وخرَّ راكــعًا وأنــاب
وردنا السؤال الآتي حول الآية الكريمة :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص:24) : لماذا استخدم الله تعالى لفظ ( خرَّ ) ، فإني- كما أعلم- أن الإنسان يخر ساجدًا . أي : بمعنى السقوط على الأرض بسرعة ؛ أفيدوني جزاكم الله خيرًا .. وأجبنا عنه بالآتي : أولاً- ( الخرور ) هو سقوط وهويُّ إلى الأرض . يقال : خرَّ خُرورًا . أي : سقط وهوى ؛ وذلك يكون من أعلى إلى أسفل . قال تعالى :﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾(النحل:26) . ويقال : خر ، لمن ركع ، أو سجد ، والشاهد قول كُثَيِّر عَزَّةَ :
رهبان مدين ، والذين عهـدتهم ... يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون ؛ كما سمعت كلامها ... خرُّوا لعزة ركعًا وسجــودا
ومن الأول قوله تعالى :﴿ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص:24) ، ومن الثاني قوله تعالى :﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً ﴾(مريم:58) .
أما ( الركوع ) فهو الانحناء دون الوصول إلى الأرض . يقال : ركع الرجل ، إذا انحنى . وكلُّ منحنٍ راكع . قال لبيد :
أليس ورائي، إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدِبُّ كأني كلما قمـــت راكع
وأما ( السجود ) فهو تطامُنٌ وذلٌّ ، وصولاً إلى الأرض . يقال : سجد الرجل ، إذا تطامن وذل .
ثانيًا- قالوا : وقد يعبر عن السجود بالركوع ، وحمل جمهور المفسرين على ذلك قوله تعالى :﴿ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص:24) ، أي : خر ساجدًا . وإلى هذا أشار أحد الشعراء بقوله :
فخر على وجهه راكعًا ... وتاب إلى الله من كل ذنب
وقال ابن العربي :« لا خلاف في أن الركوع هاهنا : السجود ؛ لأنه أخوه ؛ إذ كل ركوع سجود ، وكل سجود ركوع ؛ فإن السجود هو المَيْلُ ، والركوع هو الانحناءُ ، وأحدهما يدل على الآخر ؛ ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيْئَة ، ثم جاء على تسمية أحدهما بالآخر ، فسُمِّيَ السجودُ ركوعًا » .
والحقيقة ليس كما قال ابن العربي ؛ فالخلاف موجود ، بدليل أنهم اختلفوا في المراد من ركوع داود- عليه السلام- فذهب الجمهور إلى أن المراد منه السجود . قال مجاهد : مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه ، حتى نبت المرعى من دموع عينه ، فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾(ص:25) .
وذهب بعضهم إلى أن الركوع هنا على ظاهره ، بمعنى الانحناء . وحاول بعضهم أن يجمع بين القولين بأن يكون ركع أولاً ، ثم سجد بعد ذلك . أو أن الله سبحانه ذكر أول فعله ، وهو خروره راكعًا ، وإن كان الغرض منه الانتهاء به إلى السجود . وقيل : بل معنى ( رَاكِعًا ) : مصليًّا ، على اعتبار أن الركوع يراد به الصلاة .
ثالثًا- والصواب في ذلك- والله أعلم- أن ( الركوع ) هنا على ظاهره ، وهو الانحناء خضوعًا ، ومثله قوله تعالى :﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(المائدة:55) . أي : وهم منحنون خضوعًا لله تعالى ؛ إذ لا يعقل أن يؤتوا الزكاة ، وهم ساجدون .
وإذا كان ثبت بالسنة المطهرة ، وإجماع المسلمين أن داود- عليه السلام- قد سجد لله عز وجل ، فإن سجوده هذا كان بعد انحنائه خضوعًا ، وإلى هذا ذهب الحسن بن الفضل ، فقال :« خر من ركوعه . أي : سجد بعد أن كان راكعًا » .
وأما ما استدل به بعضهم على أن المراد منه السجود بأن الخرور هو السقوط والهَوِيُّ إلى الأرض ، فقد ذكرنا فيما تقدم أن الخرور يقال للركوع وللسجود .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق