الأحد، 12 فبراير 2012

الفرق بين الخلق والإبداع والفطر


أولاً- الخلق في اللغة هو عبارة عن الإيجاد الفعلي للشيء وإبرازه للوجود ، على تقدير ورفق ، وترتيب وإحكام ، وأصله : التقدير المستقيم ، ويقتضي شيئًا موجودًا يقع فيه التقدير . والتقدير هو عبارة عن تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به . ، ولا يسمَّى خلقًا إلا بعد التنفيذ ، فلا يقال : خلقتُ الشيء إلا إذا أوجدته بعد تقديره . قال تعالى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49) . أي : بقدر واحد ، لا يجاوزه ولا ينقص عنه .

ويستعمل في إبداع الشيء على مثال غير سابق ؛ نحو قوله تعالى :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾(النحل:3) . ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء ؛ نحو قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (الرحمن:16-15) .

وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله تعالى ؛ ولهذا قال تعالى في الفصل بينه ، وبين غيره :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾(النحل:17) ؟ وأما الخلق الذي يكون بالاستحالة فقد جعله لغيره في بعض الأحوال كعيسى ، حيث قال :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي (المائدة:110) » .

وقد قال سبحانه:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾(الواقعة:58-59) ، فبين أن الناس عاجزون عن خلق المني لتعذره عليهم ، فوجب أن يكون الخالق غيرهم ، وهو الله عز وجل ، خالق كل شيء ، وهذا ما أكده تعالى بقوله :﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (الرعد:16) ، وأنه لا خالق سواه ، خلق كل شيء بقدرته ، ﴿ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان:2).

والخلق بهذا المعنى هو من صفات الله التي لا يجوز أن تنسب لغيره من البشر . وعلى هذا القول جمهور أهل السنّة والجماعة ، واحتجوا عليه بقول المسلمين :« لا خالق إلا الله » ، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك ؛ لأن المعنى يؤول إلى أنه : لا مقدِّر إلا الله ، وهذا غير صحيح .

ومما يدلك على أن ( الخلْق ) لا يكون بمعنى التقدير أنه يأتي ضدًّ ( الخرْق ) ، والخرْقُ- في اللغة كما قال الراغب- هو قطع الشئ على سبيل الفساد ، من غير تدبر ولا تفكر . قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا (الكهف:71) ، وهو ضد الخلق ، وإن الخلق هو فعل الشئ بتقدير ورفق ، والخرق بغير تقدير . قال تعالى : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (الأنعام:100) . أي : حكموا بذلك على سبيل الخرق .

ثم لو كان الخلق معناه التقدير ، لكان قوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان:2) تكرارًا لا فائدة فيه ؛ إذ يصير المعنى : وقدر كل شيء فقدره تقديرًا . ومعنى الآية : أنه تعالى أوجد كل شيء إيجادًا مُراعًى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له ، ومثله قوله تعالى :﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾(عبس:19) . أي : خلقه من نطفة ، فهيأه لما يصلح له ويختص به .

فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون:14) يدل على أنه يصح أن يوصف غير الله بالخلق ، فالجواب : أنه على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أن غير الله تعالى يخلق ؛ فكأنه قيل : فاحسب أن ههنا خالقين وموحدين ، فالله تعالى أحسنهم خلقًا وإيجادًا ، على ما يعتقدون . وهذا المعنى أصح من قولهم : أحسن المقدرين . وإن سمِّي غير الله تعالى : خالقًا ، فمن باب التجوز ، كتسمية صانع الأديم خالقًا ، ومنه قول زهير :

ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وبَعْض القَوْم يَخْلُق ثُم لا يَفْرِي

أي : أنت تصلح ما خلقت ( أوجدت ) ، وبعض القوم يخلق ثم لا يصلح ما خلق . ولما كان ( الفري ) يعبَّر به عن إصلاح الشيء وقطعه ، حملوا بيت زهير على أن المراد من الخلق فيه : التقدير . أي : أنت تقطع ما قدرت . والفري كما يستعمل في معنى القطع ، فكذلك يستعمل في معنى الإصلاح . يقال : خَلَقْتُ الأَديم ثم فَرَيته . أي : قطعته وشَقَقْته . وفريته : أَصْلَحته . وعلى هذا المعنى الثاني يحمل ( الفري ) في بيت زهير . وأما الخلق فلا يقال في الإنسان : خلق ، إلا بعد إيجاده شيئًا وإبرازه للوجود ، فعلاً كان كما في قول زهير السابق ، أو قولاً كما في قول الآخر :

من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله

وعلى هذا يحمل قوله تعالى :﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً (العنكبوت:17) . أي : تقدرون في أنفسكم كذبًا ، ثم تخلقونه . أي : تبرزونه للوجود .

ثانيًا- وأما الإبداع فهو إيجاد الشيء على غير مثال سابق وإبرازه للوجود ، وهو أخصُّ من الخلق . قال ابن فارس :« الباء والدال والعين أصلان : أحدهما : ابتداء الشيء وصنعُه ، لا عن مثال ، والآخر : الانقطاع والكَلال .. فالأول قولهم : أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً ، إذا ابتدأته ، لا عن سابق مثال . والله بديعُ السّمواتِ والأرض . والعرب تقول : ابتدَعَ فلان الرَّكِيَّ ، إذا استنبَطَه . وفلانٌ بِدعٌ في هذا الأمر . قال الله تعالى :﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (الأحقاف:9) . أي : ما كنتُ أوّل » .

وقال الراغب الأصفهاني :« الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل : رَكيَّة بديع . أي : جديدة الحفر . وإذا استعمل في الله تعالى ، فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ، ولا زمان ولا مكان ، وليس ذلك إلا لله . والبديع يقال للمبدِع ، بكسر الدال ؛ نحو قوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾(117) ، ويقال للمبدَع ، بفتح الدال ؛ نحو : رَكيَّة بديع » .

والبديع من أسماء الله تعالى ؛ لإبداعه أصول الأنواع كلها وإيجاده إياها ، وما يتولد من متولَِّداتها ؛ إذ هو البديع الأول قبل كل شيء ، فخلقه السموات والأرض إبداع ، وخلقه آدم إبداع ، وخلقه عيسى عليه السلام إبداع ، وخلقه نظام التناسل إبداع . وقيل : يجوز في ( بديع ) أن يكون بمعنى : مبدع ، من ( أبدع ) ، أو يكون من قولهم : بدع الخلق ، أو بدأه ، فهو سبحانه الخالق المبدع للسموات والأرض ، لا عن مثال سابق .

وقد قيل في الفرق بين الإيداع ، والخلق : الإبداع هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق ، وهو لا يقتضي سبق المادة .. وأما الخلق فهو إيجاد الشيء بعد تقديره ، وهو يقتضي شيئًا موجودًا يقع فيه التقدير . ومن هنا لا يقال : خلق الله السموات والأرض من العدم ؛ وإنما يقال : خلقهما مسبوقتين بالعدم .

ثالثًا - وأما الفَطْرُ فهو أصل صحيح يدل على فَتْح شيء وإبرازه . وقيل : أصل الفَطْر في اللغة : الشَّقُّ طولاً ، وقيل للكمأة : فطر ، من حيث إنها تفطر الأرض ، فتخرج منها . يقال : فطر الشيء : أي : شفَّه طولاً ، فهو فاطر ، والشيء مفطور . والله تعالى :﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ( الأنعام:14) . وعن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال :« ما كنت أدري ما ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها . أي: أنا ابتدأت حفرها » . وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي ، يقول :« أنا أول من فطر هذا » . أي : أول من ابتدأه .

وقال مؤمن ياسين :﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني (يس:22) ، فعبَّر عن إيجاده بقوله :﴿ فَطَرَني ﴾ ، ولم يقل :( خَلَقَني ) ؛ لأن الفَطْرَ أنسب في مقام الحِجَاج ، لإثبات إلهية الخالق ووحدانيته ، فهو الذي أوجده وفطره ، فكيف لا يعبد فاطره الذي فطر السموات والأرض ؟ أي : فتفهما .

رابعًا- نخلص مما تقدم إلى أن قوله تعالى :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾(النحل:3) يعني : أوجدهما بعد التقدير على غير مثال سابق . ولكي يبين أن خلقهما على غير مثال سابق ، قال سبحانه :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (البقرة:117) . ولكي يبين أن خلقهما وإبداعهما غير قديمين وأنهما كانتا كتلة واحدة ثم انفصلتا ، قال :﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (الشورى:11) . ويبين ذلك قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا (الأنبياء:30) .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق