الأحد، 12 فبراير 2012

الفرق بين الرؤية والإدراك


أولاً- الرؤية هي إدراك المرئي من الجهة المقابلة ، وتكون مع العلم ، خلافًا للنظر ؛ لأنه يقال : نظرت فلم أر شيئًا . ولا يقال ذلك في : رأيت . والأصل في الرؤية أن تكون بالحاسة ؛ نحو قوله تعالى :﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ (التكاثر: 5) . وقد تكون بالوهْم والتخيُّل ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ (الأنعام: 27) . وقد تكون بالتفكُّر ؛ نحو قوله تعالى :﴿ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ (الأنفال: 48) . وقد تكون بالفؤاد ؛ نحو قوله تعالى :﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(النجم: 11) .

أما الرؤية في نحو قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾(الإسراء: 99) فهي من رؤية البصر . وقد يتعُدَّى فعل الرؤية بـ( إلى ) ، فيقتضي معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾(الملك: 19) .

ثانيًا- أما الإدراك فهو بلوغ أقصى الشئ . يقال : أدرك الصبيُّ ، إذا بلغ غاية الصبا ؛ وذلك حين البلوغ . وقوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ (يونس: 90) يعني : أن الغرق قد أحاط به من جميع الجهات . وقوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (الأنعام: 103) . يعني : أن الأبصار لا يمكنها أن تحيط به سبحانه . ومنهم من حمله على رؤية البصيرة ، وذكر أنه قد نبَّه به على ما روي عن أبى بكر- رضى الله عنه- في قوله :« يا من غاية معرفته القصور عن معرفته » ؛ إذ كان غاية معرفته تعالى أن تعرف الأشياء ، فتعلم أنه ليس بشيء منها ، ولا بمثلها ؛ بل هو مُوجِدٌ كلَّ ما أدركته .

ونظير قوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾(الأنعام: 103) في نفي الإدراك على سبيل الاستغراق والشمول قوله تعالى :﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (طه: 110) في نفي الإحاطة . قال الفخر الرازي :« وذلك يدل على كونه تعالى منزَّهًا عن المقدار والشكل والصورة ، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به ؛ وذلك على خلاف هذين النصَّين » .

ثالثًا- ولما كانت الرؤية تعني إدراك المرئي من الجهة المقابلة ، سأل موسى عليه السلام ربه الرؤية ، فقال :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ (الأعراف: 143) . ولما كانت رؤيته سبحانه غير جائزة في الدنيا ، أجابه تعالى بقوله :﴿ لَن تَرَانِي ، فأتى بفعل الرؤية منفيًّا بـ( لن ) التي تدل على قصر النفي ، بخلاف النفي بـ( لا ) التي تدل على طول النفي وامتداده . فدل ذلك على أن رؤيته تعالى ممتنعة في الدنيا ، جائزة في الآخرة ، خلافًا للمعتزلة الذين احتجوا بقوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ(الأنعام: 103) على عدم جواز رؤيته سبحانه في الآخرة . والآية حجة عليهم ، لا لهم ؛ لأن الإدراك إما أن يراد به : مطلق الرؤية . أو يراد به : الرؤية المقيدة بالإحاطة . والأول باطل ؛ لأنه ليس كل من رأى شيئًا ، يقال : إنه أدركه ، أو أحاط به . وقد سُئِل ابن عباس- رضي الله عنهما- عن ذلك ، فقال :« ألست ترى السماء ؟ قال : بلى . قال : أكلها ترى ؟ قال : لا » .

ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة ، لا يقال : إنه أدركها ؛ وإنما يقال : أدركها ، إذا أحاط بها رؤية . فثبت بذلك أن الإدراك في لغة العرب ليس مرادفًا للرؤية ، وأنه ليس كل من رأى شيئًا ، يقال في لغتهم : إنه أدركه . وكيف يقال بترادف اللفظين ، وبين لفظ الرؤية ، ولفظ الإدراك عموم وخصوص . أو اشتراك لفظي ، فقد تقع رؤية بلا إدراك ، وقد يقع إدراك بلا رؤية ؛ فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم ، وإدراك القدرة ، فقد يدرك الشيء بالقدرة ، وإن لم يشاهد ؛ كالأعمى الذي طلب رجلاً هاربًا منه ، فأدركه ولم يره . وقد قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قََالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (الشعراء: 61-62) ، فنفى موسى- عليه السلام- الإدراك مع إثبات الترائي ، فعُلِم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك . والإدراك هنا هو إدراك القدرة . أي : إنا لملحقون ، محاط بنا . وإذا انتفى هذا الإدراك ، فقد تنتفي إحاطة البصر أيضًا .

ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (الأنعام: 103) ، يمدح به نفسه سبحانه وتعالى . ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ، ليس بصفة مدح ؛ لأن النفي المحض لا يكون مدحًا ، إن لم يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا ؛ ولأن المعدوم أيضًا لا يرى . والمعدوم لا يمدح ، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه . وهذا أصل مستمر ، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتًا ، لا مدح فيه ، ولا كمال ، فلا يمدح الرب جل وعلا نفسه به ؛ بل ولا يصف تعالى نفسه به ؛ وإنما يصفها بالنفي المتضمِّن معنى ثبوتٍ ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾(الكهف: 49) ، فهذا مستلزم لثبوت صفة عدله ، ومتضمِّن لكمالها . وقوله تعالى :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ (البقرة: 255) مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته ، ومتضمِّن لكمالهما . وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء (البقرة: 255) مستلزم لثبوت علمه ، ومتضمِّن لكماله ، وكذلك قوله تعالى :﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3). وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في القرآن والسنة ؛ إنما هو لثبوت كمال ضده ، سبحانه وتعالى !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق