أولاً- قال البخاري في صحيحه باب ( مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ ) :
1- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ ، يَقُولُ : رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا .
2- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ قَيْسٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ، كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ ، فَقُلْنَا : أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ .
3- وَقَالَ أَصْبَغُ : أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ ، وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ ، وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ ، فَسَكَتَ عَنِّي ، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَسَكَتَ عَنِّي ، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ ذَرْ » . أي : اترك ، أو دع ، كما جاء في رواية النَّسائي .
4- وذكر البخاري حديث بن مسعود برواية أخرى في باب ( قَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) ، قال : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ قَيْسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ ، فَقُلْنَا : أَلَا نَخْتَصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ، ثُمَّ قَرَأَ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ .
وثَمَّ رواية ثالثة لهذا الحديث ذكرها البخاري في باب ( تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ ) ، قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي قَيْسٌ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ .
ثانيًا- وروى مسلم في صحيحه ، باب ( نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَقَرَّ تَحْرِيمُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) الحديث الأول الذي رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود ، هكذا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ وَابْنُ بِشْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ ، فَقُلْنَا : أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ .
ثم قال : وحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ ، وَقَالَ : ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَلَمْ يَقُلْ : قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ ، وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، قَالَ : كُنَّا ، وَنَحْنُ شَبَابٌ ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ وَلَمْ يَقُلْ : نَغْزُو .
ثالثًا- وفي ( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) قال ابن حجر في شرحه للحديثين السابقين :
1- قَوْله : ( أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ ) . أَيْ : أَلَا نَسْتَدْعِي مَنْ يَفْعَل لَنَا الْخِصَاء ، أَوْ : نُعَالِج ذَلِكَ بأَنْفُسنَا .
2- قَوْله : ( فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ) هُوَ نَهْي تَحْرِيم بِلَا خِلَاف فِي بَنِي آدَم .. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْمَفَاسِد تَعْذِيب النَّفْس ، وَالتَّشْوِيه مَعَ إِدْخَال الضَّرَر الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك . وَفِيهِ إِبْطَال مَعْنَى الرُّجُولِيَّة ، وَتَغْيِير خَلْقِ اللَّه ، وَكُفْر النِّعْمَة ؛ لِأَنَّ خَلْقَ الشَّخْص رَجُلًا مِنْ النِّعَم الْعَظِيمَة ، فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ ، فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَرْأَةِ ، وَاخْتَارَ النَّقْص عَلَى الْكَمَال . قَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْخِصَاء فِي غَيْر بَنِي آدَم مَمْنُوع فِي الْحَيَوَان ؛ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ حَاصِلَة فِي ذَلِكَ ؛ كَتَطْيِيبِ اللَّحْم ، أَوْ قَطْع ضَرَر عَنْهُ . وَقَالَ النَّوَوِيّ : يَحْرُم خِصَاء الْحَيَوَان غَيْر الْمَأْكُول مُطْلَقًا ، وَأَمَّا الْمَأْكُول فَيَجُوز فِي صَغِيره دُون كَبِيره ، وَمَا أَظُنّهُ يَدْفَع مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيّ مِنْ إِبَاحَة ذَلِكَ فِي الْحَيَوَان الْكَبِير عِنْد إِزَالَة الضَّرَر .
3- قَوْله : ( الْعَنَت ) هُوَ الزِّنَا هُنَا ، وَيُطْلَق على الْإِثْم وَالْفُجُور وَالْأَمْر الشَّاقّ وَالْمَكْرُوه . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَصْل الْعَنَت الشِّدَّة .
4- قَوْله : ( وَلَا أَجِد مَا أَتَزَوَّج النِّسَاء ، فَسَكَتَ عَنِّي ) كَذَا وَقَعَ ، وَفِي رِوَايَة حَرْمَلَة : " وَلَا أَجِد مَا أَتَزَوَّج النِّسَاء ، فَائْذَن لِي أَخْتَصِي " ، وَبِهَذَا يَرْتَفِع الْإِشْكَال عَنْ مُطَابَقَة الْجَوَاب لِلسُّؤَالِ .
5- قَوْله : ( جَفَّ الْقَلَم بِمَا أَنْتَ لَاقٍ ) . أَيْ : نَفَذَ الْمَقْدُور بِمَا كُتِبَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ، فَبَقِيَ الْقَلَم الَّذِي كُتِبَ بِهِ جَافًّا لَا مِدَاد فِيهِ ؛ لِفَرَاغِ مَا كُتِبَ بِهِ ، قَالَ عِيَاض : كِتَابَةُ اللَّه وَلَوْحُه وَقَلَمُه مِنْ غَيْبِ عِلْمه الَّذِي نُؤْمِن بِهِ ، وَنَكِل عِلْمه إِلَيْهِ .
6- قَوْله : ( فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ ذَرْ ) فِي رِوَايَة الطَّبَرِيِّ ، وَحَكَاهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع ، وَوَقَعَتْ فِي الْمَصَابِيح : " فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ ذَرْ " . قَالَ الطِّيبِيُّ : مَعْنَاهُ : اِقْتَصِرْ عَلَى الَّذِي أَمَرْتُك بِهِ ، أَوْ اُتْرُكْهُ ، وَافْعَلْ مَا ذَكَرْت مِنْ الْخِصَاء .
وَأَمَّا اللَّفْظ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْل فَمَعْنَاهُ : فَافْعَلْ مَا ذَكَرْت ، أَوْ اُتْرُكْهُ ، وَاتَّبِعْ مَا أَمَرْتُك بِهِ . وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَلَيْسَ الْأَمْر فِيهِ لِطَلَبِ الْفِعْل ، بَلْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ .. وَالْمَعْنَى : إِنْ فَعَلْت ، أَوْ لَمْ تَفْعَل ، فَلَا بُدّ مِنْ نُفُوذ الْقَدَر ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّض لِحُكْمِ الْخِصَاء .
وانتهى ابن حجر من ذلك إلى القول : وَمُحَصِّل الْجَوَاب : أَنَّ جَمِيع الْأُمُور بِتَقْدِيرِ اللَّه فِي الْأَزَل ، فَالْخِصَاء وَتَرْكه سَوَاء ، فَإِنَّ الَّذِي قُدِّرَ لَا بُدّ أَنْ يَقَع . وَقَوْله : " عَلَى ذَلِكَ " هِيَ مُتَعَلِّقَة بِمُقَدَّرٍ . أَيْ : اُخْتُصَّ حَال اِسْتِعْلَائِك عَلَى الْعِلْم ، بِأَنَّ كُلّ شَيْء بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ ، وَلَيْسَ إِذْنًا فِي الْخِصَاء ؛ بَلْ فِيهِ إِشَارَة إِلَى النَّهْي عَنْ ذَلِكَ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ : إِذَا عَلِمْت أَنَّ كُلّ شَيْء بِقَضَاءِ اللَّه ، فَلَا فَائِدَة فِي الِاخْتِصَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عُثْمَان بْن مَظْعُون لَمَّا اِسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ ، وَكَانَتْ وَفَاته قَبْل هِجْرَة أَبِي هُرَيْرَة بِمُدَّةٍ . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ :" شَكَا رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُزُوبَة ، فَقَالَ : أَلَا أَخْتَصِي ؟ قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوْ اِخْتَصَى " .
ثم استخلص ابن حجر من حديث أبي هريرة عدة أحكام ، وهي على الترتيب :
1- فِي الْحَدِيث ذَمّ الِاخْتِصَاء ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ،
2- وَأَنَّ الْقَدَر إِذَا نَفَذَ لَا تَنْفَع الْحِيَل .
3- وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة شَكْوَى الشَّخْص مَا يَقَع لَهُ لِلْكَبِيرِ ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَهْجَن وَيُسْتَقْبَح .
4- وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد الصَّدَاق ، لَا يَتَعَرَّض لِلتَّزْوِيجِ .
5- وَفِيهِ جَوَاز تَكْرَار الشَّكْوَى إِلَى ثَلَاث ، وَالْجَوَاب لِمَنْ لَا يَقْنَع بِالسُّكُوتِ ، وَجَوَاز السُّكُوت عَنْ الْجَوَاب لِمَنْ يَظُنّ بِهِ أَنَّهُ يَفْهَم الْمُرَاد مِنْ مُجَرَّد السُّكُوت .
6- وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب أَنْ يُقَدِّم طَالِب الْحَاجَة بَيْن يَدَيْ حَاجَته عُذْرَهُ فِي السُّؤَال .
7- وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ : وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ مَهْمَا أَمْكَنَ الْمُكَلَّف فِعْلُ شَيْء مِنْ الْأَسْبَاب الْمَشْرُوعَة ، لَا يَتَوَكَّل إِلَّا بَعْد عَمَلِهَا لِئَلَّا يُخَالِف الْحِكْمَة ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ وَطَّنَ نَفْسه عَلَى الرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ ، وَلَا يَتَكَلَّف مِنْ الْأَسْبَاب مَا لَا طَاقَة بِهِ لَهُ .
8- وَفِيهِ أَنَّ الْأَسْبَاب إِذَا لَمْ تُصَادِف الْقَدَر لَا تُجْدِي .
ويستطرد ابن حجر بعد ذلك قائلاً :« فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُؤْمَر أَبُو هُرَيْرَة بِالصِّيَامِ لِكَسْرِ شَهْوَته ؛ كَمَا أُمِرَ غَيْره ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ الْغَالِب مِنْ حَاله مُلَازَمَة الصِّيَام ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْل الصُّفَّة . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَبُو هُرَيْرَة سَمِعَ " يَا مَعْشَر الشَّبَاب مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ " الْحَدِيث ؛ لَكِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَال الْغَزْو ؛ كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَسْعُود ، وَكَانُوا فِي حَال الْغَزْو يُؤْثِرُونَ الْفِطْر عَلَى الصِّيَام لِلتَّقَوِّي عَلَى الْقِتَال ، فَأَدَّاهُ اِجْتِهَاده إِلَى حَسْمِ مَادَّة الشَّهْوَة بِالِاخْتِصَاءِ كَمَا ظَهَرَ لِعُثْمَانَ ، فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا لَمْ يُرْشِدهُ إِلَى الْمُتْعَة الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِد شَيْئًا ، وَمَنْ لَمْ يَجِد شَيْئًا أَصْلًا ، لَا ثَوْبًا وَلَا غَيْره ، فَكَيْف يَسْتَمْتِع ، وَالَّتِي يَسْتَمْتِع بِهَا لَا بُدّ لَهَا مِنْ شَيْء ؟
رابعًا- ومن يسمع هذه التعليقات التي تختلق المبررات الساذجة لتلك الأحاديث المفتعلة ، يعجب أيما عجب من أولئك العلماء الذين رووا تلك الأحاديث ، وأنفق آخرون منهم العمر في شرحها ، واستخراج الأحكام منها ، وليس بمهم عندهم وافقت تلك الأحاديث المفتعلة القرآن ، أو خالفته .
1- فعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم بالخصاء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن لهم ؛ بل ينهاهم عن فعل ذلك ، ثم يرخص لهم أن ينكحوا المرأة بالثوب ، ويقرأ هو عليه الصلاة والسلام ، أو عبد الله قول الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ .
وهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يزعم البخاري ومسلم وغيرهما ، ينهى أصحابه عن فعل شيء حرام وهو ( الخصاء ) ، ويحل لهم فعل شيء هو أشد منه حرمة ، وأكثر مفسدة ، وهو ( نكاح المتعة ) ، ثم يجعل ذلك الفعل الذي هو زنى وسفاح من الطيبات التي أحلها الله تعالى لعباده ، ونهاهم عن تحريمها على أنفسهم ، فيأتي بالآية الكريمة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . دليلاً على ذلك وشاهدًا .
وهل نكاح المتعة الذي أجمع الفقهاء على أنه زنى وسفاح ، هو من الطيبات التي أحلها الله تعالى لعباده الذين آمنوا ، ونهاهم عن تحريمها ؟ والله عز وجل يقول في السورة التي سماها بسورة النور :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(النور: 26) ، ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾(النور: 40) .
ثم إذا سلمنا جدلاً بأن نكاح المتعة داخل في الطيبات التي أحلها الله تعالى للذين آمنوا ونهاهم عن تحريمها ، فكيف يحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ؛ بعد أن أباحه لهم ؟ ثم كيف يحل شيئًا حرمه الله تعالى ، والله عز وجل يخاطبه بقوله :﴿ يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾(المائدة: 67) ، ويقصر سبحانه وتعالى مهمة الرسول على البلاغ ، فيقول على سبيل الحصر :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾(المائدة:99) ؟
ثم أي حديث ذلك الحديث الذي يُصوِّر الصحابة- رضي الله عنهم- وكأنهم لا همَّ لهم سوى إشباع غرائزهم الجنسية ، وهم في حالة جهاد في سبيل الله ، والجهاد عبادة ؟ هل رُفِع الحياء من وجوه هؤلاء الصحابة الذين مدحهم القرآن بأحسن الصفات ، حتى يسألوا النبي عليه الصلاة والسلام الخصاء ؟ ألأنهم لا نساء معهم في الغزو يسألونه الإذن بالخصاء ، فينهاهم عن ذلك الفعل الشنيع ، ثم يرخص لهم أن يتزوجوا المرأة بالثوب لأجل ؟ وأي صداق هذا الذي يقدمه الرجل لامرأة تهب نفسها له ؛ ليستمتع بها ، وتستمتع به ، ثم يتركها لغيره ؛ ليفعل بها ما فعله هو ؟ فهل المرأة سلعة رخيصة إلى هذه الدرجة ؟ أبالثوب تستباح ، ولأجل محدود ؟
ألا يذكرنا حديث البخاري ومسلم هذا بجيوش أهل الكفر الذين يصطحبون معهم النساء في حال غزوهم ؛ للاستمتاع بهن ؟ أليس في ذلك احتقار للمرأة ، وإهانة لها ، وإهدار لكرامتها ، وبخاصة المرأة المسلمة التي حفظ الإسلام لها حقوقها ، ورفع من شأنها ، فضلاً عما يترتب على ذلك الاستمتاع المقيت من نتائج وخيمة تعود على الفرد والمجتمع ؟
والغريب أنهم يقيسون إباحة نكاح المتعة على إباحة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر ، وينسبون ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما . أخرج الطبراني في المعجم الكبير ، عن سعيد بن جبير ، قال :« قلت لابن عباس لما أفتى بحل المتعة : هل تدري ما صنعت ، وبما أفتيت ؟ سارت بفتياك الركبان ، وقالت فيه الشعراء . قال : ما قالوا : قلت : قالوا :
قَدْ قَالَ لِيَ الشَّيْخُ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابنِ عَبَّاسِ
هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الأَطْرَافِ آنِسَةً ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى يَصْــدُرَ النَّاسُ
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لا ، والله ما بهذا أفتيت ، ولا هذا أردت ، ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير » .
حتى لو صح هذا القول عن ابن عباس ، فلا يجوز قياس من يشرف على الموت جوعًا فيباح له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، برجل مؤمن عرف بتقواه وصلاحه يغزو في سبيل الله ، يسأل أن يؤذن له بالخصاء فينهى عن ذلك ، ثم يباح له أن يستمتع بالمرأة لأجل ؛ فهذا ليس مثل ذلك ، وليس ابن عباس- رضي الله عنهما- من يفتي بتلك الفتوى الغريبة التي يترتب عليها ما يترتب من جعل المرأة سلعة رخيصة تستباح بثوب أو نحوه لأجل ، ثم تنتقل إلى آخر ، وهكذا ينتشر البغاء ، وتعم الفوضى ، وتضيع الأنساب .
2- أما أبو هريرة- وما أدراك ما أبو هريرة- إنه رجل شاب ملازم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخاف على نفسه أن يقع في الزنى ، ولا يجد شيئًا يتزوج به النساء ، فيطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالخصاء ، كما سأل غيره وغيره كثير ، فيسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكرر أبو هريرة السؤال ، ويلح طالبًا الإذن بالخصاء ، ويأتيه الجواب الحاسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ ذَرْ » .
مسكين أبو هريرة ، لقد قدر عليه منذ الأزل أن يعيش محرومًا من النساء ، فسواء عليه : اختصى ، أو لم يختص ، فالقلم الذي كتب المقادير في اللوح المحفوظ قد جف مداده بعد انتهائه من كتابتها ، والقدر إذا نفد لا تنفع معه الحيل ، فيا سبحان الله ! وتعالى الله عما يصفون ! فأي مقادير تلك التي كتبت في اللوح المحفوظ ، وأي قلم ذلك الذي جف مداده بعد انتهائه من كتابتها ، والله عز شأنه يقول :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾(الكهف: 109) ، ويقول سبحانه : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾(الرعد: 39) ؟
وأعتقد أن القارىء الفطن الذي لا تأخذه العزة بالإثم سيصاب بالدهشة والعجب إذا علم أن بني أمية بنوا لأبي هريرة قصرًا بالعقيق ، وأقطعوه أرضًا بالعقيق وبذي الحليفة ، جزاء لما قدمه لهم من خدمات ، ولم يكتفوا بذلك ؛ بل زوَّجوه ( بُسْرَةَ بنت غزوان ) أخت الأمير عتبة بن غزوان ، وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه . ولقد استخفه أشره وزهوه ، ونم عليه أصله ، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة ، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به : " إني كنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، فكنت إذا ركبوا سقت بهم ، وإذا نزلوا خدمتهم ، والآن تزوجتها ، فأنا الآن أركب ، فإذا نزلت خدمتني " ! ويقول: " وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت ، فقالت لا أريم حتى تجعل لي عصيدة ! فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها قلت لها : لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة " ! ومما أخرجه ابن سعد أنه قال : "أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي .. فكانت تكلفني أن أركب قائمًا وأورد حافيًا ، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله ، فكلفتها أن تركب قائمة ، وأن تورد حافية " .
3- وأما قول ابن حجر :« فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُؤْمَر أَبُو هُرَيْرَة بِالصِّيَامِ لِكَسْرِ شَهْوَته ؛ كَمَا أُمِرَ غَيْره ؟ » ، ثم جوابه عن ذلك بقوله :« فَالْجَوَاب : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ الْغَالِب مِنْ حَاله مُلَازَمَة الصِّيَام ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْل الصُّفَّة » فالذي يفهم منه أن شهوة أبي هريرة للنساء قد سيطرت عليه ، بحيث لم يقدر على كسرها ، رغم ملازمته للصيام ، حتى لم يعد ينفع معه الصوم الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود : « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ! مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » .
ومعنى الحديث : أنَّ الصوم يَتَنَزَّل في قَطْع الشهوة مَنْزلةَ الخَصْي ،َ ويَقْطَعُها ؛ كما يَقْطَعها الوِجَاء ،. والوجاء : الوقاء الذي يقي الإنسان ، ويكون له مانعًا قويًّا يمنعه من الوقوع في الزنى ، فكيف يسأل أبو هريرة بعد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالخصاء ؟ لا أظن أن هناك رجلاً عاقلاً يطلب مثل هذا الطلب ، فضلاً عن كونه مؤمنًا ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إلا إذا كان ذلك الرجل مختل العقل ، أو كان لا يفكر إلا في إشباع غريزته التي سيطرت على عقله كما الحيوان تمامًا ، أو كان يقصد بحديثه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4- وأما قول ابن حجر : « وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَبُو هُرَيْرَة سَمِعَ " يَا مَعْشَر الشَّبَاب مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ " الْحَدِيث ؛ لَكِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَال الْغَزْو ؛ كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَسْعُود ، وَكَانُوا فِي حَال الْغَزْو يُؤْثِرُونَ الْفِطْر عَلَى الصِّيَام لِلتَّقَوِّي عَلَى الْقِتَال ، فَأَدَّاهُ اِجْتِهَاده إِلَى حَسْمِ مَادَّة الشَّهْوَة بِالِاخْتِصَاءِ ؛ كَمَا ظَهَرَ لِعُثْمَانَ ، فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ » .
ويظهر من الروايات المتعددة لحديث أبي هريرة ، وغيره أن الإذن بالخصاء لكسر الشهوة أو حسمها لم يطلب في حال الغزو فقط ؛ وإنما كان يطلب في حالات العزوبة وغيرها ، دون أن يقيد بمكان ، أو بحالة مخصوصة .
5- وأما قوله :« وَإِنَّمَا لَمْ يُرْشِدهُ إِلَى الْمُتْعَة الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِد شَيْئًا ، وَمَنْ لَمْ يَجِد شَيْئًا أَصْلًا ، لَا ثَوْبًا وَلَا غَيْره ، فَكَيْف يَسْتَمْتِع ، وَالَّتِي يَسْتَمْتِع بِهَا لَا بُدّ لَهَا مِنْ شَيْء ؟ » ، فالجواب عنه أن أبا هريرة إن كان لم يجد ما يتزوج به النساء ، كالثوب ، أو كالقُبضة من السويق أو التمر ؛ كما ورد في حديث مسلم الذي أخرجه في صحيحه ، عن ابن الزبير ، قال : « سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنْ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ » .
أقول : إن كان أبو هريرة لم يجد شيئًا من ذلك يتزوج به النساء ، فإنه لا بد وأن يكون قد حفظ شيئًا من القرآن ، يمكنه من الزواج ، كما مكَّن ذلك غيره ، فقد أخرج البخاري في صحيحه ، باب ( وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الْإِمَامَ فِي النِّكَاحِ ) ، عن سهل بن سعد ، قال : « جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ رَجُلٌ : زَوِّجْنِيهَا . قَالَ : قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ » .
وأخرج نحو ذلك أيضًا في باب ( السُّلْطَانُ وَلِيٌّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ) ، عن سهل بن سعد أيضًا ، قال : « جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي ، فَقَامَتْ طَوِيلًا ، فَقَالَ رَجُلٌ : زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ . قَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا ؟ قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي . فَقَالَ : إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا ، فَقَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا ، فَقَالَ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَلَمْ يَجِدْ ، فَقَالَ : أَمَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، سُورَةُ كَذَا ، وَسُورَةُ كَذَا ، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا ، فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ » .
6- ويتحصل من ذلك كله أن الصحابة الذين وصفهم القرآن الكريم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى في سورة الفتح :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾(الفتح: 29) .
هؤلاء الصحابة الذين تصفهم هذه الآية الكريمة بهذه الصفات الجليلة ، تصورهم تلك الأحاديث بأنه لا هم لهم سوى الاستمتاع بالنساء ؛ إشباعًا لغرائزهم الجنسية ، مع فقرهم الشديد ، بحيث لا يملك الواحد منهم شيئًا حتى القُبضة من التمر ، أو الدقيق تمكنه من الزواج ، فلا يجد أمامه سوى طلب الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخصاء ، كما تخصى العبيد كسرًا لشهوتهم إلى النساء ، وكما تخصى الحيوانات .. إنها لصور أغرب من الخيال ...
﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ، ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ﴾ .. صدق الله العظيم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق