الأحد، 12 فبراير 2012

إن أسأتم فلها أو عليها


قال الله عز وجل :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) ، وقال سبحانه :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا (فصلت:46) ، وكان الظاهر يقتضي أن يقال في الآية الأولى :( وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْهَا ) ، بدلاً من ( فَلَهَا ) ، قياسًا على الآية الثانية :( وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ) .. فما وجه المخالفة بين الآيتين ؟

وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- الآية الأولى من هاتين الآيتين ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ هي خطاب لليهود ، وفيها يقول الله عز وجل لهم : إن أحسنتم بطاعتكم لله سبحانه كان ثواب طاعتكم لأنفسكم ، وإن أسأتم بمعصيته كان عقاب إساءتكم لأنفسكم ، لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم . ووجه ارتباط لآية بما قبلها أن الله تعالى أخبر عن اليهود أنهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقوامًا قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا فقد أحسنوا لأنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية فقد أساءوا لأنفسهم .

وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النفس حَسَنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ مذمومة . ومن أطاع الله وعمل صالحًا فقد أحسن إلى نفسه ، ومن عصى الله سبحانه فقد أساء إلى نفسه ، وهذا ما أخبرت عنه الآية الثانية ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ، حيث نصَّت على أن هذا الحكم هو حكم عام ، لا يقتصر على قوم دون قوم ؛ إذ بيَّن فيه سبحانه سنَّة من سننه التي لا تتخلف ، وهي ( أن الجزاء من جنس العمل ) ، فيجازي كلاً على عمله حسبما تقتضيه الحكمة ، خيرًا على الخير ، وشرًّا على الشرِّ ، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ .

وقد أرسلت الجمل في هاتين الآيتين إرسال المثل ، وهذا من بلاغة الكلام ، ونظير آية فصلت قوله تعالى في سورة الجاثية :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(الجاثية:15) . قال الرازي بعد أن فرغ من الآية السابقة لهذه الآية :« ثم ذكر الحكم العام ، فقال :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ ، وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ، ﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل ، فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ، ونهى عن ذلك لحظ العبد ، لا لنفع يرجع إليه ، وهذا ترغيب منه في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل » .

وقال أهل المعاني في آية الإسراء :« هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه ، بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين ، ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة . ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك » .

وقال الطبري :« ولم يقل : وإن أسأتم ، أسأتم لها ؛ فكأنه تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين ، وستر عليهم إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة ، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح على جانب السيئة » .

ثانيًا- واختلف النحويون والمفسرون في ( اللام ) التي في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ على أوجه :

أحدها : أنها بمعنى ( على ) . أي : إن أسأتم ، فعليها ترجع الإساءة ؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا .

الثاني : أنها بمعنى ( إلى ) . أي : إن أسأتم ، فإليها ترجع الإساءة ؛ كقوله تعالى :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا (الزلزلة:5) . أي : أوحى إليها .

الثالث : أنها على بابها ؛ وإنما أتى بها دون ( على ) ، أو ( إلى ) للمقابلة في قوله تعالى :﴿ لأنْفُسكُمْ ﴾ .. وهذا الوجه هو الصواب ، والله أعلم ، وبيانه :

أن قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ جاء - كما قال ابن عاشور- على طريقة التجريد ، بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها ؛ فاللام لتعدية فعل ( أَحْسَنْتُمْ ) ، يقال : أحسنت لفلان ، ولا يقال : أحسنت على فلان . وكذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ . فقوله ( فَلَهَا ) متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ، تقديره :( أسأتم لها ) ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه متعلق بخبر محذوف لمبتدأ محذوف ، دلَّ عليه فعل ( أسأتم ) ؛ لأنه لو كان كذلك ، لوجب أن يقال :( فعَلَيْهَا ) ؛ كما قال تعالى في سورة فصلت وسورة الجاثية :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ، وعليه يكون تقدير الكلام في الآيتين هكذا :

( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ )

( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَسَاء فَإِسَاءَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) .

قال الكرماني في الآية الأولى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ ، قال : « جاء ( فَلَهَا ) باللام ازدواجًا . يعني : أنه قابل قوله ( لِأَنْفُسِكُمْ ) بقوله ( فَلَهَا ) » .

وقال أبو حيَّان :« أتى بـ( اللام ) في :( فَلِنَفْسِهِ ) ؛ لأن المَحابَّ والحظوظ تستعمل فيها ( على ) الدالة على العلو والقهر ؛ كما تقول : الأمور لزيد متأتية ، وعلى عمرو مستصعبة » . وبذلك اختلف وجها الكلام في الآيتين .

وقال ابن عاشور :« ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين : أن ( آية فصلت ) ليس فيها تجريد ؛ إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه ، وإساءته عليه . فلما كان المقدر اسمًا ، كان المجرور بعده مستقرًّا غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعًا فيخبر عنه بمجرور بـ( اللام ) ، أو ضارًّا فيخبر عنه بمجرور بـ( إلى ) . وأما ( آية الإسراء ) ففعل ( أحسنتم ) ، و( أسأتم ) الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد ، فجاءا على أصل تعديتهما بـ( اللام ) ، لا لقصد نفع ، ولا ضر » .

ونظير آية فصلت والجاثية قوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾(الأنعام:104) . أي : من أبصر فالإبصار لنفسه . أي : نفعه وثمرته . ومن عمي فالعمى عليها . أي : فجدوى العمى عائد على نفسه . وعدِّيَ فعل الإبصار باللام الدالة على الاستحقاق ؛ لأنه كناية عن النفع الذي يستحقه صاحبه ، وعدِّيَ فعل العمى بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضرِّ الذي يقع على صاحبه ؛ كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ﴾(يونس:23) ، فعدِّي البغي فيه بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضر الذي يقع على صاحبه ؛ ولهذا يكثر القول : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ، وفي الحديث :« القرآنُ حجةٌ لك ، أو عليك » . وقال توبة بن الحمير :

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ، ... لنَفسِي تُقَاهَا ، أوْ عَلَيها فُجورُهَا

وذلك أن ( اللام ) تدل على الاستحقاق ، وأن ( على ) تدل على الإلزام والإيجاب .

ثالثًا- ويتحصل مما تقدم :

1- أنه لا يجوز قياس قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) على قوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا (فصلت:46) ؛ لأن الأول جاء على طريقة التجريد ، وليس كذلك الثاني .

2- أن قوله تعالى في الآية الأولى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ جاء في مقابلة قوله :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ ولهذا عدِّيَ كل من فعل الإحسان والإساءة بـ( اللام ) التي تدل على الاستحقاق ، وبذلك تتم المقابلة بين طرفي الآية هكذا :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ) .

3- أن ( اللام ) في قوله تعالى :( فَلَهَا ) في آية الإسراء تدل على الاستحقاق ، وتعلقها بفعل محذوف ، تقديره :( إن أسأتم ، أسأتم لها ) . أما ( على ) في قوله تعالى :﴿ فَعَلَيْهَا في آية فصلت ، فتدل على الإلزام والإيجاب ، وتعلقها بخبر محذوف لمبتدأ محذوف تقديره :( ومن أساء فإساءته على نفسه ) .

4- أنه يقال : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ؛ فـ( اللام ) في الأول للاختصاص ، وتدل على الاستحقاق ، و( على ) في الثاني للاستعلاء ، وتدل على الإلزام والإيجاب ، ومثل هذا يقال في : أساء لنفسه ، وأساء عليها .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

1 التعليقات:

مصطفى الزايد يقول...

إن أسأتم فـ «لها» أو «عليها»


قال الله عز وجل في سورة الإسراء:
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾. (الإسراء:7)
وقال سبحانه في سورة فصلت:﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾. (فصلت:46)
وكان ظاهر الأمر يقتضي في الآية الأولى «وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْهَا» بدلاً من «فَلَهَا»، قياساً على الآية الثانية «وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا». فما وجه الاختلاف بين الآيتين؟

فأقول: الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله، وبعد..
فقد طرح هذا السؤال في مجلس علم، فاقترحنا أن نبحث المسألة في الكتب، ونخصص لها جلسة لنرى ما وصل إليه كل منا. فبحثت بدوري في كلام السابقين والمعاصرين، فوجدت علماء النحو لم يقفوا عندها وقفة طويلة، فقالوا «أساء لها» بمعنى «عليها»، وإلى ذلك استند علماء التفسير، فلم يتوقفوا عندها وقفة تأمل.
ووجدت بحث المسألة هذا الذي كتبه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك واستوفى فيه - جزاه الله خيرا - صفوة ما قاله علماء النحو والتفسير والبلاغة في الفرق بين الآيتين، وفي وجوه ما ذكروا صحة وصواب، إلا أنه لا يبرد كبد الظامي؛ إذ لم يلتفت أحد منهم إلى الفرق الدلالي من خلال السياق. فتوجهت إلى الله سبحانه سائلا المعرفة، منطلقا من قناعة بأن أي لفظ في القرآن لا يمكن أن يحل محله لفظ مرادف أو بديل، فكل حرف موظف في سياقه ودلالته وجمال تركيبه أكمل توظيف، فإن اتفق تركيبان واختلف فيهما حرف فذلك لا يعني أن اللفظين جائزان، وإنما هناك علة بلاغية أو دلالية أو جمالية أو موسيقية أو غيرها، قد نستطيع إدراكها بتعليم الله سبحانه وإلهامه وفتحه، وقد نعجز عن ذلك لقصور في فهمنا أو تقصير في سعينا، أو لأنه سبحانه لم يشأ أن نعلمه، لكن يبقى كلامه سبحانه الأكمل، وصفة الكمال ينطوي تحتها كل الخير والجمال والإبداع.
فمن علي سبحانه بهذا الاستنتاج، ويسر لي صياغته بأسلوب بسيط لأضعه بين يدي أهل اللغة ومتذوقيها.
بداية علينا أن نتعامل مع اللفظ في سياقه التركيبي ضمن النص، ثم نربط ذلك بسياقه المفرد ضمن الجملة. لنستطيع الإحاطة به ونخرج بنتائج منطقية تقنع العقل المتعطش إلى المعرفة وتروي ظمأه.

أولاً- وجوه الاختلاف في سياق النص:

آية الإسراء: «ثم جعلنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا 🌼 إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أساتم فلها... ».
ففي سياق النص هناك قوم آخرون مع المخاطبين (بني إسرائيل) سيغلبونهم بعد أن كانت الغلبة لهم، فكان المعنى إن أحسنتم إليهم رجع الإحسان لأنفسكم وإن أساتم رجعت الإساءة لها.

أما آية فصلت :﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾(فصلت:46) فالمعنى عام ليس في نصه طرف آخر يشرك معهم في الصلاح ولا السوء.

ثانياً - وجوه الاختلاف ضمن سياق التركيب (الجملة):

في آية فصلت الحديث عن عمل صالح؛ «من عمل صالحا فلنفسه». وفي آية الإسراء الحديث عن إحسان؛ «إن احسنتم». والفرق كبير، فالعمل الصالح يكون للنفس، أما الإحسان فيكون للآخرين.
وهنا يبدو استخدام الفعل «أساء» في الآيتين بمعنيين مختلفين، يبدو ذلك من خلال الطباق (التضاد) في السياق؛ فهو في (فصلت) ضد «عمل صالحا» (أصلح - أساء)، فهو عمل سيء غير مقيد بالإساءة إلى آخرين، أما في الإسراء فقال: «إن أحسنتم» ولم يقل (إن عملتم صالحا) فالفعل «أسأتم» هنا ضد (الإحسان) إلى الآخرين فهو (إساءة) إليهم، والمعنى إن أحسنتم إليهم كان إحسانكم لأنفسكم لأنهم لن يقابلوه بالإساءة، على مبدأ الآية في سورة الرحمن: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» من مبدأ المكافأة منهم بالمثل، وإن أسأتم إليهم كانت إساءتكم لأنفسكم لأنهم سيجازونكم عليها بالمثل، بدليل الآية بعدها «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم».
والله أعلم.
كتبه مصطفى الزايد - فجر السبت يوم عاشوراء المبارك- 1437 هـ

إرسال تعليق