الأحد، 12 فبراير 2012

وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ



أولاً- من الشبهات التي أثيرت حول كتابة المصحف الشريف ، واتخذها المغرضون دليلاً على وقوع اللحن في القرآن الكريم الشبهة التي أثيرت حول قوله تعالى:﴿ لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا ﴾(النساء:162).

وموضع الشبهة هنا لفظ ( الْمُقِيمِينَ ) ، حيث أتى منصوبًا بين مرفوعين : الأول : قوله تعالى :﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعلْمِ ﴾ ، والثاني قوله تعالى :﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ ، فاعترض المشككون الجهلة في القرآن العظيم والطاعنون الغفلة في إعجازه ، وقالوا : كان يجب أن يرفع :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ ، فيقال :﴿ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ؛ لأنه معطوف على مرفوع ، معتمدين في ذلك على ما روي من روايات مغلوطة عن وجود اللحن في القرآن ، من نحو ما روي عن سعيد بن جبير من أنه كان يقرأ :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ ، ويقول :« هو لحن من الكُتَُّاب » ، ومثل ذلك ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- وعن أبَّان بن عثمان أن كتابة ﴿ وَالْمُقِيمِينَ ﴾ بالياء كان خطأ من كاتب المصحف » .

أما ما رويَ عن ابن جبير ، إن ثبت عنه ، فإنه لا يريد بلفظ ( لَحْنٍ ) الخطأ- كما هو مفهوم العامة من هذا اللفظ - أو الخروج على قواعد النحو ؛ وإنما يريد به اللغة ، والوجه في القراءة ، يدل على ذلك ما روِيَ عن عمر- رضي الله عنه- من قوله :« أُبَيٌّ أقرؤنا ، وإنا لندع بعض لحنه » . أي : بعض قراءته ولغته . واللَّحْنُ- كما قال الراغب- صَرْفُ الكلام عن سننه الجاري عليه ؛ إما بإزالة الإعراب ، أو التصحيف ، وهو المذموم ؛ وذلك أكثر استعمالاً . وإما بإزالته عن التصريح ، وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى ، وهو محمود من حيث البلاغة ؛ وإليه أشار الشاعر بقوله :

منطق صائب ، وتلحن أحيا ** نًا ، وخير الحديث ما كان لحنًا

وإياه قُصِد بقوله تعالى :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾(محمد:30) ، وعليه يُحمَل قول سعيد بن جبير ، بدليل أنه نفسه كان يقرأ :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ بنصِّ الرواية السابقة . فلو كان يريد باللحن : الخطأ ، ما رضي لنفسه هذه القراءة ، وكيف يرضى أن يقرأ بما يعتقد أنه خطأ وهو من أتقى الناس وأفصحهم ؟!

وأما ما نسب إلى عائشة- رضي الله عنها- وعن أبان بن عثمان فهو مردود بما ذكره أبو حيان ؛ إذ قال في ذلك ما نصُّه :« ولا يصح ذلك عنهما ؛ لأنهما عربيان فصيحان » ، ومن قبله قال الزمخشري :« لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغَبِيَ عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذبِّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم ، وخرقًا يرفوه من يلحقهم » . ويعني بقوله :« من لم ينظر في الكتاب » : كتاب سيبويه ؛ فإن اسم الكتاب علم عليه ، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله ، وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو .

ومن قبل الزمخشري وأبي حيَّان قال الزجَّاج في قوله تعالى :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ ، قال : « قولُ مَنْ قال إنه خطأٌ بعيد جدًّا ؛ لأن الذين جمعوا القرآن هم أهلُ اللغة والقُدْوَةُ ، فكيف يتركون شيئًا يُصلِحه غيرُهم ؟ فلا ينبغي أن يُنْسَبَ هذا إليهم » .

ثانيًا- ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى لما حكى عن اليهود أنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ (النساء:153) ، وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ؛ ولكن لأجل العناد واللجاج ، وحكى أنواعًا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم وتماديهم في الغي وتوغُّلهم في الضلالة ، حتى أوهم ذلك أنه لا يُرجَى لأحد منهم بعد ذلك خير ولا صلاح ، بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الفئة القليلة الناجية منهم من العذاب الأليم الذي توعَّد به الكفرة منهم ، وذكر سبحانه من هذه الفئة الناجية :

﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ

﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ

﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا .

وقد ذكرهم جميعًا بصفة الفاعلين لدلالتها على معنى الثبوت والاستمرار ، ثم أشار إلى الجميع بقوله تعالى :﴿ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا (النساء:162) ؛ وذلك مقابل قوله تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾(النساء:161) .

ثالثًا- أما قوله تعالى :﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ فهو استدراك مما قبله بـ( لكن ) ، بيانًا لكونه على خلاف حاله عاجلاً وآجلاً ، ومجيؤها هنا في غاية الحسن ، كما قال أبو حيان في البحر ؛ لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما ، وهم الكافرون وما أعدَّ لهم من العذاب الأليم ، والمؤمنون وما أعد لهم من الثواب العظيم .

و﴿ الرَّاسِخُونَ ﴾ مرتفع على الابتداء ، و﴿ الْمُؤْمِنُونَ عطف عليه ، وجملة ﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ خبر عنهما جميعًا . والراسخون جمع : راسخ . وحقيقة الراسخ : الثابت . قال الراغب الأصفهاني :« رسوخ الشيء : ثباته ثباتًا متمكِّنًا . ورسخ الغدير : نضب ماؤه . ورسخ تحت الأرض . والراسخ في العلم : المتحقق به الذي لا يعرضه شبهة » . وسئل مالك بن أنس عن الراسخ في العلم ، فقال :« العالم العامل بما علم ، المتبع لما علم » . وقيل :« الراسخ في العلم : من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه » .

وذكروا من الراسخين في العلم من علماء بني إسرائيل : عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، فهؤلاء دخلوا في الإسلام ، وصدقوا النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيهم نزلت هذه الآية ، كما أخرجه البيهقي في ( الدلائل ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .

وفي ذكر العلم الراسخ ، بوصفه طريقًا إلى المعرفة الصحيحة ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك ، كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين . فالعلم الراسخ كالإيمان المنير كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله ، وكلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد ، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ؛ ولهذا قدموا في الذكر على غيرهم .

أما ﴿ الْمُؤْمِنُونَ فظاهر اللفظ يدل على أنهم غير ﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ ، وإن كان الراسخون في العلم مؤمنين مثلهم ، والمراد من هم : المؤمنون من اليهود الذين هداهم الله تعالى للإيمان ، من غير الراسخين في العلم ، وقد ذكر الله تعالى كلاً منهم بصفته الغالبة عليه ، والتي تميزه من الآخر ، وهم جميعًا يمثلون الفئة القليلة المؤمنة التي استثنيت من اليهود الذين حكم الله تعالى عليهم بالكفر والضلال وتوعدهم بالعذاب الأليم ، في الآيات التي سبقت هذه الآية من سورة النساء ، ويتضح لنا ذلك إذا علمنا أن اليهود أربعة أقسام :

قسم غيَّروا وبدَّلوا وماتوا على ذلك ، فهم كفرة . وقسم لم يغيروا ويبدلوا وماتوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء مؤمنون ولهم أجر واحد . وقسم أدركوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا به ، فهم كفار . وقسم آمنوا به ، وهؤلاء لهم أجران : أجر الإيمان بنبيهم ، وأجر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد ورد ذلك في حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :« ثلاثة لهم أجران » ، وذكر منهم :« رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وآمن بمحمد » . رواه البخاري ومسلم والترمذي وحسنه ، ولفظه عند الترمذي : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين » ، وذكر منهم :« رجل آمن بالكتاب الأول ، ثم جاء الكتاب الآخر فآمن به ، فذلك يؤتى أجره مرتين » .

فهؤلاء الذين يؤتون أجرهم مرتين منهم :﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ ، ومنهم ﴿ الْمُؤْمِنُونَ من غير الراسخين في العلم ، وقد أخبر الله تعالى عنهم وعن الراسخين في العلم بقوله :﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ .

ثم خصَّ الله تعالى بالذكر منهم :﴿ الْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ . وابتدأ سبحانه من هؤلاء الثلاثة بـ( المقيمين الصلاة ) ؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية التي شرعت لذكر الله تعالى ، وثنَّى بالمؤتين الزكاة ؛ لأن الزكاة أفضل العبادات المالية ، ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على عباد الله تعالى . ثم ذكر بعدهما المؤمنون بالله تعالى واليوم الآخر ، فأفاد ذلك علمهم بالمبدأ والمعاد . أما علمهم بالمبدأ فهو المراد من قوله تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ . وأما علمهم بالمعاد فهو المراد من قوله تعالى :﴿ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ .

ثم أشار سبحانه وتعالى إلى جميع الموصوفين بالصفات السابقة بقوله :﴿ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ، وهو استئناف مُبيِّن لما تقدم من أوصاف وصف به الفئة المؤمنة الناجية من العذاب الذي أعد للكفرة من اليهود ، وليس بخبر لهم .

وفي الإشارة إليهم بـ( أُولَئِكَ ) دليل على عُلُوِّ منزلتهم جميعًا عند الله تعالى . والسين في قوله تعالى :﴿ سَنُؤْتِيهِمْ ﴾ لتوكيد الوعد ، وتنكير ( أَجْرًا ﴾) للتفخيم . ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك ، حيث أوعد الأولين بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرين الذين امتدحهم بالأجر العظيم .

رابعًا- وأما قوله تعالى :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ فقرأه الجمهور بالياء ، وقرأه جماعة بالواو هكذا :﴿ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ﴾ ، منهم أبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه , ومالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي ، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود ، ولكل من القراءتين وجه صحيح فصيح في لغة العرب .

أما القراءة بالواو :﴿ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ﴾ فخرِّجت على العطف ، وجوَّزوا فيه أوجهًا ؛ أشهرها : أن يكون ﴿ الْمُقِيمُونَ ﴾ معطوفًا ، على ما تقدم من قوله تعالى :﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وعليه فلا إشكال في الآية على هذه القراءة .

وأما القراءة بالياء :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ فأحسن ما قيل في تخريجها أن ( الْمُقِيمِينَ ) منصوب على المدح بفعل مضمر لا يجوز إظهاره ، تقديره : أعني ، أو أذكر ، أو أمدح المقيمين الصلاة . وكان الأصل فيه أن يكون مرفوعًا بالواو- كما جاء في القراءة الأولى ، وفي مصحف ابن مسعود ؛ ولكن عدل به من الرفع إلى النصب في قراءة الجمهور ، إظهارًا لمزيَّة الصلاة ، وبيانًا لفضل المقيمين لها .

قال صاحب كتاب إعراب القرآن وبيانه :« النصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة ، والنكتة هنا هي إظهار مزية الصلاة ؛ كما أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها يُنبِّه الذهن إلى وجوب التأمل فيها ، ويهدى إلى التفكير لاستخراج مزيَّتها ، وهو من أركان البلاغة .. ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته ، وكيفية أدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها ، كرفع الصوت ، أو خفضه ، أو مده بها » .

ولما كانت الصلاة من أفضل العبادات التي لم تنفك شريعة منها ، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع ، أمر الله تعالى المؤمنين على الإطلاق بإقامتها ، بعد أن جعلها عليهم فرضًا موقوتًا ؛ وذلك لأثرها العظيم في تهذيب النفوس ، والسُّمُوِّ بها إلى الملكوت الأعلى ، فقال سبحانه :﴿ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾(النساء:103) . تأمل كيف قال :﴿ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ، ولم يقل :( فَصَلُّوْا ) ! وهكذا كل موضع أمر الله تعالى فيه بفعل الصلاة أو حثَّ عليه ، ذكره بلفظ الإقامة ، وكل موضع مدحَ فيه المؤمنين المصلين مدحهم فيه بلفظ ( الْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ) ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ﴾(الحج:35) . ولم يقل سبحانه : ( والمُصَلِّينَ ) إلا في المنافقين ؛ كقوله تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (الماعون:5) . وأما قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى (النساء :142) فإن هذا من القيام ، لا من الإقامة .

وإقامة الصلاة هي من الإقامة في المكان . أي : الثبات فيه . وإقامةُ الشيء : تَوْفِيَةُ حقه . قال تعالى :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾(المائدة:68) . أي : حتى توفون حقوقهما بالعلم والعمل ؛ ولهذا خصَّ الله تعالى لفظ ( الإقامة ) في الصلاة بالذكر ، تنبيهًا أن المقصود من فعلها هو توفية حقوقها وشرائطها ، لا الإتيان بهيئتها فقط .

فإذا تأملت ما تقدم ، تبين لك أن ﴿ الْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ هم المؤدُّون للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن . ومن هنا كانوا جديرين بأن يُمدَحوا من الله جل وعلا هذا المدح العظيم ، ويُكْسَى لفظُهم حلَّة النَّصْب ؛ ليهون عليهم النَّصَبُ من إقامتهم الصلاة على وجهها الأكمل ، انتصابًا بين يدي الحق عز وجل ، وانقطاعًا عما سواه ، وتوجُّهًا إليه وحده سبحانه ، وفي ذلك كله ما يشير إلى اتصالهم بأعلى المراتب .

خامسًا- وأما قوله تعالى :﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ فهو معطوف على قوله :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ ، وهو من عطف المرفوع على المنصوب . وإنما جاز هذا العطف ؛ لأن الأصل في ﴿ الْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ أن يكون مرفوعًا ، وعدل به إلى النصب - على ما تقدم بيانه - تنبيهًا على أهمية الصلاة ، وإظهارًا لمزيتها ، ومدحًا للمقيمين لها . ومثل هذا العطف كثير في القرآن الكريم ، وأكثر ما يكون في عطف المفردات ؛ كما في آية المائدة التي تأتي بعد هذه الآية :﴿ إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ(المائدة:69) ، حيث عطف فيه ( الصَّابِئُونَ ﴾ على موضع ( الذِينَ آمَنُوا ) .

أما آية النساء هذه فالعطف فيها هو من عطف الجمل ، حيث عطفت جملة :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ على جملة :﴿ لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ . وإلى نحو هذا القول في توجيه الآية ذهب الخليل بن أحمد ، حكى ذلك عنه سيبويه ، فقال :« وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس ، ولا مَنْ تخاطب بأمر جهِلوه ؛ ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت ، فجعلته ثناء وتعظيمًا ، ونصبه على الفعل ؛ كأنه قال : أذكرْ أهل ذلك ، وأذكرْ المقيمين ؛ ولكنه فعلُ لا يستعمل إظهاره » .

فقول الخليل :« أذكرْ أهل ذلك » يعني به قوله تعالى :﴿ لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ . وقوله :« وأذكر المقيمين » يعني به قوله تعالى :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا ﴾ .

ويبدو هذا القول لمن تدبره حق تدبره أفضل ما قيل في تأويل هذه الآية الكريمة التي اختلفت الآراء ، واضطربت الأقوال في تأويلها وتوجيهها ، وبه يظهر سر مخالفة لفظ ﴿ الْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ في الإعراب لما قبله ، وما بعده . وهذا مما لا يفهمه الأعاجم الذين يطعنون في لغة القرآن ، ولا يدرك سرَّه إلا من خصَّه الله تعالى بالفهم الصحيح من الناطقين بهذه اللغة التي اختارها الله تعالى لقرآنه العظيم .. نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه ويدركون أسرار بيانه .. والحمد لله رب العالمين !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق