الأحد، 12 فبراير 2012

مثل الجنة التي وعد المتقون (1)


قال الله عز وجل :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد:35) .

أولاً - هذه الآية الكريمة هي إحدى آيتين سيقتا في تمثيل الجنة التي وعد بها المتقون ، ومناسبتها لما قبلها : أن الله تعالى لمّا بين حال فريقي المؤمنين والمشركين في الاهتداء والضلال ، قال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (الرعد:34) ، فبيَّن سبحانه أن عذاب الآخرة أشق بكثير من عذاب الدنيا ؛ لأن هذا له انقضاء ، وذاك دائم أبدًا في دار هي بالنسبة إلى الدنيا أضعاف مضاعفة ، ثم بيَّن عقب ذلك ما أعد لكل واحد من الفريقين من الثواب والعقاب ، فقال سبحانه :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد:35) .

فهذه الجنة التي وصفت بما وصفت بجريان الأنهار من تحتها وبدوام أكلها وظلها ، وذلك العذاب الذي وصف بأنه أشق من عذاب الدنيا ، هما النهاية الطبيعية لهؤلاء المؤمنين المتقين ، وأولئك الكفرة المشركين .

ثانيًا - وجمهور العلماء على القول بأن قوله تعالى :﴿ مَثَلَ الْجَنَّةِ ﴾ مغناه : صفة الجنة ، وأنه ليس بضرب مثلها ؛ لأن الجنة لا مَثَل لها عندهم . وأنكر أبو علي الفارسي أن يكون المثل بمعنى : الصفة ، وقال : إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ، ولم يوجد فيها ؛ وإنما معناه : الشبه .

وتفسير المثل هنا بمعنى الصفة هو - على قول الزركشي - ظاهر كلام أهل اللغة ، وأكثر المتأخرين على تفسيره بالصفة الغريبة ، وهذا ما أشار إليه الألوسي بقوله :« مثل الجنة : نعتها وصفتها ؛ كما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة » ، ثم قال :« وأكثرهم على تفسيره بالصفة الغريبة » . وارتفاعه على الابتداء ، والخبر محذوف على مذهب سيبويه والجمهور . أي : فيما قصصناه عليكم مثل الجنة ، وجملة ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ تفسير لذلك المثل . وقال غيره : الخبر جملة ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ ، على طريقة قولك : صفة زيد يأتيه الناس ويعظمونه . واعترض على هذا بأنه غير مستقيم معنى ؛ لأنه يقتضي أن الأنهار تجري من تحت صفة الجنة ، وهي تجري من تحتها لا من تحت صفتها .

وعن الزجاج أن الخبر محذوف ، وجملة ( تجري من تحتها الأنهار ) صفة له ، والتقدير : مثل الجنة ( جنة ) تجري من تحتها الأنهار ، فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة الآخرة بجنة الدنيا ، ويكون سبحانه بذلك قد عرَّفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من جنة الدنيا وعايناه .

وحكى القرطبي قول الزجاج السابق ، ثم قال :« وأنكره أبو علي ، فقال : لا يخلو ( المثل ) على قوله أن يكون : الصفة ، أو : الشَّبه . وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله ؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة ، لم يصح ؛ لأنك إذا قلت : صفة الجنة جنة ، فجعلت الجنة خبرًا ، لم يستقم ذلك ؛ لأن الجنة لا تكون الصفة ، وكذلك أيضًا : شبه الجنة جنة . ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين ، وهو حدث ، والجنة غير حدث ، فلا يكون الأول الثاني » .

وذهب المبرد إلى أن التقدير في الآية :( فيما يتلى عليكم مثل الجنة ) ، ثم قال :( فيها وفيها ) ، فقدر الخبر محذوفًا مقدمًا على المبتدأ موافقًا في ذلك سيبويه ، ومخالفًا له في كون ( المَثَل ) بمعنى : الصفة ، يبين ذلك قوله : عقب قوله السابق :« ومن قال : إنما معناه : صفة الجنة ، فقد أخطأ ؛ لأن ( مَثَل ) لا يوضع في موضع ( صفة ) ؛ إنما يقال : ( صفة زيد أنه ظريف ، وأنه عاقل ) ، ويقال :( مثل زيد مثل فلان ) ؛ وإنما ( المَثَل ) مأخوذ من المثال والحذو ، و( الصفة ) تحلية ونعت » .

وقال الدكتور محمد جابر الفياض في كتابه ( الأمثال في القرآن الكريم ) تعقيبًا على ما ذكره من أقوال في هذه الآية التي اضطربت الأقوال واختلفت الآراء في تأويلها :« والظاهر أن ما ذهب إليه الزجاج هو أقرب لمفهوم المثل في اللغة والقرآن الكريم ممَّا ذهب إليه غيره » ، ثم ذكر أن ما اعترض به الفارسي على الزجاج لا يقدح في صحته ؛ لأن الزجاج لم يرد بالمثل : الصفة ، أو : الشبه ؛ وإنما أراد به :( المثال ) ، وهذا ما يفهم من قوله الذي نقله عنه المفسرون ، ويؤيده ما ذهب إليه المبرد من أن ( المثل ) مأخوذ من المثال والحذو .

ثالثًا - وتعقيبًا على ما تقدم أقول : ظاهر قوله تعالى :﴿ مَثَلَ الْجَنَّةِ ﴾ يقتضي أن يكون للجنة مَثَلٌ . ومثلها هو المطابق لها في تمام صفاتها ، وهو ما أخبر به عنها هنا بقوله :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾ ، خلافًا لما ذهب إليه جمهور المفسرين من القول بأنه ليس للجنة مثل ، وخلافًا للزجاج الذي ذهب إلى أن الآية هي تمثيل لجنة الآخرة بجنة الدنيا . ويبين لك ذلك :

أن المثل لفظ يطلق على الشيءُ يُضرَبُ مثلاً لشيء آخر ، فيُجْعَل مِثْلَه ، أحدهما أصل ، والثاني فرع يقاس على الأصل للاعتبار به ؛ كقولك : مثل هذا كمثل هذا ، وقولك : مثل هذا كهذا ، وقولك : هذا كمثل هذا ؛ فمن الأول قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾(البقرة:17) ، ومن الثاني قوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾(النور:35 ) ، ومن الثالث قوله تعالى :﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ (الحديد:20) .

وقد يطلق المَثَلُ على الخير أو الحديث نفسه ؛ كقوله تعالى :﴿ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ ﴾(الفتح:29) مشيرًا إلى ما أخبر عنه بقوله تعالى :﴿ مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود (الفتح:29) ، فهذا الخبر الذي أخبر به عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في القرآن صار مثلاً لهم في التوراة . أي : ذلك الخبر الذي تضمن صفاتهم هو مثلهم في التوراة . قال الخليل :« وكذلك قوله تعالى :﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ ، ثم أخبر :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوْا ذُبَابًا (الحج:73) ، فصار خبره عن ذلك مثلاً » .

وأضاف الخليل قائلاً :« ولم تكن هذه الكلماتُ ونحوُها مَثَلاً ضُرِبَ لشيءٍ آخر ؛ كقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ ﴾(الجمعة:5) ، و ﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ﴾ (الأعراف:176) » ؛ ولهذا أشكل هذا المثل على الكثيرين ، حتى اعترض بعضهم ، فقال : أين المثل المضروب ؟

ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ مَثَلَ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ ، ثم أخبر بقوله :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ ، فصار هذا الخبر مثلاً للجنة . وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما :﴿ مَِثَالُ الجََّنَّةِ ، ومثال الشيء - في الأصل - نظيره الذي يقابل به . وعن علي أيضًا ، وابن عباس ، وابن مسعود ، والسلمي :﴿ أَمِْثَالُ الجََّنَّةِ ، وليست هذه القراءة دليلاً على أن المثل معناه : الصفة ، كما ذهب إلى ذلك بعضهم ؛ وإنما هي دليل كما قال ابن جني - على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة ، لما في ( مَثَل ) من معنى المصدرية . وكذلك قراءة :﴿ مَِثَالُ الجََّنَّةِ ليست دليلاً على أن المثل معناه : المثال ، أو أنه مأخوذ منه ؛ لأن كليهما من قولك : مثلت الشيء تمثيلاً . وتمثيل الشيء إما أن يكون بمثال ينصب ، أو يكون بمثل يضرب ، وبيان ذلك من وجهين :

الوجه الأول : أن ( مِثال ) يجمَع على : مُثُل ، وأمثلة ، ومنه أمثلة الأفعال والأسماء في باب التصريف ؛ كقول سيبويه في تعريف الفعل :« وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وبنيت لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، وما هو كائن لم ينقطع » . وعليه يقال : فأما ما بني لما مضى فمثاله : ذهب وسمع . وأما ما بني لما لم يقع فمثاله قولك آمرًا : اذهب واقتل واضرب ، ومخبرًا : يذهب و يقتل ويضرب ويقتل ويضرب ، وكذلك مثال ما بني لما لم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت . ولا يقال في ذلك ونحوه : مثله كذا وكذا ؛ لأن ( مَثَل ) يجمع على : أمثال ؛ كقوله تعالى :﴿ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (إبراهيم: 45) ، بدليل قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ (الروم:28) ، والفرق واضح بين أن يقال : مثال الفعل : ذهب وسمع ، وأن يقال : مَثَلُ الفعل فعلٌ .

والوجه الثاني : أن ( المَثَل والمِثال ) من قولك : مثَّلت له الشيء بالشيء ؛ إذا قدَّرت الثاني على قدْر الأول ؛ فإن كان ذلك بطريق الكتابة فهو ( مَثَل ) ، وإن كان بطريق غير الكتابة ؛ كالنحت أو الرسم أو التصوير فهو ( مِثال ) ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم :« رأيت الجنة والنار ممثلتين في قبلة الجدار »

أي : مصورتين . وفي حديث أنس :« لقد عرضت علي الجنة والنار في عرض هذا الحائط وأنا أصلي » . وفي رواية أخرى :« لقد صورت » . ولمسلم :« لقد مثلت » . أي : صوِّرت له صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في عرض الحائط ، كما تنطبع الصورة في المرآة ، فرأى جميع ما فيها . وكذلك مُثِّل له صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حين كذَّبه الكفار بالإسراء ، فنظر إليه وجعل يخبرهم عنه . فتصوير الجنة وبيت المقدس للرسول صلى الله عليه وسلم هو مِثال ، وليس بمَثَل ، وعلى ذلك تحمل قراءة من قرأ : ( مثال الجنة ) .

ومهما يكن من شيء ، فـ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ليس هو جنة الآخرة ذاتها ، وليس هو مجرَّدَ وصفٍ لها ؛ وإنما هو وصف لها ؛ وإلا لقيل : ( الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ) بإسقاط لفظ ( مثل ) ؛ وإنما هو تمثيل لها عن طريق الإخبار عنها تمثيلاً يقربها للأفهام والأذهان ، ويجعلها ماثلة شاخصة أمام العيون .

رابعًا - وفي قوله تعالى :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا إعلام – كما قال الفخر الرازي - بأن مَجامعَ اللذة كلها في المسكن والمطعم والراحة والأمان . أما المسكن فقد أشير إليه بقوله تعالى :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ . وأما المطعم فقد أشير إليه بقوله تعالى :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ . وأما الراحة والأمان فقد كُنِّيَ عنهما بقوله تعالى :﴿ وَظِلُّهَا .

ومعنى جريان الأنهار من تحتها : أنها تجري من تحت أشجارها وغرفها ومنازلها وقصورها مباشرة ؛ وكأن هذه الجنة مستقرَّة فوق مياه تلك الأنهار . ولإفادة هذا المعنى قال تعالى :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ، ولم يقل :( تجري تحتها ) ، فجاء بالأداة ( مِنْ ) التي تدل على ابتداء الغاية . أي : جريان الأنهار يبدأ من هذه الجهة التي هي تحت الجنات مباشرة . وفي التعبير بصيغة المضارع ( تجري ) دلالة على استمرار جريان هذه الأنهار دون انقطاع .

وما أُوجِزَ هنا جاء مفصلاً في نحو قوله تعالى :﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾(الزمر:20) ، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾(العنكبوت:58) . وهذا ما يجعل مسكن هذه الجنات طيِّبًا ، ومطعمها لذيذًا ، وعيشها رَغَدًا .

ونحو ذلك ما ورد على لسان فرعون من قوله :﴿ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الزخرف:51) ، فقال :( تجري من تحتي ) ، وهو يريد : تجري من تحت قصوره ، كما تجري من تحت غرف الجنة .

وفي قوله تعالى :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تأكيد على صفة الدوام ، فليس هناك ما يقلق الإنسان من فناء وزوال . أي : وظلها كذلك . ومعنى دوامهما : أنهما لا ينقطعان ، ولا يزولان أبدًا . وفيه بيانٌ لفضل هذه الجنات ، وتمييزها عن جنات الدنيا ، وهو مشهد تطمئن له النفس وتستريح ؛ وذلك في مقابل المشقة والعذاب في النار .

وقال تعالى :﴿ أُكُلُهَا ﴾ ، ولم يقل :( ثمرها ) ؛ لأن ( الأكُلُ ) أخصُّ من الثمر ، فيطلق على كل ما يؤكل من الثمر وغير الثمر . وأما ( الثمر ) فيطلق على ما يؤكل ، وما لا يؤكل . وقال :﴿ وَظِلُّهَا ، ولم يقل : ( وفيؤها ) ؛ لأن الظل أعم من القيء . يقال : ظلُّ الليل ، ولا يقال : فيؤه . ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس : ظِلٌّ ، ولا يقال الفيْءُ إلا لِمَا زالت عنه الشمس . وقيل : الظل ما نسخته الشمسُ ، والفيء ما نسخ الشمسَ . وقيل : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل , وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل ، ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة ، بخلاف الفيء .

وفي قوله تعالى :﴿ وَظِلُّهَا إيجاز بالحذف بليغ ، فقد حذف الخبر لدلالة ما قبله عليه ، وتقديره : وظلها كذلك . أي : دائم ، وحذفه أبلغ من ذكره ؛ بل ذكره ربما يفسد العبارة ؛ لأن المعنى مكتمل بدونه . ومعنى دوامه : أنه لا يول كما يزول في الدنيا بالشمس ؛ إذ لا شمس هناك ولا قمر ، ولا ليل ولا نهار .

ومن نعم الله عز وجل على عباده أن مدَّ لهم الظل في الدنيا ، وجعله متحركًا ، ولم يجعله ثابتًا مستقرًّا ؛ كظل الجنة ، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾(الفرقان:45) . و﴿ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ : بسطه ، بعد أن كان منقبضًا ؛ ومنه قولهم : مدَّ الحبل ، ومدَّ يده . ويطلق المدُّ ، ويراد به الزيادة في الشيء ، وهو استعارة شائعة ، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل . والمعنى : ولو شاء ربك ، لجعل الظل ثابتًا مستقرًّا على تلك الحالة أبدًا . وفي ذلك تذكير للعباد بأن في جعل الظل متحركًا غير ثابت مِنَّة من الله تعالى عليهم ، تستوجب الحمد والشكر .

خامسًا- وكثيرًا ما يقرن الله عز وجل بين صفة الجنة وصفة النار ؛ ليرغب في الجنة ، ويحذر من النار ؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر ، قال :﴿ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ . أي : تلك الجنة التي مثلت بما مثِّلت به هي مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق ، واجتنبوا الشرك ، وهي منتهى أمرهم . أما مآل الكافرين الذين أشركوا ، ومنتهى أمرهم فهو نار جهنم خالدين فيها أبدًا ، وبئس القرار .

وحاصل الكلام : أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب ، موصوفة بصفة الدوام ، وأن ثواب الكافرين مضارٌّ يشوبها التكدير ؛ فهؤلاء مآلهم ومنتهى أمرهم الخلود في النار لا غير ، وأولئك مآلهم ومنتهى أمرهم الخلود في الجنة لا غير ، كما يُؤذِن به تعريف الخبر في الجملتين ، وفي ترتيب النظم البديع على هذا النحو إطماع للمتقين ، وإقناط للكافرين !

وقيل : العُقْبَى ، وكذلك : العُقْبُ والعاقبة ، حالات تتلو حالات أخرى قبلها ، وهي من قولهم : عقَب فلان فلانًا ، إذا تلاه عَقْبًا . وقيل : العُقْبَى ، والعُقْبُ يختصان بالثواب ؛ كما في قوله تعالى:﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (الرعد:22) ، وقوله تعالى :﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (الكهف:44) . أما العاقبة فإطلاقها دون قيد يختصُّ بالثواب ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأعراف:128) . وقد تستعمل في العقوبة مقيدة بالإضافة ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ﴾(آل عمران137) ، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (الروم:10) .. نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن لهم عقبى الدار ، والحمد لله رب العالمين !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق