الأحد، 12 فبراير 2012

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ .. وَالصَّابِرِينَ في البأساء


قال الله عز وجل :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾(البقرة: 177) .

أولاً- من الشبهات التي يثيرها المشككون الجهلة ، والطاعنون الغفلة في بلاغة القرآن الكريم وإعجازه ، وأنه تنزيل من حكيم حميد قوله تعالى في هذه الآية الكريمة المحكمة :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، فزعموا أنه كان يجب أن يقال في الأول :{ ولكن البرَّ أن تؤمنوا بالله } ؛ لأن البِّرَّ هو الإيمان بالله ، وليس هو مَنْ آمن بالله . وأن يقال في الثاني :{ والصابرون في البأساء } ؛ لأنه معطوف على قوله :﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ ، وبنوا على ذلك الزعم الباطل وجود أخطاء لغوية ونحوية في القرآن الكريم ، مما يدل على أنه قول بشر ؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين ادَّعَوا أن القرآن لم يتفوق لغويًّا على أيٍّ من كتابات شعراء العرب الرائعة في الجاهلية ﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (التوبة: 30) .

ثانيًا- وقبل الردِّ على هاتين الشبهتين اللتين هما أوهن من مثيريها لا بد من الإشارة أولاً إلى أن قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ .. استدراك من قوله تعالى :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (البقرة:177) ، وكلاهما متصل بقوله :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(البقرة:142) ، وأنه ختام للمُحاجَّة في شأن تحويل القبلة من البيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ، أُجْمِلَ فيه ما فُصِّلَ من قبله .

وقيل : الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد كانوا يستقبلون جهة بيت المقدس ، وهي الجهة التي كان اليهود يستقبلونها ، ثم تحولوا عنها إلى جهة الكعبة فأنكر عليهم المشركون ذلك ، فنزلت الآية ردًّا عليهم ، ونهيًا للمؤمنين أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء ، كما تعلق اليهود والنصارى ، وحثًّا لهم على العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بيَّنها الله تعالى . وقيل : بل الخطاب لليهود والنصارى ، والمراد من قوله تعالى :﴿ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الجهتان المعينتان ؛ فإن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس من أفق مكة ، والنصارى كانت تصلي قبل المشرق ، والآية نزلت ردًّا عليهم ، حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة ، وادَّعى كل طائفة منهم حصر البِرِّ على قبلته ردًّا على الآخر ، فرد الله تعالى عليهم جميعًا بنفي جنس البِرِّ عن قبلتهم ؛ لأنها منسوخة .

والظاهر أن الخطاب في الآية عام ، فيشمل اليهود والنصارى والمسلمين ، والمراد من ذكر ( المشرق والمغرب ) التعميم لا التعيين ، وإنما اقتصر عليهما ؛ لأنهما أظهر الجهات وأبينها . وتعريف ( البِرِّ ) للجنس ، فيفيد القصر ، والمقصود نفي اختصاص البِرِّ بشأن القبلة مطلقًا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك ، والذهول عما سواه .

فقوله تعالى :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ نفي لكون البِرِّ هو التوجُّه إلى أي جهة كانت ، وقوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ .. إلخ استدراك منه ، وهو تحقيقٌ للحق بعد بيانِ بطلان الباطلِ ، وتفصيلُ لخِصال البِرِّ ، مما لا يختلف باختلاف الشرائعِ ، وما يختلف باختلافها ، ومضمون الآية : ليس البِرُّ كله في توجُّهكم إلى الصلاة ، واختلاف القبلتين ؛ ولكن البِرَّ الذي يحِقُّ أن يُهتَمَّ بشأنه ويُجَدَّ في تحصيله لا يحصل إلا بمجموع صفات يتصف بها المؤمن ، بعضها من أركان العقيدة الصحيحة ، وبعضها الآخر من أمهات الفضائل والعبادات . وبدلاً من أن يذكر الله تعالى تلك الصفات التي يحصل البِرُّ بمجموعها ، ذكر من يتصف بها ، وهم الأبرار :

وأولهم : المؤمنون بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين .

وثانيهم : المؤتون المال على حبه ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، والسائلين ، وفي الرّقاب .

وثالثهم : المقيمون الصلاة .

ورابعهم : المؤتون الزكاة .

وخامسهم : الموفون بعهدهم ، إذا عاهدوا .

وسادسهم : الصابرون في البأساء ، والضرَاء ، وحين البأس .

ثم أشار الله عز وجل إليهم جميعًا بقوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ . أي : أولئك الذين صدقوا ربهم في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا ربهم في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة ، وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق ، وأولئك هم الذين سمَّاهم الله عز وجل الأبرار وأخبر أنهم في النعيم ، وقابل بهم الفجَّار وأخبر أنهم في الجحيم ، فقال سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (الانفطار:13-14) .

وهكذا جمعت هذه الآية الكريمة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وجعلتها كلاً لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم ، ووضعت على هذا كله عنوانًا واحدًا هو ( البِرُّ ) ، فكانت بحق خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ، ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل ، لا يستقيم بدونها إسلام ، ولا إيمان .

ثالثًا- والبِرُّ اسم جامع لأنواع الخيرات والطاعات المقربة إلى الله تعالى كلها ، وقد جمع الله تعالى بينه ، وبين التقوى ، وقابل بينه وبين الإثم ، فقال سبحانه :﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة:2) ، وكذلك قابل بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :« البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس ، والإِثْمُ ما حاك في صدرك وتردد » ، فدل على أن ( البِرَّ ) هو ضدُّ ( الإِثْم ) . ومن هنا جاز حمل نفي البِّر على نفي أصله ؛ لأن استقبال المشرق والمغرب يُعَدُّ إثمًا وفجورًا ، ولا يكون من البِرِّ في شيء ، إلا إذا كان بأمر من الله تعالى ، ومعرفته سبحانه ، والإيمان به .

وفي قوله تعالى :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾ قال الفرَّاء :« إن شئت رفعت ( البِرّ ) وجعلت ( أن تُولُّوا ) في موضع نصب ، وإن شئت نصبته وجعلت ( أن تُولُّوا ) في موضع رفع ؛ كما قال :﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ (الحشر:17) ، في كثير من القرآن . وفى إحدى القراءتين :﴿ ليس البِرُّ بِأن ﴾ ؛ فلذلك اخترنا الرفع في ( البِرّ ) » .

أما نصب ( البِرّ ) فهو قراءة حمزة وحفص ، ووجهها : صرف الأنظار عن أمر استقبال القبلة ؛ لأنه كان الشغل الشاغل لهم ، فإذا قُدِّم الخبرُ ترقَّب السامع المُخبَر عنه ، فإذا سمعه تقرر في علمه ، فكان النصب من هذا الوجه أولى . وقيل : هو أولى من وجه آخر ، وهو أن جُعِل فيها اسم ليس ( أن تُوَلُّوا ) ، وجُعِل الخبر ( البِرُّ ) ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرَّف بالألف واللام ، من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به ، والأقوى في التعريف أحق بالاسمية ؛ ولأن في الاسم طولاً ، فلو روعي الترتيب المعهود ، لفات تجاوب أطراف النظم الكريم .

وأما رفع ( البِرّ ) فهو قراءة باقي السبعة ، ووجهها : أن ( البِرّ ) أمرٌ مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع ، فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي ، أصغت الأسماع إلى الخبر . وقيل : هو أقوى بحسب المعنى ؛ لأن كل فريق يدعي أن البرَّ هذا ، فيجب أن يكون الردُّ موافقًا لدعواهم ، وما ذلك إلا بكَوْن ( البِرِّ ) اسمًا ، كما يُفصِح عنه جعلُه مُخْبَرًا عنه في الاستدراك بقوله عز وجل :﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ .

ويقوِّي قراءة الرفع أنه في مصحف أُبَيٍّ ، وابن مسعود :﴿ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾ بإدخال الباء على الخبر ، والباء لا تدخل في الاسم المنفي بـ( ليس ) ؛ وإنما تدخل في خبره ، كما في الآية الأخرى :﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾(البقرة:189) ؛ ولهذا اختار الفرَّاء الرفع على النصب .

وأما قوله تعالى :﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ فقرأه نافع ، وابن عامر :﴿ وَلكِنْ البِرُّ ﴾ بسكون النون مخفَّفة ورفع البرّ ، على أنه مبتدأ ، وقرأ الباقون :﴿ وَلكِنَّ البِرَّ ﴾ بفتح النون مشدَّدة ونصب البرّ ، على أنه اسم ( لكِنَّ ) ، والخبر على القراءتين :﴿ مَنْ آَمَنَ . ومن الواضح أن هاتين القراءتين موافقتان لقراءة الجمهور :﴿ لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾ ، وقراءة أُبَيٍّ ، وعبد الله :﴿ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾ ، من حيث أخبِر عن ( البِرّ ) الأول بـ﴿ أن تُوَلُّوا ﴾ ، وعن الثاني بـ﴿ مَنْ آَمَنَ ، خلافًا للقراءة المثبتة في المصحف ، وهي قراءة حمزة وحفص :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾ ، بنصب ( البِرّ ) ، حيث جُعِلَ فيها ( البِرُّ ) خبرًا لا مُخبَرًا عنه ، للعلة التي ذكرناها .

رابعًا- ولما كان ( البِرُّ ) مصدرًا ، وهو اسم معنى ، وأسماء المعاني في قواعد النحاة لا يخبر عنها بأسماء الذوات إلا مجازًا ، وجد المشككون في ذلك مطعنًا ، فقالوا :« أتى باسم الفاعل بدل المصدر ، والصواب أن يقال : ( وَلَكِنِ الْبِرَّ أَنْ تُؤْمِنُوْا بِاللَّهِ ) ؛ لأن البِرَّ هو الإيمانُ لا المؤمن » . ويقصدون بقولهم :« اسم الفاعل » : ( مَنْ ) الموصولة ، وهم معذورون لجهلهم ببدهيات اللغة التي يدَّعون معرفة أسرارها ، وكان ينبغي عليهم أولاً أن يتعلموا كيف يميزوا بين أنواع الكلم قبل أن يُنَصِّبوا أنفسهم قضاة على كلام الله الذي هو الأعلى في الفصاحة والبلاغة ، والذروة في البيان المعجز .. وأما علماء النحو والتفسير فلهم في تأويل الآية الكريمة توجيهات ، أشهرها توجيهان :

أحدهما : أن المصدر ، وهو ( البِرُّ ) ، موضوعٌ موضع اسم الفاعل ( البارّ ) للمبالغة . وهذا قول أبي عبيدة من البصريين ، فقد ذهب في كتابه ( مجاز القرآن ) إلى أن العرب تجعل المصادر صفات ، فمجاز ( البِرِّ ) مجاز صفة لـ﴿ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ ، والمعنى : ( ولكنَّ البارَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) ، وهو- على ما قيل- قراءة بعضهم . ويُنسَب هذا القول أيضًا إلى الكوفيين ، وهو اختيار ابن عاشور ، ونص قوله في ذلك :« وقوله :﴿ ولكنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ إخبار عن المصدر باسم الذَّات للمبالغة ؛ كعكسه في قولها : ( فإنما هي إقبال وإدبار ) ؛ وذلك كثير في الكلام ، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا (الملك:30) » .

والثاني : أن في الآية مضافًا محذوفًا : إما من الأول ، والتقدير : ( ولكنَّ ذا البِرِّ مَنْ آمَنَ ) ، وهو قول الزجاج ، أو من الثاني ، والتقدير : ( ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ ) ، وهو قول قُطْرُب ، وعليه خرَّج سيبويه الآية ؛ لأن السابق إنما هو نفيُ كون البِرِّ هو توليةُ الوَجْه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ ، فالذي يُستدرَك ينبغي أن يكون من جنس المُستَدرك منه . وهذا القول هو الذي اشتهر بين جمهور البصريين والمتأخرين ، وردَّده كثير من العلماء ، وما زالوا يُردِّدونه حتى الآن .

والمتأمل في هذه الأقوال جميعها لا يجد بينها فرقًا من حيث النتيجة التي توصلوا إليها ، وهي أن قوله تعالى :﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ جاء على خلاف الأصل ؛ ولكي يكون مستقيمًا لابد من تأويله على أحد الأوجه المتقدمة . وفي ذلك من الجرأة على كلام الله تعالى والطعن في بلاغته ما لا يخفى . فبدلاً من أن يسألوا : ما الحكمة من الإخبار عن المصدر باسم الذات ، وما سرُّ الإعجاز في ذلك ، لجؤوا إلى التأويل المتكلف ، فأخضعوا الآية لقواعدهم . وأما الملاحدة المشككون ، فقد وجدوا في ذلك ما يعينهم على التشكيك في صحة القرآن العظيم والطعن في بلاغته وإعجازه . والقولان سواء من حيث النتيجة ، وإن اختلفت فيهما النوايا ؛ وإلا فكيف يكون مستساغًا ومقبولاً قول من قال :( ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم .. ولكِنَّ البارَّ من آمن ) ، أو قول من قال :( ولكنَّ ذا البِرِّ مَنْ آمَنَ ) ، أو قول من قال :( ولكنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آَمَنَ ) ؟ ألا ترى أن هذه التأويلات المفتعلة لا تتناسب مع كلام الحكيم الحميد الذي هو الذروة في الفصاحة والبلاغة ؟

وأما قول من قال : ( ولكنَّ البِرَّ الإيمانُ ) فإنه لو قيل هكذا ، لكان كلامًا بليغًا ؛ ولكن أبلغ منه قول الله جل وعلا :﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ ، لما يتضمنه من معنى لطيف دقيق ، وسر بديع لا يوجد في غيره ، وبيانه : أن الإخبار عن ( البِرِّ ) بـ( مَنْ آَمَنَ ) يدل على ذواتٍ مؤمنة تمكَّن الإيمانُ في قلوبها والتحم بها ، كما التحمت هي به ، ونتج عن ذلك ما يُسمَّى بالإيمان العملي الذي دعا إليه القرآن ، خلافًا للإيمان الشكلي المتمثِّل بالتوجُّه نحو القبلتين . ويتضح لك ذلك إذا علمت أنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب ، وليست غاية البِرِّ- الذي هو جماعة الخير كله- هي تلك الشعائر الظاهرة ، فهي في ذاتها مجردة عمَّا يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك ، لا تحقِّق البِرِّ ولا تنشِيء الخير ؛ لأن البِرَّ إنما هو تصوُّرٌ وشعورٌ ، وأعمالٌ وسلوك .. تصوُّرٌ يُنشِئ أثره في ضمير الفرد والجماعة ، وعملٌ يُنشِئ أثره في حياة الفرد والجماعة ، ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تَوْلِيَةُ الوجوه قِبَلَ المشرق والمغرب ، سواء في التوجُّه إلى القبلة هذه أم تلك ، أو في التسليم من الصلاة يمينًا وشمالاً ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في شعائر العبادة ؛ ولهذا جاء الإخبار عن ( البِرِّ ) بالموصول وصلته ( مَنْ آَمَنَ بِاللّهِ ) . ولو قيل : ( ولكنَّ البِرَّ الإيمانُ ) ، لكان هذا الإيمان مجرد فكرة منفصلة عن الذات المؤمنة لا محل لها ولا قيمة ، ولكان مجرد إيمان شكلي لا يرضاه القرآن .

هذا من حيث المعنى ، وأما من حيث اللفظ فإن قوله تعالى :﴿ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ لم يأت- كما قيل- على خلاف الأصل ؛ بل أتى موافقًا لكلام العرب . وإلى هذا أشار الفرَّاء بقوله في تأويل الآية :« وأمَّا قوله :﴿ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ فإنه من كلامِ العرب أن يقولوا : إنما البِرُّ الصادقُ الذي يصل رَحِمه ، ويُخفي صَدَقته ، فيُجعَل الاسم خبرًا للفعل ، والفعل خبرًا للاسم ؛ لأنه أمر معروف المعنى » . ويعني بالفعل : المصدر ؛ فمن مصطلحات علماء الكوفة أن يعبروا بلفظ الفعل عن المصدر لدلالته على الحدث .

فمن الإخبار عن المصدر بالاسم قوله عز وجل في الآية الأخرى :﴿ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (البقرة: 189) ، فأخبر سبحانه عن ( البِرِّ ) وهو مصدر بقوله :﴿ مَنِ اتَّقَى وهو اسم ذات ؛ لأن المراد الإخبار عن البِرِّ بالتقوى المتمكنة بالذات المؤمنة ، والملازمة لها . وهذا مما لا يفهمه الأعاجم من أبناء هذه اللغة ، فأنَّى لأولئك الأعاجم من أبناء غير هذه اللغة أن يفهموه ؟!

ومن الإخبار عن الاسم بالمصدر قول الله عز وجل :﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا (الملك:30) . وليس هذا من باب الإخبار بالمصدر المراد به اسم الفاعل ، خلافًا لقائليه كائنًا من كان ؛ لأن الفرق واضح بين أن يُجعَل الماء نفسه غورًا ، وأن يجعل غائرًا صفة له . وكذلك بقال في قوله تعالى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(البلد:2) ، وقول الخنساء تصف فرس أخيها صخر :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت ** فإنما هي إقبال وإدبار

والجمهور على القول بأن ( غَوْرًا ) معناه : غائرٌ ، و( حِلّ ) معناه : حالّ ، و( إقبالٌ وإدبارٌ ) معناه : مقبلةٌ ومدبرةٌ ، مع أن الفرق في المعنى بين المصدر ، وصفة الفاعل أظهر من أن يشار إليه . ومن ذلك قولهم : رجلٌ عَدْلٌ ، حيث عدلوا عن : رجل عادل ، إلى الإخبار عنه بالمصدر ، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل ، صار كأنه العدل نفسه لا فرق بينهما . وهذا المعنى لا يفهم من قولهم : رجل عادل .

وإن سلمنا جدلاً بجواز قولهم بأن المصدر بمعنى اسم الفاعل في الأمثلة السابقة ، فإنه لا يمكن التسليم بجوازه فيما أنشده الفرَّاء على الإخبار بالمصدر عن الاسم من قول الشاعر :

لَعَمْرُكَ ما الفِِتْيانُ أَنْ تَنْبُت اللِّحَى ** ولكِنَّما الفِتيانُ كُلُّ فتىً نَدِي

فجعل ( أَنْ تَنْبُت ) ، وهو مصدرٌ مؤولٌ ، خبرًا للفتيان ، وكأنه الفتيان أنفسهم .

خامسًا- وقال تعالى :﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ ﴾ ، فقدَّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين ؛ لأن المكلَّف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة ، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحَى به وهو الكتاب ، والموحَى إليه وهو الرسول . وقدم الملائكة والكتاب على النبيين ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة ، وتصديق الكتاب لا يحصل إلاَّ بوساطة النبيين ؛ لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ؛ لأن الملك يوجد أولاً ، ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتاب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني .

والإيمان في اللغة يأتي بمعنى التصديق ، إلا إذا قرن بالباء ، فإنه حينئذ يصير تصديقًا متضمنًا للطمأنية والثبات والقرار ، ولم يعد مجرد تصديق . ولو كان تصديقًا مطلقًا ، لكان يقال : آمنه . أي : صدقه ؛ لكن لما قيل :﴿ آَمَنَ بِاللَّهِ ، علم أنه إيمانٌ متضمنٌ لمعنى الطمأنينة والاستقرار والثبات . وإذا قرن باللام ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾(العنكبوت: 26) ، فإنه يصير تصديقًا متضمنًا لمعنى الاستسلام والانقياد .

وقوله تعالى :﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ .. ﴾ معطوف على صلة الموصول ﴿ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ ، وقدِّم الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، وهو من أفعال القلوب على أفعال الجوارح ؛ لأن أفعال القلوب أشرف من أفعال الجوارح ؛ ولأن أفعال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل .

أما قوله تعالى :﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ بالواو ، فهو قراءة الجمهور ، وفي مصحف ابن مسعود :﴿ وَالْمُوْفِينَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ بالياء ، نصبًا على المدح على سبيل القطع بفعل مضمر ، تقديره : أمدح . وأما ﴿ الْمُوفُونَ ﴾ ، بالواو فقيل : ارتفع على القطع بتقدير : هم الموفون . والصواب أنه معطوف على الموصول في قوله تعالى :﴿ مَنْ آَمَنَ ، دون الصلة ؛ لأن الصلة تمَّت عند قوله تعالى :﴿ وَآَتَى الزَّكَاةَ ﴾ . وإذا طالت الصلة ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ؛ لئلا يطول الكلام ويقبُح ؛ وكأنه قيل : من آمن ، وآتى المال ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، ومن أوفى بعهده . وإنما قال سبحانه :﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ ، ولم يقل : ( وأوفى بعهده ) ، كما قال قبله :﴿ وَآَتَى الْمَالَ .. وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، وَآَتَى الزَّكَاةَ ﴾ ، إشارة إلى وجوب استمرار الوفاء بالعهد . وقيل : إيذانًا بمغايرته لما سبق ؛ فإنه من حقوق الناس ، والسابق من حقوق الله تعالى . والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الله تعالى وحقوق الناس ، وحذف المفعول يؤذن بذلك ، والتقييد بقوله :﴿ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ ، للإشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت المعاهدة .

وأما قوله تعالى :﴿ وَالصَّابِرِينَ ﴾ ، بالياء فهو قراءة الجمهور ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن :﴿ وَالصَّابِرُونَ ﴾ ، بالواو عطفًا على ما عطِف عليه ﴿ وَالْمُوفُونَ ﴾ . ولا يستقيم عطفه على ﴿ الْمُوفُونَ ﴾ إلا على مذهب من جعله مرفوعًا على القطع ، بتقدير :( وَهُمْ الْمُوفُونَ ) ، وعطفه على الموصول ( مَنْ ) هو الأحسن كما ذكرنا . وأما ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ ، بالياء فهو منصوبٌ على المدح ، بتقدير : وأمدح الصابرين ، وخولف في إعرابه تنبيهًا على فضيلة الصبر ومزيَّته على سائر الأعمال ، حتى كأنه ليس من جنس الأول ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ، وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر تبرز الصابرين وتميزهم عن غيرهم .

ومجيء القطع في الصفات في مقام المدح والذَّمِّ مما أثبته أئمة العلماء ، واستحسنوه وجعلوه أبلغ من الإتباع ، وذهب جمهورهم إلى أن الصفات الكثيرة ، إذا ذكرت في معرض المدح والذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها ، وأن لا تجعل كلها جارية على موصوفها ؛ لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف ، والإبلاغ في القول . فإذا خولف بإعراب الأوصاف ، كان المقصود أكمل ؛ لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهًا واحدًا ، أو جملة واحدة .

وقال تعالى :﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ فاستوعب فيه أنواع الصبر كلها ؛ لأن الصبر ، إما أن يكون فيما يحتاج إليه الإنسان من القوت فلا يناله وهو ( البأساء ) ، أو يكون فيما ينال جسمه من ألم وسقم وهو ( الضَّرَّاء ) ، أو يكون في مدافعة الأعداء وهو ( البأس ) . وذكر أولاً الصبر في البأساء ، ثم الصبر في الضَّرَّاء ، ثم الصبر حين البأس ، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشدِّ ؛ لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر ، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض .

وعُدِّيَ ( الصَّابِرِينَ ) إلى ( الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) بـ( في ) التي تفيد معنى الظرفية ؛ لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلا إذا صار له الفقر والمرض كالظرف ، وأما الفقر العارض ، أو المرض العارض ، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر عليهما ؛ لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد . وأما ( الْبَأْسِ ) فعُدِّيَ ( الصَّابِرِينَ ) إلى ظرف زمانه ( حينَ ) ؛ لأنه حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات ، بخلاف حالتي الفقر والمرض .

وعَطْفُ هذه الصفات الثلاثة بـ( الواو ) يدل على أن من شرائط ( البِرِّ ) استكمالَها وجمعَها . فمن قام بواحدة منها ، لم يوصف بالبِرِّ ؛ ولذلك خصَّ بعض العلماء الصبر في هذه الحالات الثلاثة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم ؛ لأن غيرهم من البشر لا يمكن أن تجتمع فيهم هذه الأوصاف كلها . ولعل هذا يبين لك سر مخالفة لفظ ( الصَّابِرِينَ ) لما قبله في الإعراب .

وعلى ما تقدم تكون جملة ( وَالصَّابِرِينَ ) مع الفعل المضمر معطوفة على جملة ( مَنْ آَمَنَ ) ؛ وكأنه قيل : ولكن البِرَّ مَنْ آمن ، وآتى المال ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، ومن أوفى بعهده وصبر . ومثل ذلك عطف قوله تعالى :﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ على قوله :﴿ لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾(النساء:162) ، وهذا رأي الخليل بن أحمد الفراهيدي ، حكى ذلك عنه سيبويه ، فقال :« وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس ، ولا مَنْ تخاطب بأمر جهِلوه ؛ ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت ، فجعلته ثناء وتعظيمًا ، ونصبه على الفعل ؛ كأنه قال : أذكر أهل ذلك ، وأذكر المقيمين ؛ ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره » .

سادسًا- ثم وصف الله تعالى المؤمنين الذين جمعوا تلك الأوصاف الجليلة بالصدق والتقوى ، فقال سبحانه :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ ، فأشار إليهم بضمير الإشارة ( أُولَئِكَ ) ، وضمير الإشارة يؤتى به لهذا المعنى . أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (لقمان:5) ، أشار بـ( أُوْلَئِكَ ) إلى المحسنين ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾(لقمان:5) .

وأتى بخبر ( أُولَئِكَ ) الأولى : موصولاً بفعل ماض ( الَّذِينَ صَدَقُوا ) ، إيذانًا بتحقق اتصافهم بالصدق ، وأن ذلك قد وقع منهم واستقر . وغاير في خبر ( أُولَئِكَ ) الثانية ، فأتى به على صيغة صفة الفاعل ( هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ؛ ليدل به على ثبوت التقى فيهم ، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد ، بل صار سجية لهم ووصفًا لازمًا ؛ ولكونه أيضًا وقع فاصلة آية ؛ لأنه لو أتى به على طبق سابقه ، لما حسن وقوعه فاصلة . وتوسيط الضمير ( هُمْ ) للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم .

ذلك هو ( البر ) الذي هو جماع الخير كله ، يتمثَّل في هذه الأوصاف الجليلة التي وصف الحائزون لها بالصدق نظرًا إلى إيمانهم واعتقادهم ، وبالتقوى اعتبارًا بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق . ومن تأمل تلك الأوصاف ، وجد أن أشدها وقعًا على النفس ، وأكثرها أعباء ، وأشقها كلفة ، هو ( الصبر في البأساء والضراء وحين البأس ) ؛ ولهذا كله جاء إعراب لفظ ( الصَّابِرِينَ ) مخالفًا لإعراب ما قبله ، فدل نصبه على إبراز أهمية الصبر في تلك الأحوال العصيبة ، وتقدير له في ميزان الله تعالى يلفت الأنظار ، ومدح للصابرين ، وهو مقام لهم عند ربهم عظيم . فانظر إلى هذه المعاني النفيسة التي دل عليها نصب ( الصَّابِرِينَ ) ، مع كون ما قبله مرفوعًا .. إنها بلاغة القرآن المعجز ، وعبقرية اللغة لغة التنزيل الحكيم ، فتبارك الله الذي أودع هذه اللغة تلك الأسرار البديعة التي لا يمكن للأعاجم وأمثالهم فهمها .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق