قال الله عز وجل :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾(محمد:15) .
أولاً- هذا مثل آخر مثَّل الله تعالى به الجنة التي وعد المتقين بها ، وهو استئناف بياني مسوق للموازنة بين المتقين الأبرار ، والكفرة الفجار ، ولبيان ما أعد لكل منهما من الثواب والعقاب . ومناسبته لما قبله : أن الله تعالى لما ذكر الفرق بين حال الفريقيْن في الاهتداء والضلال ، والمنهج والسلوك في قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾(محمد:14) ، أتبعه ببيان الفرق في مرجع كل منهما ، ومصيره الذي ينتهي إليه .
فالذين آمنوا على بينة من ربهم ، رأوا الحق وعرفوه واتبعوه ، وهم على يقين من أمرهم ، غير مخدوعين ولا مضلَّلين ، والذين كفروا زين لهم سوء عملهم , فرأوه حسنًا ، واتبعوا أهواءهم بلا ضابط يرجعون إليه , ولا أصل يقيسون عليه , ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل ؛ فهؤلاء ليسوا كأولئك ؛ لأنهم يختلفون عنهم حالاً ومنهجًا واتجاهًا ؛ ولذلك لا يمكن أن يتفقوا ميزانًا ، ولا مصيرًا !
هذه الصورة المعنوية من صور التفرقة بين الفريقين في الحالة التي كانا عليها ، وهي كون الأول في أعلى علِّيين ، والآخر في أسفل سافلين ، أتبعها سبحانه بصورة حسية ، تبين الفرق بينهما في المرجع والمصير الذي ينتهي إليه كل واحد منهما ، فقال سبحانه :
﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ .
فالمتقون ينعمون في الجنة بما أعده الله تعالى لهم فيها من أنهار من ماء غير آسن , وأنهار من لبن لم يتغير طعمه , وأنهار من عسل مصفى , وأنهار من خمر لذة للشاربين ، ومن صنوف كل الثمرات ، مع مغفرة من ربهم ، تكفل لهم النجاة من النار ، والمتاع بما في الجنة . أما الكفار فهم في النار خالدون ، يسقون ماء حميمًا يقطع أمعاءهم جزاء كفرهم ، وهي صورة حسية عنيفة من العذاب تتناسب مع غلظ طبيعتهم ، وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . فهؤلاء الكفرة الفجار لا يمكن أن يكونوا سواء مع المتقين الأبرار في المصير وفي الجزاء ، كما أنهم لم يكونوا في الحال والمنهج سواء ، فلكل فريق ما يصلح له ويليق به من الجزاء ، وهذا ما أخبر الله تعالى عنه قبل بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾(محمد:14) .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ هو المطابق لها في تمام صفاتها ، وهو ما أخبر به عنها هنا بقوله تعالى :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ ، كما كان فوله تعالى في سورة الرعد :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾(الرعد:35) مثلاً لهذه الجنة ، خلافًا لما ذهب إليه جمهور المفسرين من القول بأنه ليس للجنة مثل ، وخلافًا للزجاج الذي ذهب إلى أن الآية هي تمثيل لجنة الآخرة بجنة الدنيا .
وقد سبق أن ذكرت في المثل الأول أن المثل لفظ يطلق على الشيءُ يُضرَبُ مثلاً لشيء آخر ، فيُجْعَل مِثْلَه ، أحدهما أصل ، والثاني فرع يقاس على الأصل للاعتبار به ، وقد يطلق المَثَلُ على الخير أو الحديث نفسه ؛ كقوله تعالى :﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ ، ثم أخبر :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوْا ذُبَابًا ﴾(الحج:73) ، فصار خبره عن ذلك مثلاً . وكذلك قوله تعالى هنا :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ ، ثم أخبر :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ ، فصار خبره عن ذلك مثلاً .
وهذا رأي الخليل بن أحمد ، ويؤيده ما حكاه ابن منظور في لسان العرب عن ابن سيدة عن الليث من قوله : إن ( مَثَلُ الْجَنَّةِ ) هو الخبر عنها . وأضاف ابن منظور قائلاً :« وقال عمر بن أبي خليفة : سمعت مُقاتِلا صاحب التفسير يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قول الله عز وجل ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ ﴾ : ما مثلها ؟ فقال :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ ﴾ . قال : ما مثلها ؟ فسكت أبو عمرو . قال : فسألت يونس عنها ، فقال : مثلها : صفتها » .
وعقَّب ابن منظور على جواب أبي عمرو بقوله :« وأما جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله : ما مثلها ؟ فقال :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ ﴾ . ثم تكريره السؤال : ما مثلها ؟ وسكوت أبي عمرو عنه ؛ فإن أبا عمرو أجابه جوابًا مقنعًا ، ولمَّا رأى نَبْوَة فهْم مُقاتِل سكت عنه ، لِمَا وقف عليه من غلظ فهْمه » .
فثبت أن مَثَلُ الْجَنَّةِ - كما قال الخليل والليث وأبو عمرو - هو الخبر عنها ، والخبر عنها - كما قال يونس - هو صفتها ، وصفتها هي قوله تعالى :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ . وأما القول بأن مثل الجنة معناه : صفة الجنة ، فهو خطأ لا ينبغي الأخذ به والركون إليه .
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه :﴿ مَِثَالُ الجََّنَّةِ ﴾ . ومثال الشيء- في الأصل- هو نظيره الذي يقابل به . وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن مسعود ، والسلمي :﴿ أَمِْثَالُ الجََّنَّةِ ﴾ . قال ابن جني :« وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة ، لما في ( مَثَل ) من معنى المصدرية » ؛ ولذلك جاز : مررت برجل مثلِ رجلين ، وبرجلين مثل رجال ، وبامرأة مثل رجل .
ثالثًا- وقال تعالى في سورة الرعد :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾(الرعد:35) ، فبين كيفية جريان الأنهار من تحت الجنة ، وقال تعالى هنا :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ ، فبين أن هذه الأجناس من الأنهار تجري في الجنة ، وفي ذلك دليل على أن هذه الجنة غير تلك ، وأن هذه الأنهار التي تجري في الجنة هي غير تلك الأنهار التي تجري من تحت الجنة ، خلافًا لمَا ذهب إليه المفسرون ، من أن الجنة في التمثيلين واحدة ، وأن الأنهار في الثانية تفسيرٌ للأولى ، وبيانٌ لكيفية جريانها ، وبيان ذلك من وجهين :
الأول : أن الله تعالى أخبر عن الأنهار الأولى بأنها تجري من تحت الجنة ، فقال :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ ، وأخبر عن الأنهار الثانية بأنها في الجنة ، فقال :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ ﴾ ، فدل على أن الأنهار الأولى عير الأنهار الثانية ، وأن الجنة التي تجري من تحتها الأنهار غير الجنة التي فيها الأنهار . أما الأولى فقد سميت بجنة عدن في قوله تعالى :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾(النحل:31) ، وفي قوله تعالى :﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾(ص:49-50) . وأما الثانية فقد سميت بجنة الخلد في قوله تعالى :﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً ﴾(الفرقان:15) .
والجنة إذا كانت مفردة فالمراد بها الجنس ، وإذا كانت مجموعة فالمراد بها العدد . والجنات التي ذكرت غفي القرآن خمسة : جنة النعيم ، وجنة الفردوس ، وجنة الخلد ، وجنة عدن ، وجنة المأوى .
والثاني : أن الله تعالى لم يذكر أن الأنهار الأولى أجناس ، بخلاف الأنهار الثانية ؛ لأن المعهود في الأنهار التي تجري من تحت الجنان أن تكون من جنس واحد ، هو الماء لا غير ؛ ولهذا أتى بالأولى معرَّفة بالألف واللام الجنسية ، وأتى بالثانية نكرة ، ثم ذكر أجناسها ، ونفى عن كل منها الآفة التي تعرض له في الدنيا .
فآفة ( الماء ) أن يأسن من طول مكثه . أي : يتغير لونه وطعمه . وماء هذه الأنهار ﴿ غَيْر آَسِنٍ ﴾ . أي : لم يتغير طعمه وريحه لطول مكثه في مكان معين ؛ سواء أنتن ، أو لم ينتن .
وآفة ( اللبن ) أن يتغيَّر طعمه إلى الحموضة ، وأن يصير قارصًا . ولبن هذه الأنهار لم يتغير طعمه ، وهو في غاية البياض والحلاوة والدُّسومَة . قال ابن عطية :« لم يتغير طعمه ، نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن » .
وآفة ( الخمر ) أنها كريهة المذاق والرائحة ، تصدع الرأس ، وتغتال العقل ، وتنزف في نفسها وتنزف المال ، وأنها رجس من عمل الشيطان ، توقع العداوة والبغضاء بين الناس ، وتصد عن ذكر الله ، وتدعو إلى الزنا ، وتذهب بالمروءة . وخمر هذه الأنهار حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل .
قال ابن عطية :« وقوله :﴿ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾ جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره » ، فهي لذيذة لهم ، ليس فيها كراهة طعم ، ولا غائلة سكر ؛ كخمور الدنيا ، وقد وصفها الله تعالى بقوله : ﴿ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ﴾(الصافات:46-47) .
و( لَذَّةٍ ) تحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون صفة مشبَّهة ، مؤنَّث : لذَّ ، وُصِفت بها الخمرة ؛ لأنها مؤنَّثة . يقال : طعامٌ لذٌّ ولذيذٌ ، وأطعمة لذَّة ولذيذة . وثانيهما : أن تكون وصفًا بنفس المعنى ، لا بالمشتق منه ؛ كما يقال للحليم : هو حلمٌ كلُّه ، وللعاقل : هو عقْلٌ كلُّه . وقال ابن عطية :« ولَذَّةٍ : نعت على النسب . أي : ذات لذة » . وقرئ :﴿ لَذَّةٌ ﴾ ، بالرفع صفة لأنهار ، و﴿ لَذَّةً ﴾ ، بالنصب . أي : لأجل لذة ، فهو مفعول له .
وأما آفة ( العسل ) فعدم تصفيته ، وعسل هذه الأنهار في غاية الصفاء ، وحسن اللون والطعم والريح ، وتصفية العسل مذهبة لسمومه وضرره . ووصفه بقوله :﴿ مُصَفًّى ﴾ ؛ لأن الغالب على العسل التذكير ؛ وهو ممَّا يذكر ويؤنث .
وقال تعالى في الخمر :﴿ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾ ، ولم يقل :( من خمرٍ لم يتغير طعمه للطاعمين ) ، كما قال ذلك في اللبن . وقال في العسل :﴿ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ ، ولم يقل :( مصفى للناظرين ) ، كما قال في الخمر :﴿ لِلشَّارِبِينَ ﴾ ؛ وذلك لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص ، فربَّ طعام يلتذُّ به شخصٌ ويَعافه الآخر ، فقال :﴿ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾ بأسرهم ؛ ولأن الخمر كريهة الطعم ، قال :﴿ لَذَّةٍ ﴾ . أي : لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم . وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس ؛ فإن الحلوَ ، والحامض ، وغيرهما يدركه كل أحد كذلك ؛ لكنه قد يعافه بعض الناس ، ويلتذُّ به البعض مع اتفاقهم على أن له طعمًا واحدًا . وكذلك اللون ، فلم يكن إلى التصريح بالتعميم حاجة .
والأنهار : جمع نهْر ، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض . وإطلاق لفظ الأنهار على أنهار الماء هو حقيقة . أما إطلاقه على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ . أي : مماثلة للأنهار ، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة ، ويجوز أن تكون سائحة على وجه الأرض ؛ فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا ، وهذا من آيات الله تعالى أن تجري أنهار من أجناس ، لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها ، ويجريها في غير أخدود ، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها . عن أنس بن مالك قال :« لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض ؟ والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذفر » ، وقال أبو حيان :« وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة . وإذا صح هذا النقل ، فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس . فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيًا وماؤه صافيًا منسابًا على وجه أرضه ، لا سيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآليء له خريرًا » .
وقيل : خصَّ هذه الأنهار بالذكر ؛ لأنها أفضل أشربة النوع الإنساني ، فالماء لشربهم وطهورهم ، واللبن لقوتهم وغذائهم ، والخمر للذتهم وسرورهم ، والعسل لشفاعتهم ومنفعتهم . وبدئ بالماء ؛ لأنه في الدنيا ممَّا لا يُستغنَى عنه ، لكونه حياة النفوس ، ثم باللبن ؛ إذ كان يجري مجرى المطعَم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ، ثم بالخمر ؛ لأنه إذا حصل الريُّ والمطعومُ ، تشوَّفت النفس إلى ما يلتذُّ به ، ثم بالعسل ؛ لأن فيه الشفاء في الدنيا ، مما يعرض من المشروب والمطعوم ، فهو متأخر بالرتبة .
رابعًا- ولمَّا كان الأكل في الجنة للذة ، أشار تعالى إلى الثمرات بعد ذكر الأنهار ؛ لأنها إنما تؤكل للذة ، بخلاف ما يؤكل للحاجة ؛ كاللحم والخبز وغيرهما ، فقال سبحانه :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ ، فاخبر سبحانه أن لهؤلاء المتقين في هذه الجنة - مع ما ذكر من فنون الأنهار - من كل الثمرات ، ومغفرة من ربهم . والتعريف في ( الثَّمَرَاتِ ) للجنس ، والمراد : لهم أصناف من جميع أجناس الثمرات ، و( كُلّ ) مستعملة في حقيقتها ؛ وهي الإحاطة . أي : جميع ما خلق الله من الثمرات ممَّا علموه في الدنيا ، وما لم يعلموه ممَّا خلقه الله للجنة .
وقال تعالى في المثل الأول :﴿ وَظِلُّهَا ﴾ ، وقال هنا :﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ . والظل فيه معنى الستر ، والمغفرة كذلك ؛ ولأن المغفور تحت نظر مِنْ رحمةِ الغافر . وظل الجنة هو رحمة الله ومغفرته ، حيث لا يمَسُّهم حَرٌّ ولا برد . و( وَمَغْفِرَةٌ ) عطف على ( أَنْهَارٌ ) وما بعده . أي : وفيها مغفرة لهم . وتنكيرها للتعظيم . أي : مغفرة عظيمة لا يُقادَر قدرُها . و﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ متعلق بمحذوف هو صفة لـ( مغفرة ) مؤكدة لما أفاده تنكيرها من التعظيم . أي : مغفرة كائنة من ربهم .
فإن قيل : المتقون لا يدخلون الجنة إلا بعد المغفرة ، فكيف يكون لهم فيها مغفرة ؟ والجواب عن ذلك : أن المراد بالمغفرة هنا : رفعُ التكليف عنهم فيها ، فيأكلون ويشربون من غير حساب ، بخلاف الدنيا ؛ فإن كل شيء فيها على حساب ، أو عقاب .
ووجهٌ آخر ، وهو أن الأكل والشرب في الدنيا لا يخلو عن استنتاج قبيح ، أو مكروه - كمرض أو حاجة إلى تبرُّز- فقال سبحانه :﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ . أي : لا قبيح على الأكل في الجنة بل مستور القبائح مغفور ، ذكر ذلك الفخر الرازي ، ثم قال معقبًا عليه :« وهذا استفدته من المعلمين في بلادنا ؛ فإنهم يعوِّدون الصبيان بأن يقولوا وقت حاجتهم إلى إراقة البول وغيره : يا معلم ! غفر الله لك ! فيفهم المعلم أنهم يطلبون الإذن في الخروج ، لقضاء الحاجة ، فيأذن لهم » ؛ ولهذا قال تعالى في حق الكافرين :﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ في مقابلة قوله تعالى في حق المتقين :﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ كأنه سبحانه قال : للمؤمنين أكلٌ وشربٌ طاهرٌ مطهَّرٌ ، لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة ، وللكافرين ماءُ حميمٌ في أول ما يصل إلى جوفهم يقطِّع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم .
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« يأكل أهل الجنة ويشربون ، ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ، طعامهم جُشاءٌ كريح المسك ، ويلهمون التسبيح والتقديس ، كما يلهمون النفس » .
خامسًا- وفي أوجه الاتفاق والاختلاف بين هذا المثل ، والمثل الأول قال الدكتور محمد جابر الفياض في كتابه ( الأمثال في القرآن الكريم ) :« ويتضح مما تقدم أن أبرز ما يلاحظه المتأمل في المثل الأول هو التأكيد على صفة الدوام وعدم النفاد ؛ فهذه الجنة : الأنهار تجري من تحتها في تجدد واستمرار ، وأكلها دائم وظلها كذلك . وإذا كان كل شيء فيها دائم لا انقطاع له ولا نفاد ، فليس هناك ما يقلق الإنسان ويبعث في نفسه الخوف وعدم الاستقرار ؛ لأن أكثر ما يقلق الإنسان ويقضُّ مضجعه هو خوفه من أن تزول النعمة التي بين يديه ويزول هو معها ، فهو أحرص على البقاء من أي شيء ؛ ولكنه حين يرى البداية تتمثل له النهاية ، تهدأ نفسه وتطمئن روحه .
وإذا كانت صفة الدوام في هذا المثل قد قتلت فكرة الفناء والزوال وبثَّت في النفوس الإنسانية ما بثت من اطمئنان ، فإن الظل قد أسهم إسهامًا واضحًا في ذلك ، فالفناء والزوال مرتبطان أشدَّ الارتباط وأوثقه في ذهن الإنسان بفكرة التحوُّل والتبدُّل والتغيُّر . كيف لا ، وهو يرى كل ما هو فانٍ في حياته متغيِّرًا متحوِّلا، أو قابلا للتغيُّر والتحوُّل ، حتى ارتسم في الأذهان أن ما يعجِّل في الفناء والزوال ؛ إنما هو التغير والتحول ، وخُيِّل إليه أن الليل والنهار فارسان يكرَّان عليه ويغيران فيه ، حتى يصلا به إلى نهايته .
وفي دوام الظل إيحاءٌ بدوام الحال : فلا ليلٌ ولا نهارٌ ، ولا صيفٌ ولا شتاء ، فظلها دائمٌ لا يتغيَّر . وما لا يتغير لا يكون عرضة للفناء والزوال . وذكر الظل ، فضلاً عن أنه سلب الدهر ما له من سلطان على النفس الإنسانية ، فإنه أسهم إسهامًا واضحًا في عمق الشعور بنعيم الجنة ؛ لأنه مرتبط بالراحة والطمأنينة ، ويكاد يكون رمزًا لهما ، فلا غرابة بعد هذا أن يُذكَر ويوصف بالدوام في معرض الحديث عن الجنة ودوام نعيمها ، وراحة المؤمنين فيها . أما النار فقد اكتفى سبحانه بذكرها ، من غير ما تفصيل في وصفها ، لِمَا في ذكرها من رهبة شديدة في النفوس . أما دوامها فقد عُلم من دوام الجنة ودوام نعيمها .
أما المثل الثاني فأبرز ما يلاحظه المتأمل فيه هو التركيز على شرح محاسن هذه الجنة الموعودة ؛ لأن المراد به حثُّ المؤمنين على مقاتلة المشركين ، وأن يعرضُوا عن حياتهم الدنيا ، وما فيها من متع فانية ونِعَم زائلة ، ويقدموا- مختارين راغبين- على الموت في سبيل الله . ولا يخفى ما يقتضيه هذا من تزيين للجنة وإبراز كثير مما فيها ؛ لكي يهون على المرء أن يضحِّي بحياته من أجلها .
أما المثل الأول فلم يُرد من المشركين أكثر من الإعراض عن إشراكهم إلى التوحيد ، والإعراض عن الشرك غير الإعراض عن الحياة . ولا ضرورة في المثل الثاني تقتضي التعجيل بذكر العقوبة ، كما هو الحال في المثل الأول ؛ إذ الحديث فيه موجَّهٌ للمؤمنين ، وعن الجنة التي يعوضهم الله بها عن حياتهم الدنيا التي ضحوا بها من أجله ، وهو هناك عن المشركين ، وما ينتظرهم من سوء المصير . وبهذا يمكن أن يعلل الإيجاز في الأول ، والتفصيل في الثاني .
يضاف إلى ذلك أن المثل الأول مكي ، وقد نعَت الله سبحانه مكة على لسان إبراهيم الخليل - عليه السلام - بقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم:37) ، فمكة لم تكن ذات زرع ، وأهلها ، وإن كانوا يعرفون الجنان ، فإنهم محرومون منها وفي أشدِّ الحاجة إليها ؛ فكان يكفي - في حثِّهم على الإيمان والتوحيد - أن يحظوا بجنة من غير ما تفصيل لِما تحويه تلك الجنة ، فكيف وقد وصفت بتجدُّد جريان الأنهار من تحتها ، وبدوام أكلها ، وظلها ؟
أما المثل الثاني فمدنيٌّ ، وأهل المدينة لهم جنانهم بما حوت من أنهار وثمار وظلال 0 فلا يكفي في إغرائهم مجرَّد الوعد بالجنة ، من غير ما إظهار لكثير مما فيها مما تفتقر إليه جنانهم ؛ كيما تهون عليهم التضحية بما عندهم ؛ ولهذا ذكر الله تعالى الأنهار بأجناسها ، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا وتنتقص منه ، بينما لم يصرح بذكر هذه الأنهار في المثل الأول ، واكتفى سبحانه بذكر الأنهار التي تجري من تحتها .
وما قيل في أنهارها ، يمكن أن يقال في ثمارها ، فقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ يوحي بالتعدُّد ، والتنوُّع أكثر مما يوحي به قوله تعالى في المثل الأول :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ ، وإن كان الأكُل شاملاً لكل ما يؤكل من الثمار وغيرها .
وهكذا جاء المثل الأول موجزًا مركِّزًا على صفة الدوام والبقاء وعدم تغير الأحوال والخلود إلى ظلال الراحة المبتغاة ، في حين جاء المثل الثاني مفصلا ، وقد بدا فيه تنوع النعم وتوفر ما لذَّ وطاب ضروريًّا كان ، وغير ضروري .
وبهذا يكون كلٌّ من المثلين متممًا للآخر ، غير مغن عنه ؛ اللهمَّ إلا إذا تركت أساليب البيان جانبًا ، وأخذت الأشياء مأخذ التجريد ، وعندها فما من شيء في أحدهما إلا في الثاني ما يقابله ؛ ولكن الذي رأيناه مما تقدم أن للفظ القرآن الكريم أثره في السياق ، ودلالته الخاصة به ، وإيحاؤه وتأثيره ودقيق معناه الذي يلازمه ، وظلاله في الصورة التي بكون جزءًا من مكوناتها ، ولا يمكن التعبير عنه- بنفس الدقة- باختيار لفظ آخر مهما كان التماثل بين اللفظين واضحًا .
فإذا صحَّ ذلك ، فإن المثلين - مع ما بينهما من أوجه شبه غير قليلة - بينهما من أوجه الخلاف ما ليس بأقل ، إن لم تكن أكثر ؛ ولهذا ، فليس المثل الثاني صورة مكررة من المثل الأول ، ولا يغني ورود هذا عن ورود ذاك ، كما يتبادر إلى بعض الأذهان » .
سادسًا- وأما قوله تعالى :﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ فهو استفهام مضمن معنى الإنكار ، مبنيٌّ على ما أرشد إليه السياق من أن التقدير : أمن هو في هذا النعيم الخالد ينعم بما أعده الله له فيه من أجناس الأنهار ومن صنوف كل الثمرات مع مغفرة من ربه جزاء اتقائه كمن هو خالد في النار وسقي ماء حميمًا فقطع أمعاءه جزاء كفره ؟ فالكافرون الفجَّار لا يمكن أن يكونوا سواء مع المتقين الأبرار في المصير وفي الجزاء ؛ كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾(ص:28) ؟ وهذا ما أكدته الآية الكريمة :﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم ﴾(الانفطار:14) .
والأصل في هذا الأسلوب - في لغة العرب - أن يكون للاستفهام معادل ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾(النحل:17) ؟ وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾(الملك:22) ؟
وقد يأتي المعادل للاستفهام محذوفًا . قال ابن فارس ، كما جاء في البرهان للزركشي :« ويسمى هذا عند العرب : الكفّ ، ويومئ إلى المحذوف : إما متأخر ؛ كقوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾(الزمر:22) ؟ فإنه لم يجئ له جواب في اللفظ ؛ لكن أومأ إليه قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله ﴾(الزمر:22) ، وتقديره :( أفمن شرح الله صدره للإسلام ، كمن قسا قلبه ) ؟ وإما متقدم ؛ كقوله تعالى :﴿ أمن هو قانت آناء الليل ﴾(الزمر:9) ؟ فإنه أومأ إلى ما قبله :﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً ﴾(الزمر:8) ؛ كأنه قال :( أهذا الذي هو هكذا خير ، أمَّن هو قانت ) ؟ فأضمر المبتدأ ، ونظيره :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ ، ( أمن هذه صفته ) ، ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ﴾ ؟ » .
ومن الأمثلة التي ذكرها الزركشي على هذا الأسلوب قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾(محمد:14) ، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾(فاطر:8) ، تقديره :( كَمَنْ هَدَاهُ اللهُ ) بدليل قوله تعالى بعده :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾(فاطر:8) ، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾(الزمر:22) ، تقديره :( كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ ) بدليل قوله تعالى بعده . ثم قال : وقد جاء في التنزيل موضع صرح فيه بهذا الخبر ، وحذف المبتدأ على العكس مما نحن فيه ، وهو قوله تعالى :﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾(محمد:14) . أي : أكمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار ، كمن هو خالد في النار ، على أحد الأوجه ، وجاء مصرحًا بهما على الأصل في قوله تعالى :﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ (الأنعام:122) ، ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾(محمد:14) .
والضمير المفرد ( هُوَ ) في قوله تعالى :﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ﴾ راجع إلى ( مَنْ ) باعتبار لفظها ، كما أن ضمير الجمع في قوله سبحانه :﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ راجع إليها باعتبار معناها ، والمراد وسقوا ماءً حارًا مكان تلك الأشربة ، وفيه تهكم بهم ، ﴿ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ من فرط الحرارة ، فخرجت من أدبارهم .. تعوذ بالله من النار وحال أهلها ، ونسأله سبحانه أن يجيرنا منها ، وأن يجعلنا من عباده المتقين ، والحمد لله رب العالمين !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق