الأحد، 12 فبراير 2012

مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ في الصحيحين


بين الله عز وجل في قوله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة:222) أن المحيض أذى ، وأمر باعتزال النساء في المحيض ، ونهى عن القرب منهن حتى يطهرن . فما المراد من اعتزال الحائض وعدم القرب منها ، وهل يجوز للزوج أن يباشر زوجه في حال حيضها ؟

أولاً- يجيب البخاري ومسلم عن هذا السؤال بما يذكره كل منهما في صحيحه من أحاديث منسوبة إلى بعض أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- يخبرْن فيها عن مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن ، وهن حائضات مؤتزرات ، ففي باب ( مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ ) من صحيح البخاري ، وفي باب ( مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فَوْقَ الْإِزَارِ ) من صحيح مسلم ، نقرأ الأحاديث الآتية :

1- « حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ ، كِلَانَا جُنُبٌ ، وَكَانَ يَأْمُرُنِي ، فَأَتَّزِرُ ، فَيُبَاشِرُنِي ، وَأَنَا حَائِضٌ ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ ، فَأَغْسِلُهُ ، وَأَنَا حَائِضٌ » .

2- « حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا ، أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا . قَالَتْ : وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ » .

3- « حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حَائِضٌ ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ » .

ثانيًا- ويتبارى شُرَّاح الحديث في شرح هذه الأحاديث الغريبة ، واستنباط الأحكام منها ، ولم ينسوا أن يذكروا ما دار بين العلماء من خلاف في تلك الأحكام ، مُصمِّين آذانهم عن سماع ما فيها من ألفاظ تثير الغرائز ، لا يليق ذكرها ونسبتها إلى السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- ومغمضين أعينهم عن رؤية ما فيها من إساءة ظاهرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأزواجه رضي الله عنهن ، وخاصة السيدة عائشة ؛ ويكفي لإثبات ذلك أن نذكر ما قاله ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث الثاني من الأحاديث الثلاثة السابقة ، وهو أكثرها غرابة وإساءة . وأسوأ ما فيه وأغرب تلك العبارة التي وضعها كل من البخاري ومسلم على لسان السيدة عائشة- رضي الله عنها- والتي تشير إشارة ظاهرة إلى خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في مقدرته الجنسية على امتلاكه لعضوه أو لشهوته الجنسية أثناء مباشرة أزواجه ، وهن في حالات الحيض ، تلك العبارة التي يأنف الفاسق حياء وخشية من ذكرها ونسبتها إلى زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولست أدري أي امرأة تلك التي تجرؤ على القول ، وبدون سبب يدفعها إلى ذلك : « وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؟ » ؛ وكأنها تفاخر بقدرة زوجها الجنسية التي تتمثل في امتلاكه لعضوه أثناء مباشرته لها وهي حائض ، ولا يخفى على اللبيب الفطن ما في هذا القول من افتراء ظاهر .

ويكتفي ابن حجر العسقلاني في ( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) ، باب ( مباشرة الحائض ) بشرح ألفاظ الحديث ، واستخراج الأحكام منه ، فقد ذهب إلى أن المراد من ( مباشرة الحائض ) : التقاء البشرتين ، لا الجماع ، وذهب في باب ( المباشرة للصائم ) إلى أن أصل المباشرة : التقاء البشرتين ، ويستعمل في الجماع ؛ سواء أَوْلَج ، أو لم يُولج . وواضح من ذلك أن المراد بمباشرة الحائض تلك التي تستعمل في النكاح من غير إيلاج الميل في المكحلة ، وليس المراد منها مجرد التقاء البشرتين .

و( تَتَّزِر ) ، بتشديد التاء الثانية ، يروى :( تأْتَزِر ) بهمزة ساكنة ، وهي أفصح من الأولى ، والمراد : تشد الإزار على وسطها ، وهو ما بين السرة والركبة ، وروي أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبلغ إلى أنصاف الفخذين . وقيل : الإزار في اللغة كناية عَن الفرج . وقال : وَكيعٌ : الإزارٌ عندنا : الخرقة التي على الفرج . و( فَوْر الحَيْضَ )- على ما قال الخطابي- أول الحيض ومعظمه ، وقال القرطبي : فوْرُ الحيضة : مُعظَم صبّها ، من فوَران القِدْر وغليانها .

وأما ( يَمْلِك إِرْبه ) ، فالإرْب بكسر الهمزة وسكون الراء ، يطلق على عُضْوُ الرجل الذي يستمتع به ، وقيل : هو الحاجة ، والمراد منها : الشهوة إلى النكاح . وتسمَّى : إِرْبًا ، بكسر فسكون ، وَأَرَبًا ، بفتحتين ، وذكر الخطابي في شرحه أن الإرب روي هنا بالوجهين ، والمراد على ما قال ابن حجر : « أنه صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لحاجته ، فلا يخشى عليه ما يخشى على غيره من أن يحوم حول الحمى ، ومع ذلك فكان يباشر فوق الإزار تشريعًا لغيره ممن ليس بمعصوم ، وبهذا قال أكثر العلماء ، وهو الجاري على قاعدة المالكية في باب سدِّ الذرائع » .

ويتابع ابن حجر العسقلاني قائلاً :« وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الذي يُمتنَع في الاستمتاع بالحائض الفرجُ فقط ، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ، ورجحه الطحاوي ، وهو اختيار أَصَبْغ من المالكية ، وأحد القولين أو الوجهين للشافعية ، واختاره المنذر ، وقال النووي : هو الأرجح دليلاً ؛ لحديث أنس في مسلم " اصنعوا كل شيء إلا الجماع " . وقال ابن دقيق العيد : ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار ؛ لأنه فعل مجرد » .

ويدل على الجواز أيضًا ما رواه أبو داود بإسناد قوي ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا . واستدل الطَّحَاوِيُّ على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدًّا ولا غُسلاً ، فأشبهت المباشرة فوق الإزار . وفصَّل بعض الشافعية ، فقال : إن كان يضبط نفسه عند المباشرة عن الفرج ويثق منها باجتنابه جاز ؛ وإلا فلا ، واستحسنه النووي » .

ويقول ابن حجر العسقلاني في موضع آخر ، بعد أن ذكر الأحاديث السابقة : « وقد دلت هَذهِ الأحاديث على جواز نوم الرجل مع المرأة في حال حيضها ، وجواز مباشرته لها ، واستمتاعه بها من فوق الإزار . والإزار هو ما بين السرة والركبة ، وفي الرواية الأخيرة عن ميمونة الشك : هل كان الإزار يبلغ إلى الركبتين ، أو إلى أنصاف الفخذين ؟ وقد روي أن الإزار كان يبلغ إلى أنصاف الفخذين ، جزمًا من غير شك ، خرَّجه ابن ماجه من حديث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها سئلت : كيف كنت تصنعين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض ؟ قالت : كانت إحدانا في فورها ، أول ما تحيض تشد عليها إزارًا إلى أنصاف فخذيها ، ثم تضطجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإسناده حسن ، وفي إسناده ابن إسحاق » .

ويضيف ابن حجر قائلاً : « وفي هذا الحديث- معَ حديث عائشة الثاني الذِي خرجه البخاري هاهنا- دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانَ يأمر الحائض بالاتزار في أول حيضتها ، وهو فور الحيضة وفوحها ، فإن الدم حينئذ يفور لكثرته ، فكلما طالت مدته قل ، وهذا مما يستدل به على أن الأمر بشد الإزار لم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار ؛ بل خشية من إصابة الدم والتلوث به ، ومبالغة في التحرز من إصابته » .

ثم يقول :« وفي ( سنن أبي داود ) مِن حديث عكرمة ، عَن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالَ : كانَ النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أراد مِن الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا . وإسناده جيد ، وَهوَ محمول على ما بعد الثلاث ، إذا ذهبت سورة الدم وحدته وفوره ، فكان حينئذ يكتفي بستر الفرج وحده بثوب ، ثم يباشر .

وقد روي عَن الأوزاعي ، عَن عبدة بنِ أبي لبابة ، عَن أم سلمة ، قالت : كنت معَ النبي صلى الله عليه وسلم في لحافه ، فنفست ، فقالَ : مالك ! أنفست ؟ قلت : نعم ، فأمرني أن أضع على قبلي ثوبًا . خرَّجه أبو بكر ابن جعفر في كِتابِ الشافي » .

وينتهي ابن حجر من ذلك كله إلى القول :« وسنذكر في ( الصيام ) ، إن شاء الله تعالى ، الأحاديث الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يلقي على فرج المرأة في صيامه ثوبًا ، ثُمَّ يباشرها . فظهر بهذا : أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز ، لا منع فيهِ سوى الوطء في الفرج ، وأنه يستحب أن يكون ذَلِكَ مِن فوق الإزار ، خصوصًا في أول الحيض وفورته ، وإن اكتفى بستر الفرج وحده جاز ، وإن استمتع بها بغير ستر بالكلية جاز أيضًا ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء غير النكاح . خرجه مسلم » .

ثالثًا- وحاصل ما تقدم :

1- أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز بما في ذلك الفرج ، من غير إيلاج فيه ؛ سواء كانت المباشرة من فوق إزار ، أو من تحت إزار ، أو من دون إزار ، ودليلهم على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اصنعوا كل شيء غير النكاح » .

هذه هي الخلاصة التي انتهى إليها ابن حجر من شرحه لتلك الأحاديث ، وهي التي أجمع عليها جمهور فقهاء الأمة وعلمائها ، ومن المؤسف جدًّا أن نجدهم يرددون تلك الأحاديث التي نسب فيها رواتها إلى أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- ما تضمنته من ألفاظ مكشوفة تخدش الحياء ، وجعلوا منهن شهودًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل معهن ذلك الفعل الذي حرمه الله تعالى بقوله :

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾(البقرة: 222) ،

فالله عز وجل يقرِّر في هذه الآية المحكمة أن ( الْمَحِيضِ أَذًى ) ، والمراد بالمحيض إما زمانه ومكانه معًا ، أو مكانه فقط ؛ ولذلك يأتي الأمر من الله عز وجل باعتزال النساء في المحيض أمرًا حاسمًا ، وزيادة في التأكيد والتحذير يتبع سبحانه ذلك الأمر بالنهي عن القرب من النساء نهيًا قاطعًا حتى يطهرن . هذا ما أمر الله عز وجل رسوله صلى عليه وسلم بأن يبلغه للناس ، فكيف يعقل أن يخالف رسول الله صلى عليه وسلم أمر ربه ، فيبيح لأمته ما حرمه الله ، والله سبحانه يخاطبه بقوله :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (الرعد: 40) ؟ فالرسول ليست مهمته التشريع ؛ وإنما مهمته أن يبلغ الناس ما أنزل إليه من ربه من تشريع ، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة:67) .

ومع هذا البيان الواضح والصريح فقد فسَّر جمهور المفسرين والفقهاء الأمر باعتزال النساء في المحيض ، والنهي عن القرب منهن باجتناب مجامعتهنَّ أو وطأهنَّ ، ثم نسبوا ذلك التفسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعتمادًا على الأحاديث السابقة ، فهذا ابن حجر العسقلاني يقول قي ( فتح الباري شرح صحيح البخاري- كتاب الحيض ) :« وقوله تعالى :﴿ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال النكاح » . وهذا النووي يقول في ( شرحه على مسلم ) :« وأما قوله تعالى :﴿ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ فالمراد : اعتزلوا وطْأَهنَّ ، ولا تقربوا وطْأَهنَّ » .

وهذا أبو حيان يقول في ( البحر المحيط ) عند تفسير الآية :« واختلف في هذا الاعتزال ؛ فذهب ابن عباس ، وشريح ، وابن جبير ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ويعضده ما صح أنها : تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها . وذهبت عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، وداود إلى أنه لا يجب إلا اعتزال الفرج فقط ، وهو الصحيح من قول الشافعي . وروي عن ابن عباس ، وعبيدة السلماني أنه يجب اعتزال الرجل فراش زوجته ، إذا حاضت ، أخذ بظاهر الآية ، وهو قول شاذ » .

وأضاف أبو حيان قائلاً : « وقوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ هو كناية عن الجماع ، ومؤكد لقوله :﴿ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض ، وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسَّان ؛ ولكن بيَّنت السنة أنه اعتزال وقربان خاص » .

فمن قال بوجوب اعتزال الرجل فراش زوجته الحائض أخذًا بظاهر الآية ، كان قوله شاذًّا ؛ لأنه خلاف لما نصَّت عليه السنة ؛ إذ بينت أنه اعتزال وقربان خاص .. والاعتزال في اللغة- كما فسره أبو حيان نفسه- هو ضد الاجتماع ، وهو التيأُّسُ من الشيء والتباعدُ منه ، وتارة يكون بالبدن ، وتارة بالقلب ، وهو ( افتعال ) ، من العزل ، وهو تنجية الشيء من الشيء .

ولا شك أن المراد بالاعتزال المأمور به في الآية هو اعتزال بالبدن ؛ إذ لا يعقل أن يكون اعتزالاً بالقلب ، وكذلك القرب المنهي عنه ؛ ومن الاعتزال الذي حمل على الاعتزال بالبدن والقلب قول بعض أهل الكهف لبعض :﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ (لكهف: 16) . قال أبو حيان :« والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم ، فهو اعتزال جسماني وقلبي » . فاعتزالهم أوطان قومهم هو اعتزال بالبدن ، واعتزالهم معتقداتهم هو اعتزال بالقلب ، ومن النهي عن القرب قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ (النساء:43)

﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (الأنعام: 151) .

﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (الإسراء: 32) .

وقد قيل : النهي عن قرب الشيء أبلغ من الإتيان به ، وبهذا يتبين أن الاعتزال المأمور به في الآية هو اعتزال الحائض بالبدن ، وأن القرب المنهي عنه فيها هو نهي عن القرب منها . أما القول بأن السنة بيَّنت أنه اعتزال وقربان خاص فهذا مما لا ينبغي التسليم به والركون إليه ؛ لأن السنة لا تتعارض مع القرآن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يبيح شيئًا حرمه الله تعالى ، ومهمته كرسول مقتصرة على البلاغ ، والبلاغ المبين . ومن كان خلقه القرآن لا يمكن أن يصدر عنه قول أو فعل يخالف القرآن .

لنسمع إلى الزمخشري وهو يقول عند تفسير آية الاعتزال :« وقوله :﴿ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء ﴾ ، ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾ ، ﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ من الكنايات اللطيفة ، والتعرُّضات المستحسنة ، فهذه وأشباهها في كلام الله تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم » .

فأين هذه الآداب الحسنة التي ينبغي على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم ؟ هل نجدها في تلك الأحاديث التي يضع فيها رواتها على ألسنة أمهات المؤمنين ألفاظًا من مثل ( الإرْب ، والفرج ، والقبل ، والاستمتاع ، والمضاجعة ) ؟ وأي رجل ذلك الذي يسمح لزوجه أن تحدث الرجال بقولها :( وأيكم يملك إرب زوجي ؟ ) ، أو بقولها :( إذا أراد زوجي مِني شيئًا وأنا حائض ، ألقى على فرجي ، أو قبلي ثوبًا ؟ ) ، وأي امرأة تلك التي تجيب عن تلك الأسئلة بهذه الألفاظ التي تفوج منها رائحة الجنس دون حياء ؟ فهل رفع الحياء من الوجوه ؟ وكيف يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك مع أزواجه ، تشريعًا لمن ليس بمعصوم من أمته ، والكل يروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال :« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها » ؟ فإذا كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها ، فمن الأولى أن تكون أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- أشد حياء من تلك العذراء . أليس الحياء من الدين ؟ بل هو الدين كله ؛ كما روى البيهقي في السنن الكبرى وشعب الإيمان ، والطبراني في المعجم الكبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم أي تشريع مزعوم ذلك الذي يُشرَّع لمن ليس بمعصوم ، إذا كان لا يقدر على امتلاك إربه ، ويخشى عليه من أن يحوم حول الحمى ، كما قال ابن حجر العسقلاني ؟ ألا ترى إلى ذلك القول :« وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؟ » كيف ينفي على سبيل الاستفهام الإنكاري أن يملك أحد عضوه أو شهوته إلى النكاح ؟ هذا معنى هذه العبارة ، وليس كما فسرها ابن حجر : « أنه صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لحاجته فلا يخشى عليه ما يخشى على غيره من أن يحوم حول الحمى » ، فالفرق واضح بين أن يقال :

« وأيكم يملك إربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك إربه ؟ » ، وأن يقال :

« كان صلى الله عليه وسلم أملك الناس لإربه » .

فالأول نفي صفة في طرف على سبيل القطع ، وإثباتها في الطرف الآخر . أما الثاني فيقوم على المفاضلة بين طرفين اشتركا في صفة واحدة ، هي في الطرف المفضَّل أظهر وأقوى في الطرف المفضل منه .

هذا وقد روى الطبراني في المعجم الكبير والأوسط عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات ، فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام ، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقع الحمى ، وهو لا يشعر » . وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا » . وفي درء الحدود بالشبهات روى ابن شيبة في مصنفه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال :« لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات » . وروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن معاذًا ، وعبد الله بن مسعود ، وعقبة بن عامر قالوا :« إذا اشتبه عليك الحد فادرأه » .

2- وقد بلغ الأمر برواة الحديث أن رووا عَن ابن عباس : « أنه كان يعتزل فراش امرأته في حال الحيض ، وأن خالته ميمونة- رضي الله عنهما- أنكرت عليه ذلك ، فرجع عنه » . ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في ( فتح الباري ) ، ثم قال :« ففي ( مسند الإمام أحمد ) ، من حديث ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن ندبة ، قالت : أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله ابن عباس- وكانت بينهما قرابة- فرأيت فراشها معتزلاً عَن فراشه ، فظننت أن ذلك لهجرانٍ ، فسألتها ، فقالت : لا ، ولكني حائض ، فإذا حضت لم يقرب فراشي ، فأتيت ميمونة ، فذكرت ذلك لها ، فردتني إلى ابن عباس ، فقالت : أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه الحائض ما بينهما إلا ثوب ما يجاوز الركبتين » .

ولست أدري : هل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في مخالفة شرع الله عز وجل ، أم في تطبيق ذلك الشرع الذي أمر بتبليغه للناس من ربه ورب الناس ؟ وكيف تنكر ميمونة على ابن أختها اعتزال فراش زوجته الحائض ، وهو يدرأ الحدود بالشبهات ، أخذًا بظاهر الآية ؟

3- وفي مقابل تلك الأحاديث التي تنهى عن اعتزال فراش الحائض وتبيح للرجل الاستمتاع ببدن المرأة كله بما في ذلك الفرج من غير إيلاج فيه ، يذكر ابن حجر في ( فتح الباري ) أحاديث أخرى تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتزل فراش أزواجه في المحيض ؛ إلا لأنه لم يكن يملك سوى فراش واحد ، فلما وسَّع الله تعالى عليه اعتزله نساؤه ، وفي ذلك يقول ابن حجر العسقلاني :« وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إنما كان ينام مع الحائض ، حيث لم يكن لهم سوى فراش واحد ، فلما وسع عليهم اعتزل نساءه في حال الحيض . خرَّجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن ابن قريط الصدفي . قال : قلت لعائشة : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاجعك ، وأنت حائض ؟ قالت : نعم ، إذا شددت عليّ إزاري ، ولم يكن لنا ؛ إذ ذاك إلا فراش واحد ، فلما رزقني الله فراشًا آخر اعتزلت رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

فاعتزال الحائض وعدمه- إذًا- خاضع لتوفر فراش آخر ، أو عدم توفره ، فمن كان لديه فراش آخر اعتزل ، ومن لم يكن لديه فراش آخر لم يعتزل . ورسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه سوى فراش واحد ، فلما وسع الله عليه اعتزله أزواجه . وهكذا يصورون لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيرًا ، والله تعالى يخاطبه بقوله :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (الضحى: 6-8) ؟

ثم من ابن قريط ذلك الذي يسأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك السؤال الوقح :« أكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاجعك ، وأنت حائض » ؟ وكيف تسمح عائشة- رضي الله تعالى عنها- له أو لغيره أن يسألها ذلك السؤال ، ثم تجيب عنه بلا خجل ولا حياء ؟ أيعقل هذا يا علماء المسلمين وفقهاءهم ؟

ونتابع مع ابن حجر العسقلاني ، وهو يقص علينا من تلك الروايات العجيبة ، فيقول : « وعن عبد الرحمن بنِ زياد ، عَن عمارة بن غراب ، أن عمة له حدثته ، أنها سألت عائشة ، قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد . قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل فمضى إلى مسجده- تعني : مسجد بيته- فلم ينصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : ادني ، فقلت : إني حائض ، قال : وإن ، اكشفي عَن فخذيك ، فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفيء ونام » .

فأي عمة لابن غراب تلك التي تزعم أن عائشة- رضي الله تعالى عنها- حدثتها بما حدثتها به ؟ وعلى فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدر منه ذلك القول لعائشة- رضي الله عنها- وصدر منها هي ذلك الفعل ، فكيف تفشي سرها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة كل ما يقال عنها أنها عمة لابن غراب الذي سمع منها تلك الرواية المفتعلة ، وحدث بها غيره ؟

ويمضي ابن حجر العسقلاني قائلاً :« وفي سنن أبي داود ، عَن أبي اليمان كثير بن يمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة ، قالت : كنت إذا حضت نزلت عَن المِثال إلى الحصير ، فلن نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ندن منه حتى نطهر » . ( المِثالُ في اللغة : الفِراش ، والجمع : مُثُل ) .

ثم يقول :« وقد روى جعفر بنِ الزبير ، عَن القاسم ، عَن أبي أمامة ، قال : قال عمر : كنا نضاجع النساء في المحيض ، وفي الفرش واللحف قلة ، فأما إذ وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن ، كما أمر الله عز وجل خرجه القاضي إسماعيل .

وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين : حدثنا أبو هلال ، حدثني شيبة الراسبي ، قال : سألت سالمًا عَن الرجل يضاجع امرأته ، وهي حائض ، قال : أمَّا نحن آل عمر ، فنهجرهن إذا كن حيضًا » .

فهذه الأحاديث الثلاثة تنقض الأحاديث السابقة كلها ، وتتفق مع آية الاعتزال ؛ ولكن ابن حجر يردها ويعلق على الحديث الأول بقوله :« أبو اليمان وأم ذرة ليسا بمشهورين ، فلا يقبل تفردهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات » ، ويعلق على الثاني بقوله :« وهذا لا يثبت ، وجعفر بنِ الزبير متروك الحديث » ، ويعلق على الثالث بقوله :« إسناد ضعيف » .

فما خالف الآية الكريمة من تلك الروايات كان مقبولاً ؛ لأن رواته من الثقات الحفاظ الأثبات ، خلافًا لما وافق الآية من تلك الروايات .. والعجب من أولئك الرواة الثقات الحفاظ الأثبات الذين يروون عن أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- تلك الروايات العجيبة الغريبة ؛ كتلك الرواية التي رواها البخاري ومسلم عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- والتي تقول فيها : « وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؟ » .

ولسائل أن يسأل : إذا كان لا يوجد أحد يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه ؛ لأنه معصوم ، وذلك الأحد غير معصوم ، فما الحكمة أو الفائدة من أن يشرع عليه الصلاة والسلام لغير المعصوم ، فيبيح له مباشرة الحائض والاستمتاع ببدنها كله بما فيه فرجها ، دون الإيلاج فيه ، خلافًا لما نصَّت عليه آية الاعتزال ؟

4- ومما يدل أيضًا على افتعال تلك الأحاديث اختلاف المفسرين في سبب نزول آية الاعتزال على أقوال ذكرها أبو حيان في ( البحر المحيط ) ، فقال : « في صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانزل الله تعالى هذه الآية . وقيل : كانت العرب على ما جاء في هذا الحديث ، فسأل أبو الدحداح عن ذلك ، فقال : كيف نصنع بالنساء إذا حضن ؟ فنزلت . وقال مجاهد : كانوا يأتون الحيض ، استنوا سنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحيض ، ومساكنتها ، فنزلت . وقيل : كانت النصارى يجامعون الحيض ولا يبالون بالحيض ، واليهود يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين . وقيل : سأل أسيد بن حضير ، وعباد بن بشير ( عن المحيض ) ، فنزلت . وقيل : كانت اليهود تقول : من أتى امرأة من دبرها ، جاء ولده أحول ، فامتنع نساء الأنصار من ذلك ، وسئل عن إتيان الرجل امرأته وهي حائض ، وما قالت اليهود ، فنزلت » .

وقال الألوسي في روح المعاني : « أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، عن أنس رضي الله تعالى عنهم ، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فأنزل الله هذه الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : « جامعوهنّ في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح » .

وقد سبق أن قال الإمام الطبري في تفسيره : « ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ، وتضمن مناكحة أهل الإيمان وإيثار ذلك ، بين حكمًا عظيمًا من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في زمان الحيض » .

أعود بعد هذا إلى السؤال الذي سبق أن سألته ، فأقول : إن سلمنا جدلاً بأن اعتزال الحائض المأمور به والقرب المنهي عنه في الآية هو كناية عن الجماع ، وأن الآية بينت حكمًا عظيمًا من أحكام النكاح كما يقول الطبري ، فكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أن يجامعوا النساء قي البيوت ، وأن يصنعوا كل شيء إلا النكاح ، والبخاري ومسلم يرويان عن عائشة- رضي الله عنها- أنها كانت تقول : « وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ ؟ » ؟! فإن كان لا يملك أحد إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه ، فما الحكمة أو الفائدة من تشريع يبيح للأمة ما حرمه الله تعالى ؟

وأختم بهذا الحديث الغريب الذي رواه الشيخان في صحيحيهما ، باب ( قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض ) ، عن منصور بن صفية أن أمه حدثته أن عائشة- رصي الله عنها- حدثتها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتَّكِىء في حجري ، وأنا حائض ، ثم يقرأ القرآن » .

ويعلق ابن حجر العسقلاني في ( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) على الحديث ، فيقول :« ومراد البخاري بهذا الباب : أن قرب القارئ مِن الحائض ومن موضع حيضها لا يمنعه مِن القراءة ؛ فإنه لَم يكن للحيض تأثير في منع القراءة ، ولم يكن في إخبار عائشة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، وهو متكئ في حجرها في حال الحيض ، معنى ؛ فإنها أرادت أن قرب فم القارئ للقرآن من محل الحيض لا يمنعه القراءة » .

ويستطرد ابن حجر قائلاً : « وقد صرحت ميمونة أم المؤمنين بهذا المعنى ، كما خرجه الإمام أحمد مِن حديث ابن جريج ، أخبرني منبوذ ، أن أمه أخبرته ، أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ دخل عليها ابن عباس ، فقالت : مالك شعثًا ؟ قال : أم عمار مرجلتي حائض . فقالت : أيْ بني ! وأين الحيضةُ من اليد ؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا ، وهي متكئة حائض ، قد علم أنها حائض ، فيتكىء عليها ، فيتلو القرآن ، وهو متكىء عليها ، أو يدخل عليها قاعدة ، وهي حائض ، فيتكىء في حجرها ، فيتلوا القرآن ، وَهوَ متكىء في حجرها ، وتقوم وهي حائض ، فتبسط له خمرة في مصلاه- وفي رواية : فتبسط خمرته - فيصلي عليها في بيتي ، أيْ بني ! وأين الحيضة من اليد ؟ » .

ويعلق النووي في ( شرح صحيح مسلم ) على الحديث بقوله :« قوْلهَا : ( كان رسول النبي صلى الله عليه وسلم كان يتَّكِىء في حجري ، وأنا حائض ، فيقرَأ القرآن ) فيه جواز قراءة القرآن مضجعًا ومتَّكئًا على الحائض ، وبقرب موضع النجاسة ، والله أعلم ! » .

وهكذا ضاقت الأرض بما رحبت ، فلم يبق فيها مكان يقرأ فيه القرآن سوى حجر الحائض ، وبقرب موضع النجاسة ، فسبحان الله ، وتعالى الله ورسوله عما يصفون ، نسأله سبحانه أن ينوِّر بصائرنا ؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق