوا : إنه يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء الرأس . وعليه يكون ( الرأس ) آلة لمسح تلك اليدين ، ويكون الفَرْضُ - إذ ذاك - ليس المسح بالرأس ؛ بل يكون الفَرْضُ مسح اليدين بالرأس ، ويكون في اليدين فرضان : أحدهما : غسل جميعهما إلى المرافق ، والآخر : مسح بللهما بالرأس . ويلزم عليه أن يكون المأمور به هو مسح الماء بجزء من الرأس المقدَّر بالربع ؛ كما في قول من جعل الباء للتبعيض .

ثالثًا- وتحقيق القول في هذه المسألة الخلافية : أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه قائلاً : امسح رأسك ، كان المأمور ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مُسَمَّى المسح ، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس . وهكذا سائر الأفعال المتعدية ؛ نحو : اضرب زيدًا ، أو اطعنه ، أو ارجمه ، فإنه يوجد المعنى العربي المبين بوقوع الضرب ، أو الطعن ، أو الرجم على عضو من أعضائه . ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها : إنه لا يكون ضاربًا ، أو راجمًا ، أو طاعنًا إلا بإيقاع الضرب والرجم والطعن على كل جزء من أجزاء زيد .

فإذا قلت : امسح برأس زيد ، فقد دلَّت ( الباء ) على معنى زائد لم يكن موجودَا قبل دخولها . ومن هنا لا يجوز أن يكون :( امسح رأس زيد ) ، و( امسح برأسه ) ، بمعنى واحد ، وأن تكون ( الباء ) في الثاني زائدة ، أو للتبعيض ، أو للآلة ؛ فالقول بالزيادة فضل من القول زائد لا يلتفت إليه ، وأما القول بالتبعيض فمفهوم من الكلام قبل دخول الباء ، وأما القول بأن الباء للآلة فلا يصح ؛ لأنه لا يجوز أن يجعل الرأس آلة للمسح ، أو أن ينزَّل- على حد قول الزرقاني- منزلة الآلة ، خلافًا لما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فيفيد - كما قال - وجوب مسح ربع الرأس .

فإذا عرفت هذا ، تبين لك أن ( الباء ) في قوله تعالى :﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ ليست بزائدة ، أو للتبعيض ، أو للآلة ؛ وإنما هي للإلصاق ، جيء بها لتدل على إلصاق المسح بالرأس ، وإلصاق المسح بالرأس يقتضي مسح الرأس جميعه ، خلافًا لمن قال : إنها تدل على مسح بعضه ؛ فليس من يمسح بعض الرأس يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ؛ إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه ، وقد بينت السنة أن الرأس يمسح مرة واحدة بكيفية معينة ؛ وذلك بأن يبدأ من مقدم الرأس بيديه ، ثم يذهب بهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى حيث بدأ مرة واحدة .

والدليل على وجوب تعميم مسح الرأس في الوضوء قوله تعالى في التيمم :﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ﴾ ، ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقًا . فلما لم يجز الاقتصار في التيمم على مسح بعض الوجه دون بعض ، فكذلك لا يجوز الاقتصار في الوضوء على مسح بعض الرأس دون بعض .. والله تعالى أعلم بمراده وأسرار بيانه !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق