قال الله عز وجل مفتتحًا سورة الكهف :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾(الكهف:1-2) ، فوصف سبحانه الكتاب الذي أنزله على عبده بعد الحمد لله تعالى بصفتين : الأولى : نفي العوج عنه . والثانية : إثبات كونه قيِّمًا .
وقد تساءل صاحب كتاب ( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ) قائلاً :« أي إعجاز في قول القرآن ﴿ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ﴾ ، والتركيب الصحيح يجب أن يكون هكذا :( أنزل على عبده الكتاب قيمًا ، ولم يجعل له عوجًا ؟ ) » .
وهذا الذي أجاب به عن تساؤله هو اختيار جمهور المفسرين في تأويل الآية الكريمة ، وهو- على ما قيل- مرويٌّ عن مجاهد وابن عباس ، وهو مبنيٌّ على أن معنى ( قَيِّمًا ) : مستقيمًا ، وعليه يكون حالاً من ( الْكِتَابَ ) ، وتكون جملة : ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) معترضة بينهما ، وفدِّمت للاهتمام . وهذا ما صرَّح به العسكريُّ في قوله :« في الآية تقديم وتأخير ؛ كأنه قال : احمدوا الله على إنزال القرآن قيِّمًا ، لا عوج فيه » ، وغلَّل ذلك بقوله :« ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم » . وقال الألوسي : « لما كان ( قَيِّمًا ) يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة ، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ، ذكر قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ للاحتراس » .
ثانيًا- وفي الإجابة عن ذلك كله أقول بعون الله وتعليمه :
1- ( العِوَج ) عند المحققين من أئمة اللغة هو الانحراف والميل عن الاستقامة ، ويكون في المعاني المعقولة ؛ كالعوج في الدين والعقل ، فإذا كان في الأعيان المحسوسة ، جاء بفتح العين ؛ كالعَوَج في القناة والحائط والعود . وأما قوله تعالى في وصف الأرض بعد نسف الجبال وجعلها قاعًا صفصفًا :﴿ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً ﴾(طه:107) بكسر العين ، مع كونها من الأعيان ، فللدلالة على انتقاء ما لا يدرك بحاسة البصر ؛ بل إنما يوقف عليه بوساطة استعمال المقاييس الهندسية . ولما كان ذلك مما لا يشعر به بحاسة البصر ، عدَّ من قبيل ما في المعاني . قال الرازي :« فإن قيل :« الأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟ قلنا : اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج ؛ وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية ، فإذا قابلتها بالمقاييس الهندسية ، وجدت فيها أنواعًا من العوج خارجة عن الحس البصري . ذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جدًا ، ألحق بالمعاني ، فقيل فيه : عِوَجٌ ، بالكسر » .
وفي نفي العِوَح عن الكتاب إشارة إلى كون هذا الكتاب كاملاً في ذاته وصفاته ؛ لأن ذلك يعني : أنه مستقيم في ألفاظه ومعانيه ، صادق في أخباره ، عدل في أحكامه ، سالم من جميع العيوب . يدلك على ذلك أن لفظ ( عِوَجًا ) نكرة في سياق النفي ، فهو يعمُّ نفيَ جميع أنواع العوج .
2- أما ( القيِّم ) في اللغة فهو صفة مبالغة في القائم ، على وزن : فَيْعِل ؛ مثل : هيِّن ، وليِّن ، وسيِّد ، وميِّت ، وهو صيغة تدل على قوة ما يصَاغ منه . أي : الشديد القيام ، ويطلَق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه ؛ لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله ، ويطلق على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء ؛ لأنه يستلزم القيام والتعهد ، ويطلق على المهيمن والحافظ . والمعاني كلها صالحة للحمل عليها ؛ فإن هذا الكتاب مع عصته عن الخطأ ، متكفل بمصالح العباد ، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحًا ونسخًا . وإذا كان كذلك ، فالمراد به أن كماله متعدّ بالنفع إلى غيره .
3- فثبت بما تقدم أن في وصف الكتاب بقوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ إشارة إلى أن كونه كاملاً في نفسه ، وأن في وصفه بقوله تعالى :﴿ قَيِّمًا ﴾ إشارة إلى كونه مكملاً لغيره ؛ لأن القيِّم هو عبارة عن القائم بمصالح الغير ، خلافًا لمن ذهب إلى أن معنى كونه قَيِّمًا هو عبارة عن انتقاء العوج عنه .
وهذا القول هو اختيار الرازي ، وعقَّب عليه بقوله :« ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة:2) ؛ فقوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ إشارة إلى كونه في نفسه بالغًا في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل ألا يرتاب فيه . وقوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ إشارة إلى كونه سببًا لهداية الخلق ، وإكمال حالهم ؛ فقوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ قائم مقام قوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ، وقوله :﴿ قَيِّمًا ﴾ قائم مقام قوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ . وهذه أسرار لطيفة » .
وانتهى الرازي من ذلك إلى القول :« قال الواحدي : جميع أهل اللغة والتفسير قالوا : هذا من التقديم والتأخير ، والتقدير : أنزل على عبده الكتاب قيمًا ، ولم يجعل له عوجًا . وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام ؛ لأنا بينا أن قوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ يدل على كونه كاملاً في ذاته ، وقوله :﴿ قَيِّمًا ﴾ يدل على كونه مكملاً لغيره . وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو ما ذكره الله تعالى . وأما القول بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا ففاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه » .
وهذا القول رواه أيضًا سعيد عن قتادة . وأما ما روي عن مجاهد ، وابن عباس من أن معنى قَيِّمًا : مستقيمًا ، فهو- على ما قال الرازي- مشكل ؛ لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة ، فتفسير القيِّم بالمستقيم يوجب التكرار ، وأنه باطل ، والحق ما ذكرناه .
ويحتج لهذا القول بقوله تعالى في آية أخرى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام:161) ، فوصف سبحانه دين الإسلام أولاً بكونه مستقيمًا ، ثم وصفه بكونه قيِّمًا . وهذا هو الترتيب الصحيح .
ويشهد لذلك أيضًا ما روي عن حفص من أنه كان يسكت على قوله تعالى :﴿ عِوَجًا ﴾ سكتةً خفيفةً ، ثم يقرأ :﴿ قَيِّمًا ﴾ . وجاء في بعض مصاحف الصحابة :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ ؛ ﴿ لَكِنْ جَعَلَهُ قَيَِمًا ﴾ ، ويحمل ذلك على تفسير المعنى ، لا على أنه قراءة .
وذكر الشنقيطي اختلاف علماء العربية في إعراب ( قَيِّمًا ) ، ثم قال :« وأقرب أوجه الإعراب أنه منصوب بمحذوف ، أو حال ثانية من الكتاب » . أقول : كونه حالاً ثانية هو الأقرب إلى الصواب .. والله تعالى أعلم !!
4- بقي أن تعلم أن : ( الْكِتَابُ ) معناه : الكامل الغني عن الوصف بالكمال ، المعروف بذلك من بين سائر الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به . وفي وصف الله سبحانه بالموصول ( الَّذِي ) إشعار بعلية ما في حيز الصلة ، لاستحقاق الحمد الدال عليه باللام ، وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل . كيف لا ، وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل .
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد مضافاً إلى ضميره تعالى ( عَلَى عَبْدِهِ ) من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام ، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه . وفيه أيضًا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدًا للمرسل ، لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام . وتأخير المفعول الصريح ( الْكِتَابُ ) عن الجار والمجرور ( عَلَى عَبْدِهِ ) ، مع أن حقه التقديم عليه ؛ ليتصل به قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ ، ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ ، فتبارك الله القائل في محكم تنزيله :﴿ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ .
ومن قال للمسك أين الشَّذى ** يكذِّبه ريحه الطيب
و﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق