الأحد، 12 فبراير 2012

مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ


ورد على لسان المؤمن في سورة الكهف قوله لصاحبه الكافر ناصحًا وموبِّخًا :﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (الكهف:38) ، فأمره أن يقول :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما المراد من قوله :﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ؟ وما معنى قوله :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ؟ وفي الإجابة عن ذلك أقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- فأما قوله :﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ فهو تحضيض لصاحبه الكافر على أن يقول :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وتوبيخ له على ترك هذا القول . فـ( لولا ) هنا هي التحضيضية ، لا الشرطية ، وهي بمنزلة ( هلا ) ، ودخولها على الفعل الماضي يفيد معنى التوبيخ . وقوله :( إذْ دَخلْتَ جنَّتك ) ظرف منصوب بـ( قُلْتَ ) قدِّم عليه ؛ للإيذان بتحتُّم القول في وقت دخولِ الجنَّة من غير ريث . ومعنى الكلام : هلا قلت حين دخلتَ جنتك :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ . أي : كان الشأن أن تقول :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ بدلاً من قولك السابق حين دخلت جنَّتك :﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً (الكهف:35-36) ، فأمره موبخًا له أن يقول هذين القولين : ( ما شاء الله ) و ( لا فوه إلا بالله ) .

وقال :﴿ دَخلْتَ جنَّتك ﴾ ، فعدَّى الفعل ( دخل ) إلى الجنة ، والمعروف في اللغة والنحو أن ( دخل ) يستعمل لازمًا تارة ، ومتعديًا تارة أخرى . ومتعديًا ولازمًا تارة ثالثة . أما كونه لازمًا فلأن مصدره : دخولٌ ، على وزن : فعول ، وهو غالب في الأفعال اللازمة ؛ ولأن نظيره ( عَبَر ) ، ونقيضه ( خرج ) ، وكلاهما لازم . ويتعين كونه لازمًا ، إذا كان المدخول فيه مكانًا غير مختص ؛ كما في قوله تعالى آمرًا :﴿ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ ﴾(الأعراف:38) . فإذا كان المدخول فيه مكانًا مختصًّا ، فإما أن يكون ذلك المكان متسعًا جدًّا بحيث يكون كالبلد العظيم ، أو يكون ضيِّقًا جدًّا بحيث يكون الدخول فيه ولوجًا وتقحمًا ، أو يكون وسطًا بينهما . فإذا كان الأول ، وهو أن يكون المكان متسعًا جدًّا ، لم يكن من نصبه بدٌّ ؛ كقول العرب : دخلت الكوفة والحجاز والعراق . ويقبُح أن يقال : دخلت في الكوفة ، وفي الحجاز ، وفي العراق ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾(المائدة:21) ، ﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(النحل:32) ، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾(الكهف:35) . وإذا كان الثاني ، وهو أن يكون المكان ضيِّقًا جدًّا ، لم يكن من جره بدٌّ ؛ كقولهم : دخلت في البئر . وإذا كان الثالث ، وهو أن يكون المكان وسطًا بين المتسع والضيق ، جاز فيه النصب والجر ، كقولهم : دخلت المسجد ، وفي المسجد . ونصبه أبلغ من جره ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري :« لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ .. » الحديث . وفي صحيح مسلم ورد بلفظ :« لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ » ، وكذلك هو في سنن ابن ماجة ، فأتى بالفعل ( دخل ) مُعدّى إلى ( الجُحْر ) بنفسه تارة ، وبـ( في ) تارة أخرى . وإنما جاز ذلك ؛ لأن المدخول فيه من الأماكن المختصَّة التي تكون وسطًا بين المتسعة جدًّا ، والضيقة جدًّا . وقد وهم بعضهم حين ظن أن الجُحْر من الأماكن الضيقة ، وهو ليس منها ؛ لأن الدخول فيه لا يكون ولوجًا وتقحُّمًا ؛ كالدخول في البئر ونحوه ، فهو جُحْرٌ أُعِدَّ للإقامة والسكن .

ثانيًا- وأما قوله :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فللنحاة والمفسرين في تأويل ( ما ) فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون ( ما ) شرطية ، ويكون الجزاء محذوفًا ، والتقدير : ما شاء الله كان . أيْ : أيَّ شيء شاء الله ، كان .

والثاني : أن تكون ( ما ) موصولة موضعها : إما خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر ما شاء الله . أي : هذه الجنة وما فيها ليست بمشيئتي ؛ ولكنه بمشيئة الله تعالى . أو : مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : ما شاء الله كائنٌ .

وقال ابن عاشور :« و( ما ) من قوله :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ أحسن ما قالوا فيها : إنها موصولة ، وهي خبر عن مبتدأ محذوف ، يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة . أي : هذه الجنة ما شاء الله . أي : الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي . وأضاف قائلاً :« وأحسن منه عندي : أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة . والتقدير : هذه شيء شاء الله . أي : لي » .

فعلى قول ابن عاشور يكون في ( ما ) هذه وجه ثالث ، وهو كونها ( نكرة موصوفة ) بمعنى : شيء . وأيًّا ما كان ، فالمراد حضُّ الكافر على الاعتراف بأن جنته وما فيها كائنة بمشيئة الله تعالى ؛ فإن الكائنات كلها مقذوفة بمشيئته المقرونة بحكمته سبحانه وتعالى ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أبادها . ودلالة الجملة على العموم ظاهرة ، ويدخل فيه الجنة وما فيها دخولاً أوليًّا ، ولا يخفى ما في هذا التركيب من معنى التعجب ، ومثله في دلالته على التعجب قول :( سبحان الله ) ؛ ولهذا قيل : إذا أعجبك أمر ، فقل : ( ما شاء الله ) ! أو ( سبحان الله ) !

وأما قوله :( لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) فمعناه : لا قوة لأحد على فعل أمر إلا بالله تعالى ، وهو تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله تعالى وفضله . والمراد : هلا قلت ذلك اعترافًا بعجزك ، وإقرارًا منك بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها ؛ إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله . و( لا ) هي النافية للجنس ، و( قُوَّةَ ) نكرة في سياق النفي ، فتعم . والقوة صفة يتمكن بها الفاعل من فعل ما يريد بدون عجز .

وحاصل معنى القولين : هلا قلت عند دخول جنتك والنظر إلى ما رزقك الله منها :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ ! اعترافًا بأنها وكلَّ خير فيها ؛ إنما حصل بمشيئة الله تعالى وفضله ، وأن أمرها بيده ، إن شاء تركها عامرة ، وإن شاء خرّبها ، وقلت :﴿ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، إقرارًا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها ؛ إنما هو بمعونته وتأييده ؛ إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى .

وعن عروة بن الزبير :« أنه كان يَثْلُم حائطه أيام الرُّطَب فيدخل من شاء ، وكان إذا دخله ، ردَّد هذه الآية حتى يخرج » . ومن هنا قال بعض السلف :« من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده ، فليقل : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله » ! وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة ، وقد روى فيه حديث مرفوع عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ، فيقول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته » ، وقرأ هذه الآية .

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« أكثروا من غراس الجنة » . قالوا : يا رسول الله ! وما غراسها ؟ قال :« ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ».

وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال :« كان مالك إذا دخل بيته يقول : ما شاء الله ! قلت لمالك : لم تقول هذا ؟ قال : ألا تسمع الله تعالى يقول :﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ؟ ونقل عن ابن العربي أن مالكًا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله . ويفهم من هذه الروايات وغيرها استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقًا ؛ سواء كان له ، أو لغيره ، وإنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق