الأحد، 12 فبراير 2012

والسماء بنيناها بأيد


قال الله عز وجل :﴿ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(الذاريات:47- 49)

أولاً- تُعَدُّ هذه الآيات الكريمة من أقوى الدلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته ، ومن أشدها تحذيرًا من عقابه وعذابه . وقد سبقتها آيات تحدثت عن أخبار الأمم الطاغية المكذبة بالبعث وهلاكها ، فجاءت هذه الآيات عقبها ؛ لتؤكد قدرة الله تعالى على الخلق والإعادة ، وأنه واحد لا شريك له ، يستحق العبادة والتوحيد ؛ ولهذا صدر الأمر منه تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته سبحانه وحده وتوحيده ؛ وإلا فمصيرهم كمصير من سبقهم من الأمم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى عقب الآيات السابقة :﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (الذاريات:50–51) .

وأَوَّلُ ما يلفت النظر في هذه الآيات الكريمة ، ويدعو إلى التفكر والتدبر مجيئُها على هذا الترتيب البديع : بناء السماء بقوة والتوسُّع المستمر في بنائها أولاً . ثم فرش الأرض وتمهيدها لساكنيها ثانيًا . ثم خلق زوجين من كل شيء ثالثًا .

والسر في ذلك- والله تعالى أعلم- هو أنه لمَّا كان الغرض الإخبار عن قدرة الله تعالى ووحدانيته وإقامة الدليل على ذلك ، قدَّم سبحانه ما هو أقوى في الخلق . وما كان أقوى في الخلق ، كان أقوى في الدلالة وأظهر في الإفادة . ومعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض ، ثم خلق بعدهما جميع المخلوقات ، وما خُلِق ابتداءً ، كان خَلْقُهُ أشدَّ ، وإن كان الكل عند الله تعالى في الخَلْقِ سَواء . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (النازعات:28-30) - ﴿ فََاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (الصافات:11)

ثانيًا- ويشير قوله تعالى :﴿ السَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ إلى أن السماء بُنِيَت بإحكام على شكل قبَّة مبنية على الأرض ، وأن بناءها باقٍ إلى يوم القيامة ، لم يُعْدَمْ منه جزءٌ، خلافًا للأرض ؛ لأنها في تبدُّل دائم وتغيُّر مستمر ، وخلافًا للمخلوقات ؛ لأن مصيرها إلى الهلاك والفناء ؛ ولهذا قال تعالى في خلق السماء :﴿ بَنَيْنَاهَا ، وقال في خلق الأرض :﴿ فَرَشْنَاهَا ﴾ ، وقال في خلق كل شيء :﴿ خَلَقْنَا ﴾ .

فالخَلْقُ يبلَى ويفنَى ، والفَرْشُ يُطوَى ويُنقَل . أما البناءُ فثابتٌ باقٍ ، وإليه الإشارة بقوله جل وعلا :﴿ وََبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَادًا ﴾(النبأ:12) .

والبناءُ في اللغة نقيضُ الهدم ، ومعناه : ضَمُّ شيء إلى شيء آخر . ومنه قولهم : بَنَى فلانٌ على أهله ، والأصل فيه : أن الداخل بأهله كان يضرِب عليها قبة ليلة دخوله بها . ومن هنا قيل لكل داخل بأهله : بَانٍ ، والعامة تقول : بَنَى الرجل بأهله ، والصوابُ هو الأوَّلُ ؛ ولهذا شُبِّهَت السماء بالقبة في كيفية بنائها .

وفي تقديم كل من ( السَّمَاءِ ) ، و( الْأَرْض ) ، و( كُلِّ شَيْءٍ ) على فعله دليلٌ آخر على أن الخالق جل جلاله واحدٌ أحدٌ ، لا شريك له في خلقه ؛ لأن تقديم المفعول يفيد معنى الحصر ، فإن تأخر عن الفعل ، احتمل الكلام أن يكون الفاعل واحدًا ، أو أكثر ، أو أن يكون غير المتكلم .

وأما تأخير المفعول في قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾(الأنعام:73) فإن الكفار ما كانوا يشكُّون لحظة في أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض . وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (لقمان:25) .

ثم إن قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ يشير بوضوح وجلاء إلى أن الله تعالى بنى هذا الكون ، وأحكم بناءه بقوة ، وأن هذا البناء المحكم لم يتوقف عند هذا الحد ؛ وإنما هو في توسُّع دائم ، وامتداد إلى ما شاء الله تعالى وقدر . دلَّ على ذلك التعبير بالجملة الاسمية المؤكدة بـ( إنَّ واللام ) ، وهي قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ .

ثم إن في إطلاق الخبر ( مُوسِعُونَ ) ، دون تقييده بالإضافة ، دلالة أخرى على ما أراد الله تعالى أن يخبر عنه ، وأكده العلم الحديث . فقد ثبت للعلماء منذ الثلث الأول للقرن العشرين أن هذا الجزء المرئي من الكون مُتَّسِعٌ اتِّساعًا لا يدركه عقل ، وأنه في اتِّساع دائم إلى اليوم . بمعنى أن المجرَّات فيه تتباعد عن مجرتنا ، وعن بعضها البعض بسرعات هائلة تكاد تقترب أحيانًا من سرعة الضوء المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية . وهذه الحقيقة المكتشفة أكدتها حسابات كل من الفيزيائيين النظريين والفلكيين , ولا تزال تقدم المزيد من الدعم والتأييد لهذه الحقيقة المشاهدة التي تشكل إعجازًا علميًا رائعًا من إعجاز القرآن !

ثالثًا- وفي قوله تعالى :﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ إعجاز آخر من إعجاز القرآن ، حيث كان الظاهر أن يقال :( فَنِعْمَ الْفَارِشُونَ ) ، بدلاً من قوله تعالى :﴿ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ . ولو قيل ذلك ، لكان بليغًا ؛ ولكنه لا يؤدِّي المعنى المراد ؛ لأن الأرض خُلِقتْ لتكون موضع سكن واستقرار . ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا مُهِّدَت بعد فرشها . فاختار سبحانه وتعالى للمعنى الأول لفظ ( الفرش ) ، لِمَا فيه من دلالة على الراحة والاستقرار ، واختار للمعنى الثاني لفظ ( التمهيد ) ، لِمَا فيه من دلالة على البَسْط والإصلاح .

وكونُ الأرض مفروشة وممهدة لا ينافي كونها كروية ؛ بل ينسجم معه تمام الانسجام ؛ لأن الكرة إذا عَظُمَتْ جِدًا ، كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه .

وفَرْشُ الأرض يعني : تذليلها بعد أن كانت ناتئة صلبة . وكما تُذَلَّلُ الأنعام ؛ ليُركَب عليها ، فكذلك تُذَلَّلُ الأرض ؛ ليُسْتقَرَّ عليها .. وأما تمهيد الأرض فهو تهيئتُها ، وتسويتها ، وإصلاحها ؛ لينتفع بها .

رابعًا- وأما قوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فيشير إلى أن الله تعالى خلق زوجين من كل شيء ، ممَّا نعلم ، وممَّا لا نعلم ، وجاء العلم الحديث ؛ ليكتشف تباعًا ظاهرة الزوجية في هذا الكون الفسيح ، وتمكن العلماء أخيرًا من رؤية هذه الظاهرة في الحيوان المنوي الذكر .

والزَّوْجُ من الألفاظ المتَضَايفَة التي يقتضي وجودُ أحدهما وجودَ الآخر . وهذا الآخر يكون نظيرًا مُماثلاً ، ويكون ضِدًّا مُخالفًا . والأول هو المِثْلُ ، والثاني هو النِّدُّ . وما من مخلوق إلا وله مِثْلٌ مماثل ، ونِدٌّ مخالف ، وله شِِبْهٌ مشابه . وأما الله جل وعلا فهو وحده هو الذى لا مِثْلَ له ، ولا نِدَّ له ، ولا شِبْهَ له ؛ لأنه واحد أحد ، وفرد صَمَد ، لم يلد ولم يولد .

﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ ﴾(الشورى:11) .

ولهذا لا يستحق أحد أن يُسَمَّى خالقًا وربًّا مطلقًا ، وأن يكون إلهًا معبودًا إلا الله جل وعلا ؛ لأن ذلك يقتضى الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع ، وليس ذلك إلا لله وحده ، سبحانه ، وتعالى الله عمَّا يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا ، والحمد لله الذي خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق