الأحد، 12 فبراير 2012

سر تنكير لفظ ( السلام ) وتعريفه


قال الله عز وجل في تسليمه على يحيى عليه السلام :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾(مريم:15) ، ثم قال في تسليم عيسى عليه السلام على نفسه :﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(مريم:33) ، فأتى بلفظ ( السلام ) في الآية الأولى نكرة ، وأتى به في الثانية معرفة ، وقيَّد كليهما بيوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث .

فما السر في تسليم الله عز وجل على يحيى بلفظ النكرة ، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة ، وأيهما أتم وأولى ؟ وما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة : يوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث ؟ وقبل الإجابة عن ذلك نقول ، وبالله الاستعانة :

أولاً- لكل قوم من الأقوام تحيَّة يحيون بها بعضهم بعضًا .. فتحيَّة النصارى هي : وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود هي : الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس هي : الانحناء . وتحية الفرس هي قولهم : هزا رساله ميمايي . أي : تعيش ألف سنة . وكل قوم لهم تحية من هذا الجنس ، أو ما أشبهه ، ولهم تحية يخصون بها ملوكهم من هيئات خاصة عند دخولهم عليهم ؛ كالسجود ، ونحوه ، وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السوقة .

أما العرب فتحيتهم في جاهليتهم الأولى لملوكهم هي قولهم : أنعم ، أو عم صباحًا ، ومساء . وأما تحيتهم لبعضهم البعض فهي قولهم : حيَّاك الله ! وقد يزيد بعضهم فيقول : حياك الله ، وبيَّاك . أي : أطال الله حياتك ، وبوَّأك منزلاً حسنًا . وكل ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها ؛ ولهذا سميت : تحيَّة ، وهي : تَفْعِلَةٌ من الحياة ، كتكرمة من الكرامة ، وأصلها : تحْيِيَة ، ثم نقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ، ثم أدغمت في الثانية ، فصارت : تحيَّة .

ولما جاء الإسلام ، أبدل المسلمين تلك التحية التي عرفوها في جاهليتهم الأولى بتحية أحسن منها ، وهي عبارة ( السلام عليكم ) ، وشرعها تحيَّة للمسلمين ، يحيِّي بها بعضهم بعضًا ، وحضَّهم على إفشائها ، والإكثار من تردادها ، وإلقائها على من يعرفوا ، ومن لم يعرفوا . وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو محال وكذب ؛ كقولهم : تعيش ألف سنة ، وما هو قاصر المعنى ؛ كقولهم : أنعم صباحًا . ومنها ما لا ينبغي إلا لله ؛ كالسجود ، فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله ؛ وذلك لتضمن السلام معنيين : أحدهما : ذكر الله تعالى . والثاني : طلب المسلِّم السلامة من الله سبحانه للمسَلَّم عليه ، وتأمينٌ له بالسلام ؛ لأنه إذا دعا له بالسلامة ، فهو مسالم له ، فكان الخبر كناية عن التأمين . وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير ؛ لأن السلامة لا تجامع شيئًا من الشر في ذات المسلِّم ، والأمان لا يجامع شيئًا من الشر يأتي من قِبل المعتدي ، فكانت دعاء ترجى إجابته ، وعهدًا بالأمن يجب الوفاء به .

ولما كانت الجنة هي دار السلامة من كل عيب وشر وآفة ؛ بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش والحياة ، كانت تحية أهلها فيها سلام ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ َتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾(إبراهيم:23) ، وكانت تحيَّة الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين يوم اللقاء : سلام ، كما ينصُّ عليه قوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾(الأحزاب:44) ؛ فهذه تحيتهم من الله تعالى يوم يلقونه ، كما يحيِّى الحبيب حبيبه . ولولا قوله تعالى بعد ذلك :﴿ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (يس:58) ، لاحتمل أن تكون التحيَّة لهم من الملائكة ،لا كما في قوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (الرعد:24-25) .

ولما كان الإسلام هو دين السلام ، وكان لفظ السلام جامعًا للمعنيين السابقين : ذكر الله تعالى ، وطلب السلامة ، جعله الله تعالى تحيَّة الإسلام ، وامتن بهذه التحيَّة على المسلمين بأن جعلها من عنده سبحانه مباركة طيبة ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً (النور:61) . وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يعامل معارضيه وخصومه قائلاً :﴿ فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾(الزخرف:89) . ومن هنا كان السلام أحد الأسباب المفضية إلى الإيمان ، فالمحبة ، فدخول الجنة . روى الترمذي عن عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :« يا أيها الناس ! أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام » .

ثانيًا- فلنرجع بعد هذا إلى المقصود ، وهو الجواب عن السؤالين اللذين بدأنا بهما : سر تنكير لفظ ( السلام ) وتعريفه وأيهما أولى ، والحكمة في تقييده بيوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث ؟ فنقول :

أ- أما السؤال الأول فيجاب عنه بأن يقال : إن الأصل في الأسماء التنكير ، فجاء تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- على الأصل ، والعرب في ألفاظ ( الدعاء والطلب ) من المصادر والأحداث إنما يأتون بالنكرة إما منصوبة على المصدر ، أو مرفوعة على الابتداء ؛ فمن الأول قولهم :« سَقْيًا لهم ورَعْيًا » ، ومن الثاني قولهم :« وَيْلٌ لهم ووَيْحٌ » . ولما كان لفظ السلام متضمنًا معنى الدعاء والطلب ، جيء به بلفظ النكرة منصوبًا تارة ، ومرفوعًا تارة أخرى ، كما جاءت سائر ألفاظ الدعاء . وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل ؛ ألا ترى أن قولهم :« سَقْيًا لهم ورَعْيًا » جرى مجرى قولك :« سَقاهم الله ورعاهم « ، وأن قولهم :« وَيْلٌ لهم ووَيْح ٌ» معدول عن قولهم :« وَيْلاً لهم ووَيْحًا ». أي :« ألزمك الله ويلاً وويحًا » ؟ وكذلك قولنا :« سلامًا عليك » جار مجرى : « سلَّمك الله ، وقولنا :« سلامٌ عليك » معدولٌ به عن الأول ، والفعل نكرة ، فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرةً مثلَه . وإنما عُدِل به من التنكير إلى التعريف ؛ لأن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام ، تضمنت أربع فوائد :

الفائدة الأولى : الإشعار بذكر الله تعالى ؛ لأن السلام المعرف هو اسم من أسماء الله الحسنى ، كما تقدم تقريره .

والفائدة الثانية : الإشعار بطلب السلامة والأمان من المسلِّم للمسلَّم عليه ؛ لأنك متى ذكرت اسمًا من أسماء الله جل وعلا ، فقد تعرَّضْتَ لطلب المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم ، وتوسَّلْتَ به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم ؛ نحو قولك : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام .

والفائدة الثالثة : أن السلام- بالألف واللام- يشعر بعموم التحية ، وأنها غير مقصورة على المتكلم وحده . فأنت ترى أن قولك : سلامٌ عليك ، ليس بمنزلة قولك : السلامُ عليك ، في العموم .

والفائدة الرابعة : أن الألف واللام تقوم مقام الإشارة إلى المعين ، كما تقول لما هو حاضر بين يديك : ناولني الكتاب ، واسقني الماء ، فإنك تستغني بها عن قولك : هذا ، فهي مؤدية معنى الإشارة .

وقد اجتمعت هذه الفوائد الأربعة في تسليم المسيح - عليه السلام - على نفسه بقوله :﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ ﴾ ، ولم تكن واحدة من هذه الفوائد في تسليم الله تعالى على يحيى - عليه السلام - في قوله جل وعلا :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ﴾ ، لاستغناء المواطن الثلاثة عنها ، وهي يوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث ؛ لأن المتكلم هنا هو الله جل جلاله ، فلم يقصد تبركًا بذكر الاسم الذي هو السلام ، ولا طلبًا لمعنى السلامة كما يطلبه العبد ، ولا عمومًا في التحية منه ؛ لأن سلامًا منه سبحانه كاف عن كل سلام ، ومُغْنٍ عن كل تحية ؛ ولهذا لم يكن لذكر ( الألف واللام ) ههنا معنى ، كما كان لهما هنالك ؛ لأن المسيح – عليه السلام - يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد ، وأوكدها كلها : العموم ؛ فلذلك كان لابد في تحيته من تعريف السلام بـ( أل ) الجنسية التي تفيد معنى الاستغراق والعموم .

ومن هنا كان سلام الله تعالى على يحيى - عليه السلام - أتم وأكمل من سلام المسيح - عليه السلام - على نفسه ، ويؤيِّد ذلك أيضًا : أن لفظ ( السلام ) بالتنكير ، يدل على أصل الماهيَّة ، مع وصف التمام والكمال . وبالتعريف يدل على أصل الماهيَّة فقط . واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية ، فكان قول :« سَلامٌ عَلَيْكَ » أكمل وأتم من قول :« السَّلامُ عَلَيْكَ » . ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما ورد لفظ السلام من الله تعالى ، ورد على سبيل التنكير . وعن الحسن رضي الله عنه قال :« التقى يحيى وعيسى عليهما السلام ، فقال يحيى : استغفر لي ، أنت خير مني . فقال عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، سلَّمت على نفسي وسلَّم الله عليك » .

ب- وأما السؤال الثاني : ما الحكمة في تقييد السلام بهذه الأوقات الثلاثة : يوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث ، فقد أجاب عنه ابن قيِّم الجَوْزِيَّة بقوله :« إن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ، ومواطن الوحشة . وكلما كان الموضع مظنَّة ذلك ، تأكد طلب السلامة فيه ، وتعلقت بها الهمة ، فذكرت هذه المواطن الثلاثة ؛ لأن السلامة فيها آكد ، وطلبها أهم ، والنفس عليها أحرص ؛ لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرًّا فيها موطِّن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرَّض للآفات والمحن والبلاء ، فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.

فتأمل كيف خصَّ هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها ، واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها ، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة . فأيُّ موطن أحقُّ بطلب السلامة من هذه المواطن ؟ فنسأل الله السلامة فيها بمنِّه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه » .

ثالثَا- ومن فوائد هذا الفصل : إجماعهم في الرد على قول : السلام عليكم ، بقول : وعليكم السلام ، بـ( الألف واللام ) ؛ لأنها لو سقطت هنا لصار الكلام خبرًا محضًا ، كما في قولنا :( عليكم دينٌ ) ، وإذا صار الكلام خبرًا محضًا بطل معنى التحية والدعاء ؛ لأن المسلم يبدأ بالأهم وهو ذكر السلام ؛ فليس بمسلِّم من قال :( عليكم سلام ) ؛ وإنما المسلِّم من قال :( السلام عليكم ) ، فيجاب بقول ( وعليكم السلام ) ؛ لأن موضوع السلام للأحياء ، إنما هو للأنس ، ورفع الوحشة ، والإشعار بسلامة الصدور . والدعاء لا بد فيه من ذكر المدعو ، وهو السلام بـ( الألف واللام ) ، فإن نكَّرته فلم يعد اسمًا من أسماء الله سبحانه ، فعُرِّف إشعارًا بالدعاء للمخاطب ، وأنك رادٌّ عليه التحية ، لا مخبرٌ . ومن هنا لم يكن بدٌّ من ( الألف واللام ) .

وقد يزيد كل من المسلِّم والمسلَّم عليه ، فيقول :« ورحمة الله وبركاته » . عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذا جبريل يقرأ عليك السلام » . قالت : قلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته . وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك ، فقال عليه الصلاة والسلام :« وعليكم السلام ورحمة الله » ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله ، فقال :« وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته » ، وقال ثالث : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال :« وعليك » ، فقال الرجل : نقصْتني ، فأين ما قاله الله :﴿ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :« إنك لم تترك لنا فضلاً ، فرددت عليك مثله » !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق