الأحد، 12 فبراير 2012

مثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها


مثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها

قال الله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾(الأعراف:175- 178)

أولاً- هذه الآيات نزلت في إنسان كان عالمًا بدين الله تعالى ، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال . وظاهر الموصول المفرد ( الَّذِي ) يشير إلى أن صاحب الصلة واحد معيَّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها . وإذا كانت الآية الكريمة- كما ترى- قد أبهمتْ اسمه ، واقتصرتْ على الإشارة إلى إجمال قصته ، فإنها مع ذلك ظاهرة في أنه نبأٌ واقعٌ ، لا مجرَّدَ تمثيل ؛ كما ذهب إليه بعضهم .

ومناسبةُ هذه الآيات لما قبلها إشارةٌ إلى العبرة من حال هذا الذي أخذ الله عليه العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله جل وعلا ، وأمده بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله ، حين لم يقدر الله سبحانه له الهدى .

وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الإنسان على أقوال ، أقربها إلى الحقيقة- على ما قيل- أن يكون صاحب هذا النبأ ممَّن كان للعرب إلمامٌ بمُجْمَلِ خبره كأميَّةَ بن أبي الصَّلْت الثقفي ؛ وذلك أن أميَّة كان- فيما روي عنه- ممن أراد اتِّباعَ دينٍ غير دين الشرك ، طالبًا دينَ الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل ، فلم يرَ النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهَّد وتوخَّى الحنيفية دينَ إبراهيم- عليه السلام- وأخبر أن الله يبعث نبيًّا في العرب ، فطمع أن يكونَ هو ذلك النبي ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرَّم الخمر ، وذكر في شعره أخبارًا من قصص التوراة ، وكان يقول :

كل دين يوم القيامة عند ** اللَّه إلا دينَ الحنيفية زُورُ

فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم ، أَسِفَ أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب . وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة ، وأقام هنالك ثماني سنين ، ثم رجع إلى مكة ، فوجد البعثة ، وتردَّد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ، ورجع بعد وقعة بدر ، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حَسَدًا ، ورَثَى من قُتِلَ من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه ، فمات فيها كافرًا سنة ثمان ، أو تِسع . ولموته قصَّة طويلة أخرجها البُخَارِيُّ فِي تاريخه ، وَالطَّبَرَانِيُّ ، وغيرهما . وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، وكاد ابن أبي الصَّلْت أن يُسْلِمَ » . وروَى الفَاكِهِيُّ وابنُ مَنْدَهْ ، من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أن الفَارِعَةَ بنتَ أبي الصَّلْت ، أختَ أُمَيَّةَ أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنشدته من شعره ، فقال :« آمن شعره ، وكفر قلبه » . يريد أن شعره كشعر المؤمنين ؛ وذلك أنه يوحِّد الله في شعره ، ويذكُر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض ، وأحوال الآخرة ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، واسم الله وأسماء الأنبياء ، ومن شعره :

مليك على عرش السماء مهيمن ** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

ومنه أيضًا :

مجدوا الله فهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسى كبيرًا

ومنه من قصيدة أخرى :

يا رب لا تجعلني كافرًا أبدًا ** واجعل سريرة قلبي الدهر إيمانًا

قال الحافظ ابن حجر :« فلذلك قال : آمن شعره » . وذكر أبو الفَرَجِ الأصْبَهَانِيُّ أنه قال عند موته :« أنا أعلم أن الحنيفية حق ؛ ولكن الشكَّ يُداخِلُني في محمد » .

وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الإنسان هو رجل من الكنعانيين ، كان في زمن موسى عليه السلام ، يقال له : بَلْعَامُ بْنُ بَاعُور . أو بَلْعَمُ بْنُ بَاعُوراءَ ، وكان عالمًا من علماء بني إسرائيل- كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، وذكروا قصته فخلطوها وغيَّروها واختلفوا فيها . وقيل : كان من الكنعانيين أُوتِيَ علمَ بعض كتاب الله ؛ ولكنه كفر به ، ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان ، وصار قرينًا له ، فكان من الغاوين الضالين الكافرين .

وذكر ابن عاشور في تفسيره أن بَلْعَامَ هذا ، أو بَلْعَمَ ، كان من صالحي أهل مَدْيَن وعرَّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض ( مُؤَاب ) ؛ ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الإصحاحات(22- 23- 24) ، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلافه .

ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وقال تعالى :﴿ وَاتْلُ ﴾ ، ولم يقل :( وَاقْرَأْ ) ؛ لأن التلاوة تكون بإعادة ألفاظ المتلو كما هي ، دون شرح أو تعليق ، وبشكل متتال . والقراءة لا تكون إلا مع الشرح أو التعليق . يقال : قرأت العلم على فلان ، ولا يقال : تلوت العلم عليه . ويقال : قرأت رسالتك ، ولا يقال : تلوتها . ويقال : قرأ القرآن قراءة ، وتلاه تلاوة . أما قراءته فهي لفظ آياته مع شرحها والتعليق عليها ومقارنتها مع غيرها ، وعلى هذا جاء قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف:204) . وأما تلاوة القرآن فهي لفظ آياته بالتتالي ، دون أي شرح أو تعليق أو مقارنة ، وعلى هذا جاء قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ (النمل:91-92) ، فالقرآن يقرأ للتدبر والفهم ، ويتلى للتعبد . ومن هنا قيل : القرآن هو المتعبَّد بتلاوته . أما الكتاب كله فيتلى للتعبد . قال تعالى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (البقرة:121) .

قال ابن عاشور :« وشأن القصص المفتتحة بقوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ أن يُقْصَدَ منها وَعْظُ المشركين بصاحب القصة ، بقرينة قوله تعالى بعد ذلك :﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ، ويحصل من ذلك- أيضًا- تعليمٌ ؛ مثل قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾(المائدة:27) ، وقوله :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ﴾(يونس:71) ، وقوله :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ﴾(الشعراء:69) ، ونظائر ذلك كثير . فالضمير في﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ عائد على حاضري محمد صلى الله عليه وسلم من كفار أهل الكتاب ، وغيرهم من مشركي العرب الذين وُجِّهَتْ إليهمُ العِبَرُ والمَواعظُ من أول هذه السورة ، وقصَّت عليهم قَصَصَ الأمم مع رسلهم .. ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قومًا تغلب عليهم الأميَّةُ ، فأراد الله تعالى أن يبلِّغ إليهم من التعليم ما يُساوونَ به حال أهل الكتاب في التلاوة » .

والنبأ في قوله تعالى :﴿ نَبَأَ الَّذِي ﴾ هو الخبرُ المَرْوِيُّ عن الأمر العظيم ، ومنه قوله تعالى :﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (النبأ:1-2) . والفرق بين النبأ والخبر : أن النبأ لا يوصف إلا بالصدق ، بخلاف الخبر ؛ ولهذا يقال : نشرة الأخبار ، ولا يقال : نشرة الأنباء .

تأمل بعد ذلك قوله تعالى :﴿ آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا ﴾ ، كيف أخبر سبحانه أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له ، لا بتحصيله هو . والمراد به : علَّمناه حججَ التوحيد ، وفهَّمناه أدلَّته ، حتى صار عالمًا بها . وقال تعالى :﴿ آَتَيْنَاهُ ﴾ ، ولم يقل :( أعطيناه ) ، لمَا في الإيتاء من سرعة الإعطاء وسهولته ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (البقرة:251) .

وقوله تعالى :﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ يدلُّ على أنه كان فيها ، ثم خرج منها . والتعبير عن ذلك بالانسلاخ ، المُنْبِىءِ عن اتصال المُحيط بالمُحاط خِلْقَةً ، وعن عدم الملاقاة بينهما أبدًا ؛ للإيذان بكمال مُباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال . والانسلاخُ من الشيء عبارةٌ عن البَراءة منه ، والانفصال والبعد عنه ؛ كالانسلاخ من الثياب والجلد . ويقال لكل من نبذ شيئًا وكفر به وفارقه بالكلية : انسلخ منه . وقيل : حقيقةُ الانسلاخ هي خروجُ جسد الحيوان من جلده حينما يُسْلَخُ عنه . يقال : انسلخت الحيَّة من جلدها ، إذا خرجت منه . واستُعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبُّس بالشيء ، أو عدم العمل به . وقيل : معنى الانسلاخ من الآيات : الإقلاعُ عن العمل بما تقتضيه ؛ وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية ، ومع ذلك فقد انسلخ منها ؛ كما ينسلخ الإنسان أو الحيوان من جلده ، فخرج بذلك من محبة الله إلى معصيته ، ومن رحمة الله إلى سخطه ، ونُزِع منه العلم الذي كان يعلمه .

وتأمل كيف قال تعالى :﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ ، ولم يقل : ( فسلخناه منها ) ؛ بل أضاف الانسلاخ إليه ، وعبَّر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ ، الدالة على تخليه عنها بالكلية ، وهذا شأن الكافر . وأما المؤمن ، ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه ، فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية .

وقال تعالى :﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ ، ولم يقل :( فتَبِعَهُ الشيطان ) ؛ لأن ( تَبِعَهُ ) معناه : سار في أَثَرِهِ . أما ( أتْبَعَهُ ) فمعناه : أنه لحق به وأدركه ، ومنه قوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴾(الشعراء:60) . أي : لحقوهم ووصلوا إليهم ، وقوله :﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾(الحجر:18) ، وقوله :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ ﴾(يونس:90) . وقيل : إن قوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ يدل على أن الشيطان كان آيسًا من كفره ، وقد انقطعت صلته به ؛ لكنه لما انسلخ من الآيات ، لحقه الشيطان ، وأخذ يوسوس له كلَّ يوم إلى أن جعله من الغاوين .

وقوله تعالى :﴿ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ . أي : كان من المتصفين بالغي . والغيُّ هو الضلال ، وهو أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية ، من أن يقال :( فغوى ) ، أو يقال : ( فكان غاويًا ) . وإنما كان قوله تعالى :﴿ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ أشدَّ مبالغة من أن يقال :( فكان غاويًا ) ؛ لأنه يشهد له بكونه معدودًا في زمرتهم ، ومعروفةٌ مساهمتُه لهم في الغواية .

وقال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن :« الغَيُّ : جهلٌ من اعتقاد فاسد ؛ وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادًا ، لا صالحًا ولا فاسدًا ، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد ، وهذا النحو الثاني يقال له : غَيٌّ » . قال تعالى :﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾(النجم:2) . أي : ما لابس الغَيَّ ، وهو جهل من اعتقاد فاسد . وقوله تعالى :﴿ إِِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾(القصص:18) . أي : بيِّن الغواية . وقال تعالى :﴿ وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ (الشعراء:91) . أي : الضَّالِّين عن طريق الحق .

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي برزة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« إن أخوفَ ما أخاف عليكم شهواتُ الغَيِّ في بطونكم وفروجكم ، ومُضلات الهوى » ؛ فإن الغي والضلال يجمع جميع سيئات بني آدم . وإن الإنسان ، كما قال تعالى :﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72) . فبظلمه يكون غاويًا ، وبجهله يكون ضالاً . وكثيرًا ما يجمع بين الأمرين ، فيكون ضالاً في شيء ، غاويًا في شيء آخر ؛ إذ هو ظلوم جهول ، ويعاقب على كل من الذنبين بالآخر ؛ كما قال الله تعالى :﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (البقرة:10) ، وكما قال :﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾(الصف:5) .

ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ، فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم ؛ وإنما هي باتِّباع الحق وإيثاره ، وقصد مرضاة الله تعالى ؛ فان هذا الإنسان كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه . فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه . والرافع هو الله تعالى ، يرفع عبده ، إذا شاء بما آتاه من العلم . وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحدٌ به رأسًا ؛ وذلك منوط بمشيئة الله تعالى . والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه ، وأقبل إلى غيره ؛ لأن الإعراض عن الله سبحانه ، وتكذيب آياته ظلم ، وقد حق القول منه سبحانه أنه ﴿ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾(البقرة:258) ؛ ولذلك عقب تعالى على قوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ بقوله :﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ، فأخبر عن السبب الذي منعه أن يرفع بهذه الآيات .

وقوله تعالى :﴿ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ . أي : لجأ إليها وسكن ، فكانت نفسه أرضية سفلية ، وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض ، يهبط من السماء .. وأصل الإخلاد من الخلود ، وهو الدوام والبقاء . يقال : فلان أخلد ولاذ بالمكان ، إذا أقام فيه مع الاطمئنان به ، ظانًّا أنه مخلد فيه إلى الأبد . ومنه قوله تعالى :﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾(الواقعة:17) . أي : خلقوا للبقاء ، لا يتغيرون ولا يكبرون . والخلد هو دوام البقاء في دار لا يخرج منها ؛ كالدار الآخرة ، وسمِّيت بدار الخلد ، لبقاء أهلها فيها . وقوله تعالى :﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾(الهُمَزَة:3) . أي : يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يموت .

وقوله تعالى :﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ معناه : أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات ، وانقاد لما دعاه إليه الهوى . والمعنى : لكنا لم نشأ ذلك ؛ لأنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه ، فبات في قلق دائم وانشغل بالدنيا وأعراضها . وكان ذلك مَوْردًا لإضلال الله تعالى له ، لا لهدايته ، كما قال تعالى :﴿ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ﴾(إبراهيم:27) .

فإن قيل : الاستدراك بـ( لَكِنَّ ) يقتضي أن يثبت بعدها نفي ما قبلها . أو ينفى ما أثبت ، كما تقول : لو شئت لأعطيته ، لكني لم أعطه . ولو شئت لما فعلت كذا ، لكني فعلته . فالاستدراك يقتضي أن يكون نظم الكلام هكذا :( ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنا لم نشأ ) . أو هكذا :( فلم نرفعه ) ، فكيف استدرك بقوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ ، بعد قوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ ؟

وأجيب عن ذلك بأن هذا من الكلام الملحوظِ فيه المعنى ، المعدولِ فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني ؛ وذلك أن مضمون قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات ، من إيثار الله ومرضاته على هواه ، ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه .

ثالثًا- ثم ضرب الله تعالى لهذا الإنسان الذي وصف من حاله ما وصف مَثَلاً بالكلب اللاهث على كل حال ، فقال سبحانه :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ . أي : مثله كهذا المثل . بمعنى : أن مثله يشبه هذا المثل . فالأول مشبَّه ، والثاني مشبَّه به . وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وكلاهما معنى موجود في الذهن . والمقصود منه بيان أن من أوتي الهدى ، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى ، ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان ، كان منتهاه إلى الهلاك ، وخاب في الآخرة والأولى . والله تعالى ذكر قصته ؛ ليحذر الناس من مثله .

فهذا هو مثل العالم الذي يؤثر الدنيا على الآخرة ، وهو شَرُّ تمثيلٍ في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ، بكلبٍ لاهثٍ أبدًا ، حُمِلَ عليه ، أو لم يُحْمَل ، فهو لا يملك ترك اللَّهَثان . قال مجاهد :« أي : إن تحمل عليه بدابتك أو رجلك يلهث ، أو تتركه يلهث .. وكذلك من يقرأُ الكتابَ ولا يعملُ بما فِيهِ » .

ومعلوم أن إيثار الجملة الاسمية على الفعلية ، بأن يقال :( فَصَارَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ.. الخ ) ، للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة ، وكمال استقراره واستمراره عليها . قال السدي وغيره :« إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث ، كما يلهث الكلب ، فشبه به صورة وهيئة » . وقال الجمهور :« إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتَى الآيات ، ثم أوتيها ، فكان أيضًا ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث ، في حال حمل عليه ، أو لم يحمل عليه » .

ومن الواضح أن التشبيه ليس هو بين هذا الإنسان ، والكلب ؛ وإنما هو بين مثله ، ومثل الكلب . ومثله يعني : المماثل له في تمام أحواله وصفاته ، وكذلك مثل الكلب . ولو كان المراد تشبيه هذا الإنسان بالكلب ، لوجب أن يقال :( فهو كالكلب ) ، وما أكثر الناس الذين يشبهون الكلاب ، وهم موجودون في كل زمان ومكان ، قال الشاعر العباسي إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدَويِّ في هجاء أحدهم :

كالكلب إن تحمل عليـ ** ـه الدهرَ ، أو تتركه يلهث

وقيل : التشبيه في المثل هو تشبيهٌ للهيئة المنتزعة مما اعترى هذا الإنسان- بعد الانسلاخ من الآيات- من سوء الحال ، واضطرام القلب ، ودوام القلق والاضطراب ، وعدم الاستراحة بحال من الأحوال ، بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب . وذكر ابن عاشور أن هذا التمثيل من مبتكرات القرآن ؛ فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جرَّاء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه ، وإن لم يكن لاضطراب باطنه سبب آت من غيره .

والكلب- مع ما عرف عنه من أمانة وإخلاص وذكاء- هو من أخبث الحيوانات ، وأوْضعها قَدْرًا ، وأخسِّها نَفْسًا ، وأشدِّها شَرَهًا وحِرْصًا . ومن شدة حرصه وشرهه- كما قال ابن القيم- أنه لا يمشي إلا وخَطْمُه في الأرض ، يَتشَمَّم ، ويسترْوح حرصًا وشرهًا ، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه ، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ؛ ليعضَّه من فرْط نهمته . وهو من أمْهَن الحيوانات ، وأحْملِها للهَوان ، وأرضَاها بالدنايا . والجِيَفُ القذرةُ المُرْوِحَةُ أحبُّ إليه من اللحم الطَّريِّ ، وإذا ظفر بميْتة تكفي مائةَ كلب ، لم يدع كلبًا واحدًا يتناول منها شيئًا ، إلا هرَّ عليه وقهره ؛ لحرصه وبخله وشرهه . ومن أبرز صفاته الذميمة التي لا تفارقه إنكارُه الضيف ، واللَّهَثُ على أيِّ حال .

وقال ابن منظور في لسان العرب :« اللَّهَثُ واللَّهَاثُ واللَّهَثانُ ، بفتح اللام المشددة فيها ، واللُّهَاثُ ، بالضم : حَرُّ العطش في الجوف . وقال الجوهري : اللَّهَْثانُ ، بالتحريك : العطشُ ، وبالتسكين : العطشان . وقال أيضًا : لَهَثَ الكلبُ ، بالفتح ، يلهَث لَهَثًا ولََُهَاثًا ، بالضم ، إذا أخرج لسانه من التعب ، أو العطش .. وكذلك الرجلُ إذا أَعْيَا . وفي التنزيل العزيز :﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ ؛ لأنك إذا حملت على الكلب ، نبح وولَّى هاربًا ، وإن تركته شدَّ عليك ونبح ، فيتعب نفسه مقبلاً عليك ، ومدبرًا عنك ، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان » .

وقال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج ، قال : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له ؛ مثل الذي يترك الهدى ، لا فؤاد له ؛ إنما فؤاده منقطع ، كان ضالاًّ قبل وبعد » . وقال ابن قتيبة :« كل شيء يلهث ؛ فإنما يلهث من إعياء ، أو عطشًا ، إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكَلال ، وحال الراحة ، وحال الصحة ، وحال المرض ، والعطش ، فضرَبه الله مَثلاً لمن كذَّب بآياته » .

وفي تشبيه مَثلِ هذا الضال في حال لهفه على الدنيا بمثل الكلب في حال لهثه سِرُّ بديع ، وهو أن الذي مَثلُه فيما ذكره الله تعالى من انسلاخه من آياته ، واتِّباعه هواه ؛ إنما كان لشدة لهفه على الدنيا ، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة ، فهو شديد اللَّهَف عليها . ولهَفُه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه ، فإنه في الكلاب طبع ، لا تقدر على نفض الهواء المتسخِّن ، وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها ، وانقطاع فؤادها ، بخلاف سائر الحيوانات ، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ، ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء .

والجملتان الشرطيتان :﴿ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ تفسير لما أبهم في المثل ، وتفصيل لما أجمل فيه ، وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه ، على منهاج قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، إثر قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ .

والخطاب في قوله تعالى :﴿ تَحْمِلْ عَلَيْهِ ﴾ ، وقوله :﴿ تَتْرُكْهُ ﴾ لمخاطب غير معيَّن ، فيشمل كل أحد ممن له حظ من الخطاب ؛ فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله . والمعنى : إن يحمل عليه حامل ، أو يتركه تارك . و﴿ تَحْمِلْ عَلَيْهِ ﴾ من الحَمْلة , لا من الحِمْل ، وهي المطاردة والهجوم . وفي تاج العروس للزبيديِّ :« حمل عليه حَمْلة منكرة » . وفي الصحاح للجَوْهَريِّ :« حمل عليه في الحرب حَمْلة . قال أبو زيد : يقال : حملت على بني فلان ، إذا أرَّشْت بينهم » . أي : حملت بعضهم على بعض وحرَّشت . والتأريش والتحريش : الإفساد .

وتحدَّث الدكتور كارم السيد غنيم الأستاذ بـ( كلية العلوم- جامعة الأزهر ) في مقال له بعنوان ( الكلب في حياة الإنسان ) تحدَّث عن لهــث الــكلب من الناحية الفسيولوجية ، فقال :« تبلغ درجة الحرارة الطبيعية لجسم الكلب ( 38.6م ) ، وهى أعلى من درجة جسم الإنسان المعتادة ، والبالغة ( 37م ) . وإذا كان جسم الإنسان يفرز عرقًا من غدده العرقية من أجل تبريد الحرارة ، إذا ارتفعت عن الدرجة المعتادة ، فإن الكلب يسلك مسلكا آخر هو ( اللهث ) ، فيخرج لسانه ، ويلهث حتى عند الراحة ، فيلهث بسرعة (10-30) لهثه ، أو نَفَس في الدقيقة ، ولكن بعد بذل مجهود أو التعرض لخطر ما ، فإنه يلهث بأكثر من عشرة أضعاف هذا المعدل . ويضطر الكلب لأن يلهث ، في التعب والراحة ، لعدم وفرة غدده العرقية التي لا توجد سوى في وسادات أقدامه ، فهي لذلك لا تسهم في خفض درجة حرارة جسمه إلا بقدر ضئيل .

ولمزيد من التفصيل ، فإن تدلِّي لسان الكلب وفتْحِ فمه أثناء اللهث ، يؤدي إلى إدخال أكبر كمية ممكنة من الهواء الجوي إلى الجهاز التنفسي ، وخلالها يتم تبخير جزء من الماء الموجود في الأنسجة التي يمرّ فيها الهواء ، وبالتالي تنخفض درجة حرارة الجسم ... كما يسلك الكلب مسلكًا مساعدًا ، فيلحس أرجله من جسمه ، ويبلل لسانه بلعابه ، فيتبخر هذا اللعاب ، وهو ما يفيده في خفض درجة حرارة جسمه » .

رابعًا- وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ إشارة إلى المَثَل المذكور بقوله تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ... ﴾ . أي : ذلك المثل السَّيِّء هو مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا . قال ابن عباس : يريد أهل مكة ، كانوا يتمنون هاديًا يهديهم ، وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم جاءهم من لا يشكُّون في صدقه وديانته فكذبوه ، فحصل التمثيل بينهم ، وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ؛ لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ، ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول ، فبقوا على الضلال في كل الأحوال ، كمَثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال .

وقيل : هم اليهود ، حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر القرآن المعجزة وما فيه ، فصدقوه ، وبشروا الناس باقتراب مبعثه ، فلمَّا جاءهم ما عرفوا ، كفروا به ، وانسلخوا من حكم التوراة . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾(البقرة:89) .

والظاهر أن المراد بقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ العموم ، فيعم جميع المكذبين بآيات الله سبحانه ، ويدخل في ذلك العموم اليهود ، وأهل مكة دخولاً أوليًّا ، وفُرِّع على ذلك الأمرُ بقوله تعالى :﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ . والقصص مصدر سمِّي به المفعول . واللام للعهد . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . أي : إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين ، فاقصصه عليهم حسبما أوحي إليك ؛ لعلهم يتفكرون ، فيقفون على جلية الحال ، وينزجرون عمَّا هم عليه من الكفر والضلال ، ويعلمون أنك قد علمته من جهة الوحي ، فيتعظون ، ويؤمنون ؛ فإن في القصص تفكُّرًا وموعظة ، وإن للأمثال واستحضار النظائر شانًا عظيمًا في اهتداء النفوس بها ، وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لمَا في التمثيل بالقصة المخصوصة من تذكُّر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التمثيل بالشيء المحسوس .

وقوله تعالى :﴿ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ استئناف بياني ؛ لأنه جُعِل إنشاءُ ذمٍّ لهم ، بأن كانوا في حالة شنيعة ، وظلموا أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله تعالى . وفي ذلك إشارة إلى أن التكذيب منهم سجيَّةٌ وهيئةٌ نفسانيَّة خبيثة لازمة ، فلا تزال آيات الله تعالى تتكرر على حواسهم ، ويتكرر التكذيب بها منهم . وفيه أيضًا إعلام لهم بأنهم لا يضرون شيئًا في هذا التكذيب ، بل ذلك ظلمٌ منهم لأنفسهم .

وقيل : إعادة لفظ ( الْقَوْم ) موصوفًا بقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ ، مع كفاية الضمير ، بأن يقال : ( سَاءَ مَثلًا مَثلُهم ) ؛ للإيذان بأن مدار السوء ما في حيِّز الصلة ؛ ولربط قوله تعالى :﴿ وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ به ؛ فإنه إما معطوف على قوله تعالى :﴿ كَذَّبُواْ ﴾ ، داخل معه في حكم الصلة ، بمعنى : جمعوا بين تكذيب آيات الله بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها ، وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة . أو منقطع عنه ، بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، فإن وَبالَه لا يتخطَّاها . وأيًّا ما كان ، ففي قوله تعالى :﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ لَمْحٌ إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمِّن للظلم ، وأن ذلك أيضًا معتبَر في القصر المستفادِ من تقديم المفعول .

وقيل : الظلم هنا على حقيقته ، فإنهم ظلموا أنفسهم بما أحلَّوْه بها من الكفر الذي جعلهم مذمومين في الدنيا ومعذبين في الآخرة . وتقديم المفعول للاختصاص . أي : ما ظلموا إلا أنفسهم ، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه . وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين ؛ وإنما يضُرون أنفسهم .

وعقَّب الله تعالى في ختام هذه الآيات ، على ما ذكر فيها من ذلك المثل الشاخص أمام العيون في ذلك المشهد المحسوس لذلك الإنسان الخسيس الذي آتاه الله تعالى آياته ، فانسلخ منها ، وما تلاه من وصف حال المشركين المكذبين ، بقوله :﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ، فقرَّر سبحانه بذلك- على سبيل الحصر- أن من يهده الله فهو المهتدي حقًّا ، ومن يضله الله فهو الخاسر حقًّا . وزيد في جانب الخاسرين الفصلُ باسم الإشارة ﴿ أُولَئِكَ ﴾ لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران ، تحذيرًا منه .

وقد أخبر الله تعالى أنه لا يهدي من عباده إلا من أراد الهدى لنفسه ، وجاهد من أجله ، كما قال في آية أخرى :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت:69) ؛ كذلك أخبر سبحانه أنه لا يضل إلا من أراد الضلال لنفسه ، وأعرض عن دلائل الهدى , وأغلق قلبه وسمعه وبصره دونها ؛ وذلك كما جاء في الآية التالية لهذه الآية الكريمة :

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف:179) ، وكما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (النساء:168-169) .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك


0 التعليقات:

إرسال تعليق