قال تعالى عز وجل :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾(البقرة:23-24) .
أولاً- هاتان الآيتان الكريمتان من سورة البقرة ، وهي سورة مدنية ، والغرض منها أن الله جل وعلا ، بعد أن قرَّر في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم في قوله تعالى :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء:88) ، وتحدَّى الخلق عامة ، والمكذبين خاصة أن يأتوا :﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس:37) ، و﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود:13) ، و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور:34) ، أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة ، فأمر الناس جميعهم عامة ، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب ومشركيهم خاصة أن يأتوا بـ( سورة واحدة ) من هذا المِثل للقرآن ، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة ، أنهم لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ، فليتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ، أعدت للكافرين ، من أمثالهم .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال ، هي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية لله الواحد القهار . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة ؛ فهو أولاً : تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ، دلالة على أن مقام العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ، ويدعى به كذلك . وهو ثانيًا : تقرير لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده , واطِّراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي- وهو أعلى مقام- يدعَى بالعبودية لله الخالق , ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام .
وقيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة : أنها نزلت في جميع الكفار . وروي عن ابن عباس ومقاتل : أنها نزلت في اليهود . وسبب ذلك أنهم قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي ، وإنا لفي شك منه .. والأظهر هو القول الأول .
ومناسبة الآية لما قبلها : أن الله عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الألوهية والوحدانية ، شرع سبحانه في تقرير النبوة ، واحتج بهذه الآية الكريمة على صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وصحة ما جاء به من القرآن ، وأنه من عنده وأنه كلامه الذي يتكلم به ، وأنه ليس من صنعة البشر ، ولا من كلامهم .
وتقرير الألوهية والوحدانية ، وتقرير النبوة توأمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر . فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز ، إلا أن الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة .
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ تنبيه على أن القرآن الذي نزَّله الله عز وجل على عبده ، لا رَيْبَ فيه ، كما قرَّر ذلك سبحانه في أول السورة :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة:2) ، فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل الاستغراق . وتنكير الرَّيْب ، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً ، لسطوع ما يدفعه ، وقوة ما يزيله ، ومثله في ذلك قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ﴾(الحج:5)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم بالشيء أمرًا مَّا ، فينكشف عمَّا تتوَّهمه . وحقيقته : قَلَقُ النفس . يقال : رابني الشيء وأرابني . وقيل : دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك ؛ فإن الشك ريبة ، وإن الصدق طمأنينة . والرِّيبةُ : اسم من الرَّيْب . والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة . وقد أثبت الله تعالى وقوع الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين ، فقال سبحانه :﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾(الحديد:14) ، ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب ، ومن المؤمنين ، فقال :﴿ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾(المدّثر:31) . وقوله تعالى :﴿ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾(الطور:30) ، سمَّاه رَيْبًا ، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه ؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله ، فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون ، من جهة وقته ، لا من جهة كونه .
وقال تعالى هنا :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:23) ، وقال في يونس : ﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾(يونس:104) ، فاستعمل الرَّيْب في الأول ، والشَّكَّ في الثاني . والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء . أما الرَّيْبُ فهو شَكٌّ بتهمة ، وهو من قولهم : رَابَ ز أي : حقَّق التهمة . قال الشاعر :
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ *** إِنما الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون ، مع شكِّهم في القرآن ، يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن وأعانه عليه قوم آخرون ، نفى الله تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة:2) ، ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:23) .
وأما قوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾(يونس:104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب ، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة ، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة .
فإن قيل : كيف نفى سبحانه أن يكون في القرآن رَيْبٌ ، ثم خاطب المشركين بقوله :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:23) ؟ فالجواب : أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن ، وبين نفي الرَّيب عن القرآن ؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة . أي : ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ ، ولا يكون فيه ، ولا يدل على نفي الارتياب فيه ؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين .
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ ، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه . فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون ، والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم . والحالُّ في قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ مَنفيُّ ، والمحلُّ هو الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن ، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن .
ووجهُ الإتيان بـ( فِيْ ) الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب ، وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة ( فِيْ ) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب ؛ كقولهم :« هو في نعمة » .
وفي تعدي الفعل ( نَزَّلَ ) بـ( عَلَى ) إشارة إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه ، وتمكُّنه منه ، وأنه قد صار كالملابس له ، بخلاف تعديه بـ( إِلَى ) ، فإنها تدل على الانتهاء والوصول ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ﴾(الأنعام:111) .
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة ، وكانت ( إِنْ ) الشرطية ؛ إنما تدخل على المُمْكِن ، أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه ، ادَّعى بعضهم أنَّ ( إِنْ ) ههنا معناها : ( إِذَا ) ؛ لأن ( إِذَا ) تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه . ومذهب المحققين أنَّ ( إِنْ ) الشرطية لا تكون بمعنى : ( إِذَا ) ، والذي قالوه : إن الواقع ولا بد ، يعلق بـ( إِذَا ) . وأما ما يجوز أن يقع ، وأن لا يقع فهو الذي يعلق بـ( إِنْ ) ، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع .
وقوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ أمرٌ من الإتيان ، وهو المجيء بسهولة ، كيفما كان . يقال : أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا ، إذا جاء به بسهولة ويسر . وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم ، أو العقل والعلم . تأمل قوله تعالى :﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(النمل:39-40) ، كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب ، وهو رجل من أهل الحكمة ، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس ، وتغلب على العفريت ، مع ما فيه من قوة وشدة ، بقوة العلم !
وصيغة الأمر ( فَأْتُوا ) للتهكم ، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز ؛ لأن المراد منها ليس طلب ذلك منهم ؛ بل المراد منها إظهار عجزهم . والمعروف أن الأمر ضد النهي ، وهو طلب الفعل ، وصيغته : افعل ، ولْتفعل . وهي حقيقة في الإيجاب ؛ نحو قوله تعالى : ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾(البقرة:43) ، وقوله :﴿ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ﴾(النساء:102) ، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ ، ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ .
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته ، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا ؛ بل إنما قال عقب كل منهما :﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .. ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(آل عمران:93) ، ﴿ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(الصافات:157) ، ﴿ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(القلم:41) .
وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط ، يجب الإتيان بالشيء المأمور به .. أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾(البقرة:258) .
والتنوين في ( ِسُورَةٍ ) للتنكير . أي : فأتوا بسورة مَّا ، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات . وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى .
ثالثًا- واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى :﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ على قولين :
أحدهما : أنه يعود على قوله تعالى :﴿ مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾ . أي : فأتوا بسورة من مثل القرآن .
والثاني : أنه يعود على قوله تعالى :﴿ عَبْدِنَا ﴾ . أي : فأتوا بسورة من مثل النبي صلى الله عليه وسلم .
واختلفوا في المراد بـ( المثلية ) على كون الضمير عائدًا على القرآن ، على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التأويل الصحيح ؛ لأنها مبنيَّة أولاً على فهم غير صحيح لمعنى المِثْل ؛ ولأن قائلوها ثانيًا لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء ، وقول الشيء . وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه ، أو يشار إليه . ومن أراد أن يطلع على هذه الأقوال ، فليرجع إلى البحر المحيط لأبي حيَّان ، وغيره من كتب التفسير ، وسيجد أنه لا طائل من الجري وراءها ؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا ، ولا توضح معنى .
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر ( المِِثْل ) في قوله تعالى :﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ هو على سبيل الفرض . وذهب بعضهم أن المراد منه : كلام العرب الذي هو من جنسه ، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض .
ثم اختلفوا في معنى ( مِنْ ) ، فقيل : هي للتبعيض ، وهو مذهب الجمهور . وقيل : هي لبيان الجنس ، وإليه ذهب الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ وغيرهما . وذهب بعضهم إلى أنها زائدة ، بدليل حذفها في قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس:38) .
أما كون ( مِنْ ) لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين ، وأما كونها زائدة فلا يجوز على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين . وليس في قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ دليل على زيادتها في آية البقرة ؛ لأن المراد من آية يونس : فأتوا بكلام مثل القرآن ، أو بقرآن مثل القرآن . وإذا كان كذلك ، فلا وجه لدخول ( مِنْ ) قبل ( المثل ) . وأما قوله تعالى في البقرة :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ فالمراد منه : فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن ، طويلة كانت ، أو قصيرة ؛ لأن لفظ ( سُورَة ) يعمُّ كل سورة في القرآن ، لكونه نكرة في سياق الشرط فتعمُّ ، كما هي في سياق النفي . وعليه فإن ( مِنْ ) فيه لابتداء الغاية .
وأما المراد من ( المثليّة ) هنا فهو كالمراد منها في قوله تعالى :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء:88) ، وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقال : ( هذا القرآن ) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
رابعًا- ولما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم ، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك ، والتظافر والتعاون والتناصر ، فقال سبحانه :﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
وصيغة الأمر هنا : ( ادْعُوا ) للإباحة ، بخلاف صيغة الأمر قبلها ( فَأْتُوا ) ، فهذه للتحدي والتهكم بهم ؛ لأنهم غير قادرين على ذلك . وفسر بعضهم الدعاء هنا بطلب الغوث . يقال : دعا فلان فلانًا : استغاث به . وبالاستحضار . يقال : دعا فلان فلانًا إلى الحاكم : استحضره إليه .
وأما لفظ ( الشهداء ) فيطلق ظاهرًا على من يصح أن يشاهد ويشهد ، فيتحمل بالمشاهدة ، ويؤدي الشهادة ، وهو جمع : شهيد ، من ( شهد ) ، إذا حضر . والشهيد- كما قال الراغب- هو « كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد ؛ ولذا سمُّوا غيره : مُخلِفًا » ؛ ولهذا يطلق لفظ ( الشهيد ) في العرف على من شهد الواقعة بنفسه مشاهدة عِيان لا إيقان ، ومثاله قوله تعالى في المداينة :﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ ﴾(البقرة:282) ، فأمر سبحانه باستشهاد شهيدين ، لا شاهدين ؛ لأن شهادة الشهيد شهادة حضورية سمعية بصرية ، وشهادة الشاهد شهادة معرفة وخبرة مكتسبة . فمن يؤدي شهادته انطلاقاً من معرفته وخبرته فهو شاهد ، ومن يؤدي شهادته انطلاقًا من مشاهدته الحضورية فهو شهيد .
وأما قوله تعالى :﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فهو عبارة شرطية ، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها ، وفيها إثارة لحماسهم ، أو تهكم بهم .
خامسًا- ولما كان أمره جل وعلا إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم ؛ لأنهم غير قادرين على ذلك ، انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم ، فقال لهم :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:24) ، فذكر ههنا أمرين :
أحدهما : أنهم لم يفعلوا .
والثاني : أنهم لن يفعلوا ؛ لأنهم ليسوا بقادرين على ذلك . وقد ثبت الخبر أنهم ما فعلوا . وإنما نُفيَ فعلهم هنا بـ( لَنْ ) ؛ لأن العرب تنفي بها ما كان ممكنًا عند المخاطب ، مظنونًا أنه سيكون ، فتقول : لن يكون ، لما يمكن أن يكون . وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن : أيكون أم لا يكون ؟ قالوا في نفيه : لا يكون .
وقال تعالى :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ، ولم يقل :( فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا ) ؛ لأن صيغة ( فَعَلَ ) عامّة في الأفعال كلها ، وتجري مجرى الكناية ، فيعبَّر بها عن كل فعل ، إيجازًا واختصارًا ، وحيث أطلقت في كلام الله تعالى ، فهي محمولة على الوعيد الشديد ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:1) ، وقوله تعالى :﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾(إبراهيم:45) .
وأُتيَ بـ( إِنْ ) الشرطية التي تدل على إمكان الفعل وعدم إمكانه ، ولم يؤت بـ( إِذَا ) التي تدل على تحقُّق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم ؛ كما يقول القائل : إن غلبتك ، لم أبق عليك ، وهو يعلم أنه غالب .
وجملة ( لَنْ تَفْعَلُوا ) اعتراضية بين الشرط وجوابه ، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى ؛ لأنه لما قال :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ ، وكان معناه : نفي في المستقبل ، مخرجًا ذلك مخرج الممكن ، أخبر سبحانه أن ذلك لن يقع ، وهو إخبار صدق ، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم التام . وفي ذلك إثارة لهممهم ؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع ، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة :
أحدهما : صحة كون المتحدَّى به معجزًا ، وأنه من عند الله تعالى .
والثاني : الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا فيما يستقبل من أعمارهم .
ولكونهم عاجزين عن الفعل ، أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم ، فقال سبحانه :﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ، وهو جواب للشرط .
ولقائل أن يقول : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثل القرآن ؟ والجواب : إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح ذلك ، ثم لزموا العناد ، استوجبوا العقاب بالنار . فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله تعالى :﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ قائمًا مقام :( فاتركوا العناد ) ، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ؛ لإنابة اتقاء النار منابه ، مُتبعًا ذلك بتهويل صفة النار .
و( الوَقود ) بفتح الواو : كل ما يلقى في النار لإضرامها ، من الحطب ونحوه . والمراد من لفظ ( الناس ) : الخصوص ممَّن شاء الله تعالى دخولهم هذه النار ، وإن كان لفظه عامًا . والمراد من لفظ ( الحجارة ) : الأصنام ، وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار ، فدل على أنها نار ممتازة من النيران ، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة ؛ وذلك يدل أيضًا على قوتها من وجهين :
الأول : أن سائر النيران ، إذا أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة ، أوقدت أولاً بوقود ، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه . وأما هذه النار فتوقد بنفس ما تحرق .
والثاني : أنها لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر .
وإنما قرن الله سبحانه الناس بالحجارة ، وجعلها معهم وقودًا ؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا ، حيث نحتوها أصنامًا ، وجعلوها لله أندادًا ، وعبدوها من دونه سبحانه . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(الأنبياء:98-99) . وهذه الآية مفسرة لها ، فقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ في معنى :﴿ النَّاس وَالْحِجَارَة ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ في معنى :﴿ وَقُودهَا ﴾ . نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق