الاثنين، 13 فبراير 2012

رب أرني كيف تحيي الموتى .. أرني أنظر إليك

رب أرني كيف تحيي الموتى .. أرني أنظر إليك

1- وردنا السؤال الآتي من أحد الإخوة : السلام عليكم ورحمة الله .. وبعد :

أستاذنا الفاضل حفظك الله لنا ذخرًا ومرجعًا ، فقد قرأت لك وسمعت عنك الكثير ، وهناك أمر يؤرقني في كتاب الله الكريم المحكم ، وتساؤل لم أجد له جوابًا . بحثت في أغلب التفاسير التي أمتلكها ؛ لكن للأسف لم أجد الجواب الشافي ؛ لذلك أتمنى أن تساعدني ؛ كي لا أجتهد ، وأنا لست من المؤهلين لهذا الاجتهاد ؛ فأنا مجرد طالب علم يعشق هندسة البيان المحكم في كتاب الله الكريم .

قال تعالى :﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة:260) .

الذي ألاحظه هنا أن إبراهيم عليه السلام ، وهو من هو بالنسبة إلى الله ( خليل الرحمن ) ، عندما طلب من الله رؤية إحياء الموتى أجابه الله بتساؤل :﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ؟ والله يعلم السر وأخفى ؛ لكن سؤال الله كان بمثابة لوم لطيف من الله اللطيف الخبير .

والسؤال ليس هنا .. السؤال بعد هذه الآية :﴿ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾(الأعراف:143) .. السؤال على الشكل الآتي :

لماذا لم يؤاخذه الله على الطلب ولم يلمه ، أو يؤنبه بالرغم أنه أعظم من طلب إبراهيم عليه السلام .. والعامة يقولون : موسى مدلل .. واليهود شعب الله المختار ؟ إذًا ، هل موسى- عليه السلام- أكبر قيمة عند الله من إبراهيم ؟ وأنا أعلم العكس ، وأعتقد أنك توافقني الرأي . إذًا ، لماذا أجابه الله بدون أي مقدمات ، وتجلى سبحانه للجبل ، فجعله دكًّا ، وطلب من موسى- رحمة منه- أن ينظر إلى لجبل ، فصعق موسى من رؤية الجبل بعد التجلي ؟

2- وفي الإجابة عن هذا السؤال قلت مستعينًا بالله :

أولاً : أما عن قول الله تعالى :

﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

فهو استفهام يراد منه التقرير ، والإنكار عند جمهور العلماء :

أما التقرير فالمراد منه حمل إبراهيم- عليه السلام- على الإقرار بقدرة الله تعالى على الإحياء . ودليله قوله :( بَلَى ) في جواب هذا الاستفهام ... وحمل هذا الاستفهام على التذكير والتنبيه أولى من حمله على التقرير .

وأما الإنكار فالمراد منه نفي احتمال وقوع الشك في إيمان إبراهيم عليه السلام ، لما في سؤاله بقوله :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى ﴾ ؟ من إثارة وقوع ذلك الاحتمال في ذهن السامع . ودليله قول إبراهيم عليه السلام :﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .. وبيان ذلك أن سؤال إبراهيم- عليه السلام- بهذه الصيغة : ( أَرِنِي ) يحتمل أمرين :

أحدهما : السؤال عن كيفية الإحياء .. وهذا هو الظاهر .

والثاني : أن يراد به إظهار عجز المسئول . ومثاله : أن يدَّعي إنسان أنه قادر على حمل ثقل من الأثقال ، وأنت جازم بعجزه عن حمله ، فتقول له :« أرني كيف تحمل هذا » ؟

فلما كانت هذه الصيغة ( أَرِنِي ) قد يعرض لها هذا الاحتمال الثاني من الفهم الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم- عليه السلام- مُبَرَّأ منه ، أتى بالواو بعد الهمزة نفيًا لهذا الاحتمال ، وتنبيهًا لإبراهيم- عليه السلام- إلى ذلك ، وإنكارًا على السامع من وقوع ذلك الاحتمال في ذهنه ، فيشك في إيمان إبراهيم . وما قول إبراهيم- عليه السلام- في الجواب :﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، بعد قوله :﴿ بَلَى ﴾ إلا ليدفع بذلك عن نفسه الوقوع في ذلك الاحتمال ، وأنه ما كان يقصد إلا السؤال عن كيفية الإحياء ، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورة هذه الكيفية .

ونظير هذا : أن يقول القائل :« كيف يحكم زيد في الناس » ؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ؛ ولكنه يسأل عن كيفية حكمه ، لا عن ثبوته .. فسؤال إبراهيم- عليه السلام- سؤال مشروع جائز لا غبار عليه !


ثانيًا- أما قول الله تعالى :

﴿ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

فهو مسوق مَساقَ الامتنان على موسى عليه السلام ، باصطفاء الله تعالى له ، وتخصيصه إياه بتكليمه . وهذا ما بينه الله تعالى له في الآية التالية ، حيث قال له :﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (الأعراف:144) .

وتخبرنا الآية الكريمة السابقة أن موسى عليه السلام ، لما سمع كلام الله تعالى ، أحب أن ينظر إليه - وهذا شأن كل محب مع من يحب- فسأل ربه عز وجل ذلك بقوله :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ، فأعلمه سبحانه وتعالى أنه لن يقدر على رؤيته ؛ لأن رؤيته جل ثناؤه في الدنيا لا يطيقها أحد من خلقه ، بخلاف الآخرة ؛ فإن رؤيته تعالى فيها جائزة- خلافًا للمعتزلة- وذلك بنص قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة:23) .

فإذا كانت رؤية الله عز وجل غير جائزة في الدنيا شرعًا ، فإنها جائزة عقلاً ، بدليل قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ .. ومن أقوى الأدلة على أن رؤية الله سبحانه جائزة في الدنيا عقلاً قول موسى عليه السلام :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ؛ لأن موسى- عليه السلام- لا يخفى عليه الجائز ، والمستحيل في حق الله تعالى .

ولكون رؤية الله عز وجل ممتنعة في الدنيا شرعًا أجاب موسى بقوله :﴿ لَن تَرَانِي ﴾ ، فأتى بفعل الرؤية منفيًا بـ( لن ) . ولو أتى به منفيًا بـ( لا ) ، لدل على أن رؤيته سبحانه لا تجوز شرعًا لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . وهذه دقيقة ينبغي أن يتنبه إليها كل من يدرس اللغة العربية ، ويتعاطى علم التفسير .

ولكون رؤية الله عز وجل في الدنيا غير جائزة شرعًا ، وسألها موسى- عليه السلام- دون إذن من الله تعالى ، كان ما كان ، وحصل ما حصل .

أما قوله :﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ فالمراد منه: تبت إليك من سؤال الرؤية بغير إذنك .. وأما قوله :﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فالمراد به : أنا أول المؤمنين بأنك لا تُرَى في الدنيا . أو : أنا أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك .. والله تعالى أعلم !

ويُفهَم ممَّا تقدم أن رؤية الله تعالى جائزة في الدنيا عقلاً ، وأنها جائزة في الآخرة شرعًا ، وأنها ممتنعة في الدنيا شرعًا للسبب الذي ذكره الله تعالى ، بدليل أن الجبل لم يطق النظر إلى الله عز وجل . فلما تجلى له الرب جل وعلا ، اندكت أجزاؤه ، فكيف يطيقها الإنسان ؟ وكأن الله تعالى قال لموسى: لا تطلب النظر إليَّ ، ولكن عليك بطلب آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل .

فإذا ثبت أن رؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة عقلاً ، وممتنعة شرعًا ، وأن موسى عليه السلام لم يطلب مستحيلاً ، فلمَ يؤاخذه الله سبحانه على طلب الرؤية ، أو يلمه ، أو يؤنبه ؟ وبهذا ينكشف الإشكال ، ويتجلى الأمر لمن أراد الهداية .. وهذا من فضل الله تعالى ومنِّه وتعليمه ، أسأله تعالى أن يكون جوابًا وافيًا شافيًا ، والحمد لله على ما أنعم به وتفضل .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق