قالَ اللهُ عز وجل:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنبياء:30) .
تشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقتين من حقائق هذا الكون ، تدلان على إلهية الله تعالى ووحدانيته ، وأنه لا مبدع ولا خالق سواه : الأولى منهما تتعلق بوحدة هذا الكون العجيب الصنع . والثانية تتعلق بسرِّ الحياة في هذا الكون الفسيح .
أولاً- أما الحقيقة الأولى التي تتعلق بوحدة هذا الكون العجيب الصنع فهي التي يشير إليها الشِّقُّ الأول من هذه الآية الكريمة ؛ وهو قوله تعالى :﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ ، وهذه الحقيقة التي يقررها القرآن في هذه العبارة الموجزة منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة لم يصل العلم إلى إدراكها وتقريرها إلا في العصور المتأخرة . وهي أن السموات والأرض كانتا شيئًا واحدًا ، ففصل الله بينهما بإرادة وقدرته ، ورفع السماء إلى حيث هي ، وأقرَّ الأرض حيث هي . وهذا هو المعنى السليم الذي يفهم من ظاهر الآية . قال الشيخ محمد أبو زهرة : فالمعنى الظاهر لكل مُلمٍّ باللغة العربية هو أن السماوات والأرض كانتا متصلتين ، وهذا معنى سليم هو الظاهر ، والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض كتلة واحدة ، وكيف انفصلت الأرض وتكونت عليها القشرة الأرضية ، وكيف كان الماء العذب ، والملح الأجاج .
والمراد من الخطاب في قوله تعالى :﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ العموم ، فيشمل الذين كفروا بوجود الله سبحانه وبقدرته وسرِّ صُنعه في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة ، ويدخل فيه المشركون من العرب واليهود والنصارى دخولاً أوليًّا ؛ لأنهم كانوا على علم بوقوع هذه الظاهرة الكونية ، وبدلاً من أن يتدبروا قيها ويقودهم تدبرهم إلى الإيمان بالله وألا يشركوا معه في العبادة من دونه ، كفروا به ؛ ولهذا أنكر الله عز وجل عليهم غفلتهم عن آياته ، ونسيانهم لها ، وهو تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الدالة على عظيم قدرة الله تعالى وتصرفه .. ثم وبخهم تعالى في آخر الآية على عدم إيمانهم ، وعبادتهم من دونه ما لا ينفع ولا يضر .
ويعلم مما تقدم أن العرض من هذا الاستفهام هو التنبيه والتذكير على وجه الإنكار ؛ ولكن الزمخشري ذهب إلى أن الاستفهام هنا للتقرير ، فقال في ذلك ما نصُّه :« فإن قلت : متى رأوْهما رَتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أنه واردٌ في القرآن الذي هو معجزة في نفسه ، فقام مَقام المَرْئِيِّ المُشاهَد . والثاني : أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما ، كلاهما جائزٌ في العقل ؛ فلا بدَّ للتباين دون التلاصق من مخصِّص ، وهو القديم سبحانه » .
وحَمْلُ هذا الاستفهام على التقرير لا يستقيم مع المعنى المراد من الآية ؛ لأن التقرير بإجماعهم هو حَمْلُ المخاطب على أمر قد استقرَّ عنده وعلم به ، ثم جَحَدَه عنادًا واستكبارًا . وهؤلاء لم يَجْحَدوا ما علموا به ؛ ولكنهم غفلوا عنه ونسوه ، وبدلاً من أن يؤمنوا ، كفروا ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ( البقرة:89) .
وقرأ الجمهور :﴿ أََوَلَمْ يَرَ ﴾ بواو بعد الهمزة ، وقرأ ابن كثير :( أَََلَمْ يَرَ ) بدون واو . قال ابن عاشور :« والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري » ، ولا فرق في المعنى بينهما عند جمهور المفسرين ، إلا من حيث أن إدخال الواو في قراءة الجمهور لعطف ما بعدها على فعل مقدر قبلها . قال أبو السعود :« والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر .. أي : ألم يتفكروا ، ولم يعلموا » . وهذه – كما قال أبو حيان – نزعة زمخشرية ؛ وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام ، وبين الواو والفاء فعلاً يصح عطف ما بعدهما عليه . والمذهب الصحيح – كما قال – هو قول سيبويه والنحويين : أن الفاء والواو منويٌّ بهما التقديم ، لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، وأن الهمزة تقدمت ، لكون الاستفهام له صدر الكلام . وقد رجع الزمخشري أخيرًا إلى قول الجماعة ، وإليه ذهب الشيخ محمد أبو زهرة ، فقال في ذلك ما نصُّه :« الواو عاطفة ، وتقدمها الاستفهام ، وتقدير القول : وألم ير الذين كفروا ، والاستفهام له الصدارة دائما » ، وأضاف قائلاً :« والاستفهام لإنكار الوقوع . أي : أنهم لم يروا ، وكان حقهم أن يروا » .. وأما الرؤية فمنهم من قال : إنها قلبية ، ومنهم من قال : إنها بصرية ، وذهب ابن عاشور إلى أنها تحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية .
والتحقيق في هذه المسألة : أن الواو في هذا التركيب ( أَوَلَمْ يَرَ ) ونحوه مسلوبة الدلالة على العطف ، ومثلها في ذلك الفاء في قوله تعالى في آخر الآية :﴿ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ، والأصل في هذا التركيب :( أَلَمْ يَرَ ) بدون واو بعد الهمزة ، وهو تركيب يفيد الإثبات ، ويجرى في لسان العرب مجرى التنبيه ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾(الحج:63) . سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فقال :« هذا واجب ، وهو تنبيه ؛ كأنك قلت : أتسمع ؟ » . وفي النسخة الشرقية من كتاب سيبَوَيْهِ :« انتبهْ ! أنزل الله من السماء ماء ، فكان كذا ، وكذا » .
وكون هذا الاستفهام يفيد الإثبات ، ويجري مجرى التنبيه ، يقتضي أن ما بعده قد وقع ، وعلم الناس به ؛ إما عن طريق المشاهدة ؛ كما في الآية السابقة :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾(الحج:63) ، أو عن طريق السماع ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:1) ، فقد قيل في تفسيره : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة ؛ لكنه شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها ؛ فكأنه رآها .
ثم تدخل ( الواو ) بين الهمزة ، و( لم ) ، فتشير إشارة خفيَّة إلى حدوث فعل مغاير لما بعدها ، ما كان ينبغي أن يحدث ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ . أي : قد رأى الإنسان أنا خلقناه من نطفة ؛ ولكنه نسي ذلك وغفل عنه ، فأنكر قدرة الله تعالى على إحياء العظام الرميمة ، فذكَّره تعالى بمبدأ خلقه ؛ ليدله على النشأة الآخرة ، منكرًا عليه غفلته ونسيانه . ولو أنه تنبه وتذكر ، لما وقع منه ذلك الإنكار . وهذا المعنى الثاني ، وهو إنكار قدرة الله تعالى على إحياء العظام الرميمة ، هو الذي أشارت إليه هذه ( الواو ) التي أدخلت بعد الهمزة ، وهو معنى مغاير لما رآه ذلك الإنسان من خلق الله تعالى لذاته .
وكذلك قوله تعالى هنا في قراءة الجمهور :﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، فهؤلاء الذين كفروا علموا بوقوع هذه الطاهرة الكونية ، وإن لم يكونوا قد شاهدوها بأعينهم ، فإنهم شاهدوا آثارها وسمعوا بالتواتر أخبارها ، ولو لم يكونوا كذلك ، لما جاز خطابهم بهذا الخطاب الذي يقتضي أن ما بعده قد وقع وعلم به الناس . والدليل على أنهم كانوا على علم بذلك ما ذكره الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية الكريمة من قوله :« اليهود ، والنصارى كانوا عالمين بذلك ؛ فإنه جاء في التوراة : إن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينهما ، وكان بين عَبَدَةِ الأوثان ، وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك » .
ولا يعترض على ذلك بقوله تعالى :﴿ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾(الكهف:51) ؛ لأن هذه الآية تتحدث عن خلق السموات والأرض ، وعن الخلق الأول من الطين ، والآية التي نحن بصدد الحديث عنها تتحدث عن فتق الأرض عن السموات بعد خلقهما .
وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، ولم يقل :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُر الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ؛ لأن حقيقة النظر هي تقليب البصر حيال مكان المرئي طلبًا لرؤيته ، ولا يكون ذلك إلا مع فقد العلم . والشاهد قولهم : نظر ، فلم يَرَ شيئًا . أما الرؤية فهي إدراك الشيء من الجهة المقابلة ، وذلك لا يكون إلا مع وجود العلم . ولكون الرؤية لا تكون إلا لموجود ، والعلم يتناول الموجود والمعدوم ، قال تعالى هنا :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، ولم يقل :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَم الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ . وقال تعالى :( الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، ولم يقل :( الكافرون ) ؛ لأن الأول يحتمل أن يكونوا قد آمنوا ثم كفروا ، وأما ( الْكَافِرُونَ ) فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم ثابتة فيهم ، سواء كانوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، أو كانوا من المشركين عبدة الأوثان والأصنام .. فتأمل هذه الفروق الدقيقة بين هذه التراكيب !
ومن أسرار هذه الآية الكريمة أن لفظ ( السموات ) عندما يأتي بصيغة الجمع ؛ فإنما يراد منه التعبير عن ذوات هذه السموات أو وماهيتها ، وعندما يأتي بصيغة المفردً ؛ فإنما يراد به التعبير عن صفة هذه السماء ، وهي العلو ضد السُّفل . وأما لفظ ( الأرض ) إذا ذكر مع لفظ ( السماء ) بصيغة المفرد ، كان المراد منه المفرد ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾(الذاريات:23) ، وقوله :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾(يونس:31) ، وإذا ذكر مع لفظ ( السموات ) بصيغة الجمع ، كان المراد منه الجمع ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾(الأنبياء:30) ؛ ولهذا قال الشيخ ابن عطية :« الأرض هنا اسم الجنس ، فهي جمع » . وأما تقديم لفظ ( السموات ) على لفظ ( الأرض ) فغالبًا ما يأتي في سياق الآيات الدالة على وحدانية الله عز وجل وربوبيته ، كما في هذه الآية الكريمة وغيرها .
وكون السموات والأرض بصيغة الجمع يراد منه التعبير عن ماهيتهما وحقيقتهما هو من أقوى الأدلة على أن أنهما كانتا كتلة واحدًة ، ففصل الله تعالى بينهما بإرادة وقدرته ؛ إذ لو كان المراد أن السموات كانت رتقًا لا تمطر ففتقت بالمطر ، وأن الأرض كانت رتقًا لا تنبت ففتقت بالنبات ، لوجب أن يعبَّر عنهما بلفظ المفرد هكذا :( أولم ير الذين كفروا أن السماء كانت رتقًا ، وأن الأرض كانت رتقًا ، ففتقناهما ) ؛ لأن المطر بإجماعهم لا ينزل من مجموع السموات ، وإنما ينزل من سماء واحدة هي سماء الدنيا . ولو سلمنا جدلاً بأن لفظ ( السموات ) أطلق بصيغة الجمع ، وأريد منه المفرد ( السماء ) ، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين ، لكان المراد بذلك التعبير عن صفتهما لا حقيقتهما ، كما في قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾(الطارق:11-12) .
ولسائل أن يسأل : لماذا قال تعالى :﴿ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ ، ولم يقل :( كُنَّ رَتْقًا ) ؟ وأجاب الزمخشري عن ذلك بقوله :« وإنما قيل : كانتا ، دون كنّ ؛ لأن المراد : جماعة السموات وجماعة الأرض » . وقال المفضل :« إنما لم يقل كانتا رتقين ، كقوله :﴿ وَمَا جعلناهم جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام ﴾(الأنبياء:8) ؛ لأن كل واحد جسد ، كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق » .
وأفرد ( رَتْقًا ) ولم يثن ؛ لأنه في الأصل مصدر وضع موضع الاسم ، والمصادر إذا كانت مطلقة دون قيد لا تثنى ولا تجمع . وقال ابن عادل غي تفسير اللباب :« لما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم ، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم ، فقال :( رتقًا ) . أي : ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء » . والرَّتْقُ في اللغة : السَّدُّ والضمُّ والالتحامُ خلقة كان ، أم صنعة . والفَتْقُ : شَّقُّ الملتحمين ، والفصل بين المتصلين ، وهو ضد الرَّتْقِ . يقال : رَتَقَ فلان الفَتْقَ : إذا سَدَّه ، فهو يرتقه رَتْقًا ورُتًوقًا . والرتقاء : الجارية المنضمة الشفرتين ، والمرأة التي فرجُها ملتحمٌ . وفلان راتق وفاتق في كذا . أي : هو عاقدٌ وحالٌّ . ومقابلة الرتق بالفتق في الآية من أحسن البديع .
والفاء في قوله تعالى :﴿ً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ للترتيب والتعقيب ، فتفيد أن عملية الفتق أعقبت عملية الرتق ، وكانت السموات والأرض قبل ذلك كتلة واحدة من دخان ، وهو ليس الدخان المعروف ، وقد سماه علماء الكون : السديم . ويؤكِّد هؤلاء العلماء في أبحاثهم على أن الكون كله كان شيئًا واحدًا متصلاً من غاز ، ثم انقسم إلى سَدائمَ ، وأن عالمَنا الشمسي كان نتيجة لتلك الانقسامات . وقيل : المراد من السديم : السحب ، ويطلق فَلَكِيًّا على مجموعة هائلة من النجوم . ويؤيدون أقوالهم بأنهم استدلوا على أن الشمس تتألف من سبعة وستين عنصرًا من عناصر الأرض ، وأن عناصر الأرض تبلغ اثنين وتسعين عنصرًا ، وسيزيد المستدل عليه من العناصر في الشمس ، إذا ما ذللت الصعوبات التي تقوم في هذا الشأن . ومن هذه العناصر : الهيدروجين ، والهليوم ، والكربون ، والآزوت ، والأوكسجين ، والفسفور ، والحديد .. الخ . وقد استدلوا على ذلك كله بالتحليل الطيفي ؛ وهو الذي يستدل به الكيمّاويون اليوم في معاملهم على ما تحتويه المواد الأرضية من عناصر ، يكشفون عن نوعها ومقدارها . فالعناصر التي في الشمس هي عينها في الأرض ، والشمس نجم يتمثل فيه سائر النجوم . والنجوم هي الكون . وهذا يعني : أن العناصر التي بُنِيَ فيها الكون على اختلافها هي عناصر واحدة . هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، فإن النيازك هي الأشياء الملموسة الوحيدة التي حصل عليها العلم من الفضاء الخارجي ، فقد لاحظ العلماء أن أكثر العناصر شيوعًا في الأرض هي العناصر الشائعة في النيازك الحجرية .
ثانيًا- وأما الحقيقة الثانية التي تتعلق بسرِّ الحياة في هذا الكون الفسيح فقد أشار إليها الشق الثاني من الآية الكريمة ؛ وهو قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ ، فهذه العبارة القرآنية الموجزة تفرر حقيقةً علمية ثابتة ، وهي أن الماء هو المكوِّن الهام في تركيب مادة الخلية ، وهي وحدة البناء في كل كائن حيّ . ولقد أثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء ، وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها . فالماء سبب في بقاء كل شيء حي ، وذلك يعم النبات والشجر ، والحيوان والبشر ، ولولا الماء ، لما كان هناك نبات ، ولا شجر ، ولا حيوان ، ولا بشر .
ومن هنا نفهم لماذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ ، ولم يقل :( وخلقنا من الماء كل شيء حي ) ، فدل على أن كل شيء حي إنما جعل حيًّا من الماء . أي : بسبب الماء ، وهذا ما توضحه قراءة من قرأ :( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيًّا ) بنصب ( حيًّا ) على أنه مفعول ثانٍ لـ( جعلنا ) . وهذا يعني : أن كل شيء كان مخلوقًا ؛ لكنه لم يكن حيًّا ، فجعله الله تعالى حيًّا من هذا الماء الذي أحيا ببعضه الأرض بعد موتها ؛ كما قال تعالى :﴿ وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾(النحل:65) ، فتنكير ( الماء ) للبعضيَّة ، ونظيره قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾(الروم:24) . فإحياء الأرض هنا بالماء بعد موتها ليس خلقًا لها ، كما أن جعل كل شيء حي من الماء ليس خلقًا له ؛ لأن الإحياء ، والجعل عمليتان لا تكونان إلا بعد عملية الخلق .
وأما قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾(النور:45) فالمراد منه : أن الله تعالى قد خلق كل دابة من نوع مخصوص من الماء ، وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها ؛ فمنها هوامٌ ، ومنها ناسٌ ، ومنها بهائمٌ ؛ كما قال سبحانه :﴿ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾(النور:45) ؛ ولهذا استعمل هنا فعل الخلق ، وأتى بلفظ الماء نكرة ، فدل على أن شيئًا واحدًا ، قد تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة .. فتأمل أسرار الخالق عز وجل في خلقه ، وفي كلامه الذي سجد لبلاغته وفصاحته البلغاء والفصحاء !
ثالثًا- ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ، وهو حضُّ لهم على التدبر قي الآيات الكونية الدالةِ على تفرد الله عز وجل بالألوهية ، وتوبيخٌ لهم على عدم إيمانِهم وشركهم . ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة والقرآن الكريم يوجه أنظار الذين كفروا إلى عجائب صنع الله في هذا الكون , وينكر عليهم غفلتهم عنها ونسيانهم لها ، وهم يشاهدونها أو يشاهدون آثارها مبثوثة في الوجود ، ثم يوبخهم على عدم إيمانهم وإشراكهم مع مبدع هذا الكون من دونه في العبادة ، وكل ما حولهم في هذا الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم ، وعبادته تعالى وحده ! ومن هنا استحقوا التوبيخ . ومعنى إنكار تغافلهم عن الدلائل الدالة على ربوبية الله تعالى ، ثم توبيخهم على عدم الإيمان والشرك هو استبعاد ذلك منهم ، وأنه مما لا يصح أن يقع ، مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية .
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾(النحل:17) ، فهذا استفهام إنكاري ، بمعنى : إنكار الواقع ؛ لأنهم فعلاً عبدوا من لا يخلق شيئًا ، تشبيهًا له بمن يخلق كل شيء ، وإنكار الواقع توبيخ ؛ لأنه يكون استفهامًا عن واقع غير معقول ، فيكون الجواب منهم إقرارًا بأنهم يفعلون أمرًا غير معقول . وإلى نحو هذا ذهب أبو حيان ، فقال :« فأنكر عليهم ذلك بقوله :﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ﴾ ، ثم وبخهم بقوله :﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ . أي : مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة » .
وهذا المعنى الثاني ، وهو الحض على التدبر والتفكر مصحوبًا بالتوبيخ على عدم الإيمان في قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ، وعلى عدم التذكر في قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ ، هو الذي أفاده دخول الفاء بعد الهمزة فيهما . ولأن معنى الحض طلب بحثٍّ وفيه تنبيه ، قال السكاكي في ( مفتاح العلوم ) :« ويكون قوله ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ تنبيهٌ وتوبيخٌ على مكان التعريض » . وقال القزويني في ( الإيضاح في علوم البلاعة ) :« وقوله ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ تنبيهُ توبيخٍ عليه » . وأما أبو حيان فقد اقتصر في قوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾(يونس:3) على ذكر معنى الحض ، فقال :« أفلا تذكرون : حض على التدبر والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له » . والصواب في ذلك ونحوه أن يقال : حض وتوبيخ . وإنما قال السكاكي والقزويني : تنبيه وتوبيخ ، وقال أبو حيان في آية النحل السابقة : توبيخ ، وقال في آية يونس : حض ؛ لأن أصل ( أفلا ) : ( ألا ) بدون فاء ، وهي أداة تفيد معنى التنبيه ، والعرض ، والتحضيض ، فإذا قيل :( ألا تذكرون ) ، احتمل ذلك أن يكون تنبيهًا وعرضًا وتحضيضًا ، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد . فمن التنبيه قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام :﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ﴾(يوسف:59) ، ومن العرض قوله تعالى :﴿ ألاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ (النور:22) ، ومن الحض قوله تعالى :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ ﴾(التوبة:13) . فإذا دخلت الفاء بعد الهمزة ، صار الكلام نصًّا في التحضيض والتوبيخ .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق