سأل أحدهم قائلاً : لماذا جعل الله سبحانه وتعالى صفة الإرادة في الجدار في قوله في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح :﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾(الكهف:77) ، ونحن نعلم أن الجدار جماد ، لا يملك إرادة ذاتية ، أو روحًا ، أو حياة ، فعندما يقع الجدار ، أو أي جماد لا يقع من ذاته ؛ وإنما بفعل قوة خارجية تؤثر فيه ؟
زفي الإجابة عن ذلك قلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه الاستعانة ، وعليه التكلان .. أما بعد :
فـ( الإرادة ) هي طلب النفس حصول شيء ، وميل القلب إليه ، ولا تكون إلا من الأحياء ؛ ولهذا اختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل :﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾(الكهف:77) على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الإرادة محمولة على غير حقيقتها ؛ لأن الجدار ليس له إرادة ، ولا للأموات ، فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك ، ومثِّل الجدار بشخص له إرادة ، فتكون نسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا . وعليه يكون المعنى : فوجدا جدارًا قارب السقوط لميلانه ، أو كاد أن يسقط . وهذا قول الجمهور ، واختاره الزمخشري ، وقال :« استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ، كما استعير الهمّ والعزم لذلك .. وسمعت من يقول : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ . وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية ، وغير ذلك مستعار للجماد ولما لا يعقل ، فما بال الإرادة ؟ » .
الثاني : أن الإرادة صدرت من الخضر ؛ ليحصل له ولموسى عليه السلام ما ذكره من العجب . فالمراد على هذا القول ليس هو الجدار ؛ وإنما هو الخضر . وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغًا جدًّا ، فقال :« ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم ، كان يجعل الضمير للخضر؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم ، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصحّ وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز » .
الثالث : أن الإرادة محمولة على حقيقتها ، وهو قول من أنكر المجاز مطلقًا ، أو في القرآن خاصة ، فتأوَّلوا الآية على أن الله سبحانه خلق للجدارِ حياة وإرادة ، كالحيوانات . قال الراغب الأصفهاني :« والإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية والحسية ، كما تكون بحسب القوة الاختيارية » . وقال صاحب أضواء البيان :« هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن . زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة ، وإنما هي مجاز . وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة ؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات أرادات وأفعالا وأقوالاً لا يدركها الخلق ، كما صرح تعالى بأنه يعلم ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾(الإسراء: 44) ، فصرَّح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمها . وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ﴾(البقرة:74) ، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ؛ لأن تلك الخشية بإدارك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه .
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾(الأحزاب:72) ، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل عن أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :« إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليَّ بمكة » ، وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعًا لفراقه ، فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ؛ كما صرح بمثله في قوله :﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾(الإسراء:44) .
وزَعْمُ من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها ، وإنما هي ضرب أمثال ، زَعْمٌ باطل ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وأمثال هذا كثيرة جدًّا . وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض ، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة ، وهذا واضح جدًّا كما ترى .. والعلم عند الله تعالى » .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق