وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
سأل أحدهم : لماذا قال الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام :﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ (يوسف:13) .. لماذا عرٌف ( الذئب ) ، ولم يقل :( أخاف أن يأكله ذئب من الذئاب ) ؛ لكن قال :( الذئب ) ؛ وكأنه يعرف الذئب ، أو أن هناك ذئبا واحدًا ؟ وللإجابة عن هذا السؤال أقول مستعينًا بالله :
أولاً- الذئب حيوان مفترس من الفصيلة الكلبيَّة ، وهو كلب بَرِّيٌّ وحشيٌّ ، ومن خلقه الاحتيال والنفورُ والغدر ، وهو يفترس الغنم ، وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ، ضَرِِيََ به فربما مزَّقه ، وفيه لغتان : ذئب ، وذيب ، والأولى هي الأصل ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ الجمهور . ومن الثانية قول الشاعر يخاطب جرو ذئب كان قد رباه ، واستأمنه على أغنامه بدلاً من الكلب :
أكلت شُوَيْهَتي وربيتَ فينا .. فمن أدراك أن أباك ذيب
ثانيًا- ومعنى ( أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) : أن يقتله ويأكل منه . وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء ، والمراد بعضه . يقال : أكلَه الأسد ، إذا أكل منه . قال تعالى :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾(المائدة:3) ، عطفًا على المنهيات عن أن يؤكل منها . أي : بقتلها . ومن كلام عمر- رضي الله عنه- حين طعنه أبو لؤلؤة :« أكلني الكلب » . أي : عضَّني .
ثالثا- وخُصَّ الذئب هنا بالذكر دون غيره ؛ لأنه أغلب ما يخاف منه من وحوش الصحارى ، وكانت أرضهم- على ما قيل- : مذئبة . أي : كثيرة الذئاب ؛ ولهذا خصَّه بالذكر . وقيل : إنما خصَّه بالذكر ؛ لأنه سبع ضعيف حقير ، فنبَّه- عليه السلام- بخوفه عليه منه على خوفه عليه ، مما هو أعظم منه افتراسًا من باب أولى .. ولحقارة الذئب خصَّه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه ، لما بلغ من السن ما بلغ في قوله :
والذئب أخشاه ، إن مررت به .. وحدي ، وأخشى الرياح والمطرا
رابعًا- والتعريف في ( الذئب ) يجوز أن يكون تعريف العهد الذهني ؛ مثل تعريف ( السفينة ) في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾(الكهف:71) . قال الكلبي :« رأى في منامه أن الذئب شَدَّ على يوسف ؛ فلذلك خافه عليه » . ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة ، أو الجنس . أي : ذئب من الذئاب ، ومثله تعريف ( الإنسان ) في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾(العصر:2) . ومثل ذلك على القولين تعريف ( الكهف ) في قوله تعالى :﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾(الكهف:16) ، فيجوز أن يكون تعريف العهد ، بأن كان الكهف معهودًا عندهم يتعبدون فيه من قبل ، ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة ، أو الجنس . أي : فأووا إلى كهف من الكهوف .
والقول الثاني هو الأرجح والأقوى في التعبير عن المراد ، وهو أبلغ من التعبير بلفظ النكرة ، فلو قيل : ( وأخاف أن يأكله ذئب ) ، بلفظ النكرة ، لما كان له من القوة في التعبير عن المراد ما كان لقوله :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ﴾ ، بلفظ المعرفة ؛ لأن التنكير ينبئ عن ذئب تافه ضعيف لا ينبغي الخوف منه ، فالخوف من ذئب نكرة كالخوف من لا شيء ؛ وذلك بخلاف المعرف ، فإنه ينبئ عن خوف عظيم ؛ لأنه يشمل الذئاب كلها ؛ ضعيفها ، وقويها . ومثل هذا التعريف في القرآن كثير ؛ كتعريف ( الحمار ) في قوله تعالى : ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ ﴾(الجمعة:5) ، وتعريف ( الكلب ) في قوله تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ﴾(الأعراف:176) .
خامسًا- ما وقع من يعقوب- عليه السلام- من هذا القول كان تلقينًا للجواب من غير قصد ، وهو على أسلوب قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾(الانفطار:6) ، والبلاء موكل بالمنطق .. أخرج أبو الشيخ وغيره ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا تلقنوا الناس فيكذبوا ، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس ، فلما لقنهم أبوهم كذبوا ، فقالوا : أكله الذئب » .. والله تعالى أعلم !
بفلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق