قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾(آل عمران:152(
أولاً- هذه الآية الكريمة جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين بعد معركة أُحُد مهزومًا ، قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا ؟ فنزلت إعلامًا بأنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطًا بالتقوى والصبر على الطاعة ، فما داموا وافين بهذا الشرط ، أنجز الله تعالى وعده ونصرهم على أعدائهم ، واتفق من بعضهم من المخالفة ما نصت عليه الآية الكريمة ، من وقوع الفشل بسبب التنازع والعصيان .
وقوله تعالى :﴿ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ . أي : تستأصلونهم قتلاً . يقال : حسَّه ، إذا قتله ؛ لأنه أبطل حسَّه بالقتل ؛ كما يقال : بَطََنه ، إذا أصاب بطنه ، ورَأَسََه ، إذا أصاب رأسه . والفشل في قوله :﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾ هو انحطاط القوة الناجمة عن الضعف . وقيل : الفشل هو الجبن ، وهذا باطل بدليل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ ﴾(الأنفال:46) . أي : فتضعفوا ؛ لأنه لا يليق به أن يكون المعنى : فتجبنوا .
أما التنازع الناجم عن الفشل فهو الاختلاف والتجاذب في الأمر . وهذا التنازع صدر من الرماة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتبهم على فم الوادي ، وقال :« اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم » . ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره ، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير . فلما ظهر المشركون ، أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون . ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن ، فقالوا الغنيمة ، الغنيمة . فقال عبد الله : عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان ، فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة قليلة إلى أن قتلهم المشركون ، فهذا هو المراد من التنازع .
وأما العصيان من قوله تعالى :﴿ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ﴾ فالمراد منه مغادرة الرماة أماكنهم التي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالثبات فيها وعدم مغادرتها ، طلبًا للغنيمة .
ثانيًا- ومن الشبهات التي تثار حول هذه الآية الكريمة : السؤال عن جواب ( حتى ) في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ ﴾ ، فيقال : أين جوابها ؟ ثم السؤال عن تقديم الفشل فيه على التنازع ، فيقال : لمَ قدِّم الفشل على التنازع هنا ، وكان من حقه التأخير ؛ كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾(الأنفال:46) ؟
1- أما الشبهة الأولى ، وهي السؤال عن جواب ( حتى ) ، فقد اختلفوا في الجواب عنه على قولين : أحدهما : أن الجواب مذكور في الكلام . والثاني : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه .
واختلف أصحاب القول الأول على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ ، و( الواو ) زائدة . والتقدير : حتى إذا فشلتم ، تنازعتم في الأمر .
والثاني : أن الجواب قوله تعالى :﴿ وَعَصَيْتُمْ ﴾ ، و( الواو ) زائدة . والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم ، عصيتم .
والثالث : أن الجواب قوله تعالى :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ﴾ ، و( ثم ) زائدة . والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم في الأمر ، صرفكم عنهم .
فعلى الوجه الأول يكون الفشل موجبًا للتنازع والعصيان . وعلى الوجه الثاني يكون الفشل والتنازع موجبًا للعصيان . وعلى الوجه الثالث يكون الفشل والتنازع والعصيان موجبًا للصرف .
واختلف أصحاب القول الثاني في تقدير الجواب على أقوال : فقدره ابن عطية : انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصره ، وغيرهما : امتحنتم . وعليه يكون نظم الكلام : حتى إذا فشِلتم انهزمتم ، أو منعكم نصره ، أو امْتُحِنتم ، وتنازعتم في الأمر .. وعلى هذا القول جمهور البصريين ومن تبعهم من المتأخرين ، وزعم أبو حيان أنه الصحيح ، ثم قال :« ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه ، وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده » . وقد سبقه إلى هذا القول الفخر الرازي ، حيث قال :« تقدير الآية : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون ، صرتم فريقين : منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة . فالجواب : هو قوله : صرتم فريقين . إلا أنه أسقط ؛ لأن قوله :﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ﴾ يفيد فائدته ، ويؤدي معناه ؛ لأن كلمة ( من ) للتبعيض ، فهي تفيد هذا الانقسام .. وهذا احتمال خطر ببالي » .
2- وأما الشبهة الثانية ، وهي السؤال عن تقديم الفشل على التنازع ، فقال فيه الفرَّاء :« يقال : إنه مقدَّم ومؤخَّر ، معناه : حتى إذا تنازعتم في الأمر ، فشلتم » ؛ فهو عنده من المقدم الذي معناه التأخير . ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾(الأنفال: 46) ، فقدم التنازع على الفشل .
ثالثًا- وتحدث الدكتور فضل حسن عباس عن زيادة ( الواو ) في هذه الآية الكريمة وغيرها في كتابه ( لطائف المنان في دعوى الزيادة في القرآن ) ، وعدَّ القول بزيادة هذه الواو خروجًا عن الصواب ، وجرأة على كتاب الله ، وابتعادًا بالآية الكريمة وبالنظم المحكم عن المعنى المراد . ثم ذكر أن حذف الجواب في مثل هذه المواضع لم يأت عبثًا ؛ وإنما هو أمر يقصده القرآن قصدًا . وهاجم الفرَّاء هجومًا عنيفًا ، فقال :« التقدير عندهم : حتى إذا فشلتم ، تنازعتم في الأمر ؛ لكن الفرَّاء لم يرتض القول بالزيادة ، فحسب ؛ بل غيَّر النظم الكريم ، وقدَّم فيه وأخَّر » .
وأضاف الدكتور فضل حسن عباس قائلاً :« فقد ذكر الفرَّاء- هنا- عدة آيات عدَّ الواو فيها زائدة ، وقال : إن الواو مآلها السقوط . والحق أن كلامه هو الذي يجب أن يكون مآله السقوط .. ولقد كان الفرَّاء توعَّد أبا عبيدة صاحب ( مجاز القرآن ) أن يضربه ، إن هو لقيه على ما له من تأويلات لكتاب الله تعالى لا تستقيم . ولا أدري : أكان أبو عبيدة وحده الذي يستحق أن يضرب على تأويلاته ؟! » .
وانتهى الدكتور فضل من ذلك إلى أن ( الواو ) في قوله تعالى :﴿ وَتَنَازَعْتُمْ ﴾ ونحوه جاءت في محلها غير قلقة ولا نابية ، وأنها واو العطف ، وأنه ليس في النظم كذلك تقديم أو تأخير ، وأن تقدير الكلام : حتى إذا فشلتم ، منعكم نصره ، وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم .. فالواو إذن عاطفة .
وهذا القول الذي اختاره الدكتور فضل في تأويل الآية الكريمة هو اختيار الزمخشري ، وهو اختيار الطبري أيضًا ؛ إلا أن الطبري لم يتهجم على الفرَّاء كما تهجم عليه الدكتور فضل ؛ وإنما قال في ذلك ما نصُّه :« وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الجواب متروك ، وإن كان القول الآخر غير مدفوع » . ويعني بالقول الآخر قول الفرَّاء .
وكان الفرَّاء قد ذهب إلى أن هذه الواو معناها : السقوط ؛ مثلها في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾(الصافات:103-104) . أي : فلما أسلما وتله للجبين ، ناديناه . ثم قال :« وهو في ( حتى إذا ) ، و( فلمَّا أن ) مقول ، لم يأت في غير هذين . قال الله تبارك وتعالى :﴿ حتى إذا فُتِحتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهُمْ مِن كل حَدَبٍ يَنْسِلون ﴾(الأنبياء: 96) ، ثم قال :﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾(الأنبياء: 97) ، معناه : اقترب . وقال تبارك وتعالى :﴿ حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾(الزمر:71) . أي : فتحت .. » .
رابعًا- وقيل في الآية الكريمة قول ثالث ؛ وهو أن :( حَتَّى ) حرف جر للغاية بمنزلة ( إلى ) ، وأن ( إِذَا ) ظرف مجرد من معنى الشرط بمعنى ( إذ ) مجرور بـ( حَتَّى ) ، والجار والمجرور متعلقان بقوله تعالى :﴿ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ . أو بقوله تعالى :﴿ تَحُسُّونَهُمْ ﴾ . أو بمحذوف ، تقديره :( دام لكم ذلك ) .. وحينئذ لا جواب لـ( حَتَّى إِذَا ) .
واختار هذا القول الطاهر ابن عاشور ، ووصف القولين السابقين بالتكلُّف ، فقال في ذلك ما نصُّه :« حتَّى : حرف انتهاء وغاية ، يفيد أن مضمون الجملة التي بعدها غاية لمضمون الجملة التي قبلها ؛ فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرَّ قتلكم إيَّاهم إلى حصول الفشل لكم ، والتنازع بينكم » .
فـ( حَتَّى ) عند ابن عاشور حرف جر ، و( إِذَا ) ظرف مجرورة بها ، وهي- كما قال- اسم للزمان المطلق ، مجرَّدة عن معنى الشرط ؛ فهي غير محتاجة لجواب ، فلا فائدة في تكلُّف تقديره .. ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه .
وقد اختار ابن عاشور هذا القول في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾(البقرة:11) ، فقال في مقدمة تفسيره :« و( إِذَا ) هنا لمجرد الظرفية ، وليست متضمنة معنى الشرط ؛ كما أنها هنا للماضي ، وليست للمستقبل ؛ وذلك كثير فيها ؛ كقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ ﴾ الآية » .
خامسًا- هذا غيض من فيض ذكرته من أقوال علماء النحو والتفسير في تأويل هذه الآية الكريمة من آيات القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، والذي أنزله الله تعالى علينا بلسان عربي مبين .. فبأي قول من هذه الأقوال يأخذ طالب العلم ؛ ليردَّ به على الطاعنين في بلاغة القرآن وأسلوبه المعجز ؟ وأيُّ هذه الأقوال يرجح الباحث ؟ أقول البصريين الذي اختاره الإمام الطبري على أنه أولى الأقوال بالصواب ، والذي وصفه أبو حيان بأنه القول الصحيح ؟ .. أم قول الكوفيين الذي هو اختيار الفرَّاء ، والذي قال فيه الإمام الطبري :« والقول الآخر غير مدفوع » ؟ .. أم القول الذي اختاره ابن عاشور ، وهو القول الذي يجعل ( إذا ) اسمًا للزمان المطلق مجرورًا بـ( حتى ) ، وأنه لا جواب لها ؟ .. أم أن هذه الأقوال كلها مآلها السقوط ، وأن القول الذي اختاره الدكتور فضل حسن عباس هو القول المنزَّه من السقوط ؟ .. أم أنك بأيها أخذت فأنت على صواب على حدِّ تعبير الدكتور فاضل السامرَّائي ؟ ولأنها أقوال علمائنا على حدِّ تعبير الدكتور حسام النعيمي ، فلا يجوز إسقاطها ، أو إسقاط أحدها ؟ .. وهل تعتمد هذه الأقوال على منهج علمي صحيح ، يكون فيه الرد الكافي الشافي على من يطعن في بلاغة القرآن وأسلوبه المعجز ، ويزعم أن في القرآن الكريم أخطاء لغوية ، وهذا واحد منها ؟ وإذا كانت هذا الأقوال على ما فيها من تكلف وتمحُّل تقنع أصحابها ومؤيِّديها بعظمة هذا القرآن الكريم ، وهو عظيم بدونها ، فهل يمكن أن تقنع أعداء المسلمين الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في هذا القرآن العظيم ؟
والحقيقة أن هذه الأقوال كلها مآلها السقوط ؛ لأنها لا تسلم من الضعف ؛ إذ هي مجرد احتمالات خطرت بالبال قوامها الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا . ويكفي دليلاً على سقوطها اضطرابها وتناقضها ، وتكلُّفُ أصحابها في التأويل ، وتمحُّلُهم في الحذف والتقدير .
وربما كان قول الفراء أقرب تلك الأقوال إلى الصواب ، لو لم ينصَّ على أن الواو في قوله تعالى :﴿ وَتَنَازَعْتُمْ ﴾ مآلها السقوط ؛ إذ ليس في الآية الكريمة زيادة خلافًا لمن قال بزيادة الواو ، ولا حذف الجواب خلافًا لمن قال بحذف الجواب ، وليس فيها تقديم ولا تأخير ، وبيان ذلك :
1- أن ( حَتَّى ) أداة ابتداء لانتهاء الغاية دخلت على الجملة الشرطية ؛ كما تدخل على جمل الابتداء ، والجملة الشرطية التي دخلت عليها هنا هي قوله تعالى :﴿ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ﴾ ، وهي جملة مؤلفة من عبارة شرطية :( إِذَا فَشِلْتُمْ ) ، وعبارة جوابية :﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ﴾ . وقد أدخلت عليها الواو ؛ لتربط التنازع والعصيان فيها بالفشل في العبارة الشرطية . وإنما جيء بهذه الواو رابطة ؛ لتجمع بين وقوع هذه الأحداث الثلاثة في وقت واحد دون مهلة . أعني : الفشل ، والتنازع ، والعصيان . وكون الفشل علة للتنازع والعصيان لا يمنع من وقوع هذه الأحداث الثلاثة في وقت واحد ، لما في هذه الواو الرابطة من معنى الجمع .
2- وكان من حق التنازع في هذه الآية الكريمة أن يأتي مقدَّمًا على الفشل ؛ كما قدِّم عليه في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾(الأنفال:46) ، فيقال :( حتى إذا تنازعتم في الأمر وفشلتم ) ؛ لأن التنازع يفضي إلى الفشل ؛ لأنه يثير التغاضب ، ويزيل التعاون بين القوم ، ويحدث فيهم أن يتربَّص بعضهم ببعض الدوائرَ ، فيشتغلون باتِّقاء بعضهم بعضًا ، وينصرفون عن التوجُّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ، وعن الإقدام على أعدائهم ، فيتمكَّن منهم العدوُّ ؛ ولهذا قدِّم على الفشل في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾(الأنفال: 46) ، فحذَّرهم أمرين معلومًا سوءُ مَغبتهما ؛ وهما : الفشل ، وذهاب الريح . أي : ذهاب الدولة .
وأما قوله تعالى هنا :﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ فقدِّم فيه الفشل على التنازع ؛ لأن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعًا في الغنيمة . ثم تنازعوا بطريق القول في أنهم : هل يذهبون لطلب الغنيمة ، أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة ، فتركوا ملازمة أماكنهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمتها ؛ وذلك هو المراد من عصيانهم .. وهكذا ترى أن هذه الأفعال الثلاثة قد جاءت في الآية الكريمة مرتَّبة على حسب ترتيبها في الحصول ؛ إذ كان الفشل- وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة مواقفهم للطمع في الغنيمة- قد حصل أولاً ، فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة المواقف ، وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة المواقف التي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بملازمتها وعدم الانصراف منها . وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ، ما لم يقتض الحال العدول عنه » .
ونظير ذلك قوله تعالى في آية أخرى :﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾(الأنفال:43) ، فأخبر سبحانه أنه أراهم في منامهم قليلاً ؛ لئلا يضعفوا ، إذا رأوهم كثيرًا ، فيختلفوا فيما بينهم ، فجاء الفشل مقدَّمًا على التنازع لحصوله أولاً .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق