الأربعاء، 22 فبراير 2012

أضواء على مصحف عثمان "رضىالله عنه" و رحلته شرقا وغربا

أضواء على مصحف عثمان "رضىالله عنه" و رحلته شرقا وغربا

بحث مختصر قدمته الدكتورة / سحر السيد عبد العزيز سالم

فى ندوه تاريخ الأمه الأ سلأ ميه بين الموضوعيه والتحيز فى الفتره من 21 /10: 23/10 سنه 1989 فى الزقازيق.

تجمع المصادر العربيه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة كل ما ينزل عليه من آيات .

وكان يتولى كتابة الآيات أربعه لايختلف فيهم أبى بن كعب ومعاذ بن جبل و زيد بن ثابت وأبوزيد(1) , وكلهم من الأنصار, واختلفوا فى رجلين من ثلاثة هما أبو الدرداء(2) وعثمان.

كتبوه فى الرقاع والأكتاف والعسب (3) واكتفى بتدوينه فى هذه المواد فكانت الآيات مفرقه وبالأضافه إلى ذلك وجد الحفاظ من كان يستظهره فى صدره , بعضهم تيسر له أن يعرض ما حفظه على الرسول (ص) والبعض الآخر عن الصحابه(4).

وبذلك يكون المقصود بجمع القرآن فى زمن الرسول( ص ) التدوين فى الرقاع والعسب واللخاف والأكتاف , وكذلك بمعني حفظه فى الصدور .

وبهذا أصبح للقرآن صورتان صورة صوتية , وصورة مكتوبة(5). وكانت الصورة الصوتية أسهل فى التحقيق من التدوين لقلة عدد الكتاب. وعلى هذا النحو كان هناك مصدران للقرآن الكريم الأول المواد سالفه الذكرالتى سجل عليها دون ترتيب والثانى سماعى فى صدور حفاظ القرآن الكريم 0

ولم يكد الرسول (ص) يلحق بالرفيق الأعلى حتى أضطربت أحوال الدوله الأسلأميه وقامت حركة الردة واضطر أبوبكر الصديق رضىالله عنه أن يقف موقفا حازماَ من المرتد ين و لم يتردد فى محاربتهم فى كل أنحاء الجزيرة العربية ودفع المسلمون فى ذلك ثمنا فادحا اذا استشهد منهم نحو ألف فى موقعة اليمامة من بينهم عدد لا يستهان به من حفاظ القرآن الكريم يقرب من أربعمائه وخمسين شهيدا (6) و عند ئذ رأى أبو بكر الصديق ضرورة جمع القرآن الكريم خشيه ضياعه 0 و عهد إلى زيد بن ثابت بجمعه لثـقته فى حفظه وصدقه(7) وهكذا قدم أبو بكر الصديق للإسلام أعظم الخدمات وعاونه فى ذلك عمر بن الخطاب وقام زيد بن ثابت بدوره الذى عهد إليه به على أكمل وجه فكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد عليه شاهدان (8)" مبالغه " منه فى الحيطة ويعتبرأبوبكرأول من جمع القرآن بين اللوحين بعد أن كان متفرقا فى قطع من العظم والعسب والحجر والجلد .

وعرف هذا القرآن " بالمصحف " كما كان يطلق الأحباش (9)على كتابهم وأودع المصحف عند أبى بكر ثم عند عمر بن الخطاب فى حياته وأنتهى به المطاف عند حفصه بنت عمر التى كانت تجيد القراءة والكتابة (10)

وأغلب الظن أنه بالخط اللين ( المكى ). وقيل أنه كتب بكل من الخطين الجاف ( المدنى ) الذى عرف بالخط المزوى , والخط المكى اللين (11) .

مصاحف عثمان فى الأمصار الأسلاميه :

وفى خلافه عثمان اتسعت الفتوحات الاسلاميه وشملت بلاد أرمينيه وأذربيجان. وكان حذيفة بن اليمان من بين من شهدوا فتح هذين البلدين(12), ورأى اختلاف الناس فى قراءة القرآن بسبب اختلاف اللهجات مما أدى إلى تعدد القراءات . فسار إلى المدنيه والتقى بعثمان بن عفان وقال له " أدرك هذه الأمه قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى (13). فقرر عثمان بن عفان رضى الله عنه جمع القرآن فى نسخ موحده على قراءة واحدة بلسان قريش ترسل الى الأمصار. وبعث الى السيدة حفصة أم المؤمنين أن ترسل مصحف أبى بكر ليأمر بنسخه وأسند عثمان بن عفان إلى زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام مهمة نسخ المصحف مرتب السور بلسان قريش (14) . ولما فرغ النساخ من نسخ المصحف وكتابته أمرعثمان رضى الله عنه بإحراق ماعداه من مصحف أو مصاحف خاصة كان يحتفظ بها الصحابة. وقد اختلف فى تحديد السنه التى تم فيها استنساخ المصاحف والأرجح أن ذلك (15) تم سنه 30 هـ. ورغم هذا الموقف المحمود الذى وقفه عثمان بن عفان رضى الله عنه لتوحيد المصحف على قراة واحدة واحراق الصحف الأخرى التى تسببت فى اختلاف كلمة المسلمين وتكفير بعضهم لبعض فقد كان هذا الموقف سببا من أسباب (16) الثوره عليه. وعرفت هذه المصاحف " بالمصاحف الأئمة " أو " المصاحف العثمانيه " وقد اختلف فى عدد المصاحف العثمانية التى أرسلت الى الأمصار: فأبو كرالدانى جعلها أربعة وزعت على الكوفة والبصره ودمشق , وترك عثمان عنده نسخة لنفسه (17). وحذا الزركشى فى البرهان حذو الدانى فى المقنع (18).

أما السجستانى فيورد فى كتاب المصاحف روايتين :

الأولى :- على لسان حمزة الزيات جعلها أ ربعه مصاحف .

والثانية :- جعلها سبعة مصاحف توزعت على مكة والشام واليمن والبحرين والبصره والكوفة و المدنية (19). وينفرد اليعقوبى برواية حدد(20 ) فيها عدد المصاحف فيها

بتسعة فى حين جعلها ابن الجزرى ثمانيه (21 ) من بينها مصحف استبقاه لنفسه يقال له " الأمام" ويميل جمهور من الباحثين إلى أن المصاحف الأئمه كانت سته (22) وينبغى أن نفرق بين المصاحف التى أرسلها عثمان رضى الله عنه إلى الأمصار ومن بينها مصحف المدينه , وبين مصحفه الخاص به الذى كان يقرأ فيه ساعة استشهاده , وهو الذى قيل أنه خطه بيمينه , وهو موضوع بحثناهذا .

مصحف عثمان الشخصى

تجمع المصادر العربية على أن عثمان بن عفان عنه عندما أقدم المحاصرون لداره على اقتحامها يوم استشهاده أخذ مصحفه الخاص ووضعه على حجره ليتحرم به ويقرأ فيه واستشهد وهو يتلو القرآن . وتناثرت قطرات من دمائه على بعض ورقات من مصحفه " الامام " منها قطرات على قوله عز وجل " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " (23) وقد واكبت المصحف الامام منذ استشهاده صاحبه ادعاءات مختلفه بحيازته , ومن هنا تبدأ مشكلة مصير هذا المصحف . وفيما يلى عرض موجزلأهم هذه الادعاءات والمزاعم .

أ‌- من المصاحف التى زعموا أنها مصحف عثمان الذى يحمل آثار قطرات دمه مصحف مصر. ويذكر المقريزى أنه استخرج من خزائن المقتدر بالله العباسى , ونقل الى جامع عمرو فى 5 من المحرم سنه 378 فى خلافة العزيز بالله (24) , وإن كان نقله لم يثبت بأى نص تاريخى , وظل مصحف مصر الذى زعموا أنه مصحف عثمان محفوظا بمدرسه القاضى الفاضل الواقعه قرب المشهد الحسينى ثم نقل بعد تخريب المدرسة الى القبه التى أنشأها الساطان الغورى تجاه مدرسته وظل محفوظا بها حتى سنه 1275 هـ عندما نقل آثار نبوية الى المسجد الزينبى ثم الى خزائن الأمتعه بالقلعه ثم الى ديوان الأوقاف سنه 1304 هـ. ومن هناك نقل فى العام التالى الى قصر عابدين , وأخيرا الى المسجد الحسينى فى نفس السنة (25) ويستبعد السمهود أن يكون هذا المصحف هو نفس مصحف عثمان الخاص به(26). ويرجح أن يكون أحد المصاحف التى كان قد بعثها عثمان الى الأمصار. وللرد من جانبنا على هذا الزعم لابد أن نشير الى حقيقه هامه و هى أن عثمان لم يبعث الى مصر نسخه من المصاحف العثمانيه فان اسم مصر لم يرد بين الأمصار التى تلقت مصاحف عثمان وفقا لما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام والسجستانى وأبو عمرو الدانى مما يدفعنا الى ترجيح الرأى القائل بأن عثمان لم يرسل نسخة من مصحفه الى مصر(27). ولما كانت الأستاذة الدكتورة سعاد ماهر قد درست خط مصحف مصر وأثبت أن خطه يرجع الى عصر متأخر عن عصر عثمان بن عفان (28)

فاننا نرى أنه ربما كان هذا المصحف قد استنسخ من أحد المصاحف العثمانيه كمصحف الشام مثلا فإن حركه استنساخ المصاحف كانت قد نشطت كثيرا فى العصر الأموى وقد ذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفى قد أرسل نسخا من مصحفه الى الأمصار ومن بينها مصر وأن ذلك التصرف قد استثار غيره عبد العزيز بن مروان والى مصر الذى بادر بنسخ مصحف لمصر رصد له القراء والمراجعين المتخصصين بحيث صدر مطابقا للمصحف العثمانى وبذلك يكون هذا المصحف أول مصحف رسمى لمصر (29).

ب_ والأدعاء الثانى يتعلق بمصحف البصرة فقد ذكر ابن بطوطة فى جملة ماكتب عن رحلته الى البصره أنه شاهد فى مسجد أمير المؤمنين على المصحف الكريم الذى كان عثمان رضى الله عنه يقرأ فيه لما قتل وأثر تغيير الدم فى الورقة التى فيها قوله " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " (30) . ونستبعد أن يكون هذا المصحف هو نفس مصحف عثمان الذى كان يقرأ فيه ساعة استشهاده لأن بنى زيان كانوا يحتفظون بهذا المصحف فى خزائن سلاطينهم فى تلمسان الى أن استرده أبو الحسن على المرينى منهم فى سنه 738 هـ (1337م ). ثم إن العراق وقت زيارة ابن بطوطة له كان يخضع لدولة ايلخانات المغول فى ايران الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام منذ أن تولى سابعهم غازان خان الإسلام (1295م). ولوافترضنا جدلا أن المصحف الذى رآه ابن بطوطه فى البصرة هو مصحف عثمان وأنه انتقل الى بغداد الى البصرة فى أعقاب سقوط بغداد سنة (656) فى أيدى المغول فكيف نفسر ظهور مصحف آخر عليه قطرات دم عثمان فى خزائن المرينيين فى المغرب اللهم الا إذا كان أحدهما مزيفا. ونحن لا نشك فى المصحف المغربى , وكان فى الأصل محفوظا فى جامع قرطبة , ثم حمله الموحدون الى مراكش خشيه أن يتعرض للضياع فى قرطبه التى كانت تتهددها قوات القشتاليين ولم يكن الموحدون من السذاجه بحيث يحملون المصحف مع جامع قرطبه عندما تهدده الخطر القشتالى الى عاصمتهم مراكش ويتفننون فى الإحتفال به و ترصيعه بأنفس الدرر واليواقيت ويجندون المهندسين وأرباب الحيل الهندسيه لحفاظ عليه داخل خزائن تفتح وتغلق آليا و يحمله خلفاؤهم فى حملاتهم تبركا مالم يكن هذا المصحف موضع التبجيل والتكريم هو أو على الأقل بضع ورقات منه من مصحف عثمان الأصلى . وهذا يدعونا الى الشك فى أصالة مصحف البصرة الذى رآه ابن بطوطة ولا يبقى أمامنا سوى افتراض أن يكون هذا المصحف المحفوظ بالبصرة أحد المصحفين اللذين أرسلهما عثمان بن عفان الى العراق (31) وأن تكون آثار قطرات الدم التى تركزت على الآية " فسيكفيكهم الله " قد وضعت عمدا للتمويه واقناع البسطاء من بأنه مصحف الخليفة الشهيد .

ج-والادعاء الثالث يتعلق بمصحف طشقند , فمكتبة الإدراة الدينية بطشقند تحتفظ بمصحف مكتوب على الرق يزعمون أنه مصحف عثمان ويتميز هذا المصحف بأنه خال من النقط وأن كل صفحة من صفحاته تشتمل على 12 سطرا وان عدد ورقاته عددها 353 ورقة وقياسها 68 سم * 53 سم (32 ) . ويتساءل البعض عن كيفيه وصول هذا المصحف الامام الى سمرقند الى أن نقل سنه 1869 م الى موضعه الحالى بطشقند (33) .

ويفترض حلا لذلك افتراضين : الأول أن يكون هذا المصحف قد وصل الى سمرقند إبان حكم القبيلة الذهبيه (621 - 907 هجرية ) وأنه كان هدية من الظاهر بيبرس الذى تحالف مع بركة خان رئيس هذه القبيله وأول من أسلم من المغول وصاهره .

والا فتراض الثانى : فى أقوال هؤلاء المؤرخين أن يكون هذا المصحف الذى رآه ابن بطوطه عند زيارته للبصره (34 )

ثم نقل الى سمرقند على يد تيمور لنك(771- 807 هـ) .

و الافتراض الأول مرفوض تماما لأنه لايقوم على أساس صحيح لأ ن نسبة مصحف مصر الى عثمان بن عفان أمر مشكوك فية أساسا . وفى هذه الحالة يصبح مصحف بيبرس الذى أهداه لبركه خان مزيفا فى نسبته الى عثمان لأن ذلك يعنى أن مصر كانت تحتفظ زمن المماليك بنسختين من المصاحف العثمانيه وهذا محال بطبيعه الحال لأن مصحف عثمان الذى اصطبغت بعض أورقه بدم عثمان واحد فقط يضاف الى ذلك الحقيقه بأن عثمان بن عفان لم يرسل أصلا الى مصر نسخه من المصاحف التى أمر بنسخها وأن عبد العزيز بن مروان هو أول من نسخ مصحفا رسميا فى مصر على نسق المصحف العثمانى. أما الافتراض الثانى فقد لقى قبولا (35) عند بعض الباحثين ورفضا من البعض الآخر (36) فالذين يؤيدون فكرة انتقال المصحف من البصرة الى سمرقند يقصدون به واحدا من النسخ التى بعث بها عثمان الى الامصار الاسلامية ويستندون فى ذلك الى أن صور الخط الذى كتب به مصحف طشقند أقرب مايكون الى صورة الخط الذى كتب به مصحف الامام أى أن تأييدهم ينحصر فى أن مصحف سمرقند يمكن أن يكون نفس المصحف العثمانى الى البصرة أما الرافضون لهذا الافتراض فيرون ان الصنعه الفنيه تظهر واضحة فى مصحف طشقند ممثله فى رسم الحروف مما يشير الى أن الخط الذى كتب به لايرجع تاريخه الى خلافة عثمان وإنما يرجع الى القرن الثانى أوالثالث للهجرة فالخطوط المستقيمة تبدو كأنها رسمت بمسطرة .

د- الادعاء الرابع : يتعلق بمصحف حمص فقد شاهد الشيخ اسماعيل بن عبدالجواد الكيالى فى مسجد قلعة حمص المصحف العثمانى محفوظا فى خزانة والخزانة موضوعة داخل صندوق لحفظه (37) . ويذكر الشيخ الكيالى أنه كان مكتوبا بالخط الكوفى الغليظ وأنه شاهد آثار دماء فى بعض الكلمات ولكن العلماء المتخصصين فى علم الخط والنقوش الكتابية يرون أن الخط الكوفى الذى كتب به مصحف حمص يرجع الىعصر متأخر مما يؤكد أنه كتب فيما بعد القرن الأول الهجرى.

هـ - والادعاء الخامس : هو مصحف استنبول فمتحف طوب قابو سراى باسطنبول يحتفظ بمصحف مكتوب على الرق يزعمون أنه نفس المصحف الذى كان بيد عثمان يوم استشهد وأن آثار الدماء ما تزال واضحه على ورقاته حتى اليوم ولكن بالرجوع الى وصف المصحف يتضح أن هذه النقاط الحمراء التى يزعمون أنها آثار دم عثمان ليست سوى رقوش ودوائر بداخلها خطوط هندسية وفى ذلك ما يؤكد بأن المصحف لا يمت بصله إلى المصاحف العثمانية اذا لم يكن الرقش والتنقيط من خصائص تلك المصاحف.

وهناك من المصادر العربيه ما يؤكد أن مصحف عثمان الخاص به والذى تحتفظ بعض أوراقه بآثار دمه كان محفوظا فى جامع قرطبه حتى سنه 552 هـ عندما نقله عبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين الى مراكش وأنه ظل بالمغرب حتى عصر بن مرين ونحن نعتقد أن المصحف المذكور كان يشتمل على بضع ورقات من مصحف عثمان أضيف اليها صفحات أخرى منسوخه من مصحف فى الأندلس ولاثبات ذلك لابد من تتبع مصحف عثمان الخاص به من تاريخ استشهاده حتى وصوله الى الأندلس فالمغرب. ونستنتج مما ذكره السمهودى فى " وفاء الوفا " أن مصحف عثمان الذى كان يطالع فيه وقت استشهاده انتقل بعد وفاته الى أحد شخصين كلاهما اسم خالد. نقلا عن محرز بن عثمان بن عفان (38). والثانى وفقا لروايه ابن قتيبه هوخالد بن عثما ن بن عفان (39) من زوجته أم عمرو بنت جندب . أماخالد الحفيد فهو ابن رملة بنت معاوية بن أبى سفيان (40) ومعنى ذلك أن خالد بن عمرو بن عثمان المذكور فى رواية محرزكان حفيدا لكل من عثمان بن عفان من جهة الأب ومعاوية بن أبى سفيان من جهة الأم . ونميل الى الأخذ برواية محرز التى أوردها السمهودى وفيها ما يؤكد أن المصحف الامام المنقط بدم عثمان ظل محفوظا لدى خالد بن عمرو بن عثمان لعاملين, الأول قرابته من معاوية بن أبى سفيان فهو حفيده ومن المنطقى أن يسمح الجد (معاوية ) لحفيده (خالد) بأن يحتفظ بمصحف جده ( عثمان بن عفان ) وذلك لثقة معاوية التامة فى أن حفيده لن يفرط فى هذا المصحف أبدا والثانى أن دار عثمان آلت الى عمرو بن عثمان وأخوته وهى الدار التى كان قد تصدق بها وفقا لرواية السمهودى على ولده (41) وعرفت دارعثمان لذلك بدارعمرو بن عثمان مما يؤكد أنه كان أكثر أولاد عثمان اهتماما بدار أبيهم وأنه أكثر من الاقامة بها حتى عرفت باسمه وفى ذلك ما يشير الى أن ولده خالد بن عمرو نشأ فى هذه الدار وأقام بها وأنها نفس الدار التى قتل فيها عثمان وكان بها مصحفه المنقوط بدمائه.

ولهذين العاملين نرجح أن يكون مصحف عثمان فى حوزة حفيده خالد بن عمرو باعتباره أقرب الى معاوية بن أبى سفيان و بينه من خالد بن عثمان , بالاضافه الى أنه كان يقيم مع أبيه فى دارعثمان بن عفان نفسها وهذا يؤكد عدم خروج المصحف من دار عثمان حتى ذلك الحين وأيا ما كان الأمر وسواء كان المصحف المنقوط بدم عثمان محفوظا عند خالد بن عثمان أو عند خالد بن عمرو بن عثمان فان هذا يعنى بقاء المصحف فى حوزة آل عثمان بن عفان وأن بنى آمية لم يسعوا الى انتزاعه منهم لاطمئنانهم الى سلامته فى حمى أقربائهم أبناء عثمان بن عفان.

ويعتقد ابن عبد الملك الأنصارى ونحن نؤيده فى رأيه أن هذا المصحف المنقوط بدم عثمان فقد فى المدينة فى بعض الفتن الطارئة عليها ( 42 ), وهذه الفتن تنحصر فى واحدة من الفتن الثلاثة التى وقعت فى المدينة :-

الأولى :- وهى التى حدثت فى سنة 50 هـ فى خلافة معاوية بن أبى سفيان عندما صمم معاوية على انتزاع البيعة بولاية العهد لابنه يزيد من أبناء الصحابة , فقدم بنفسه إلى المدينة فى ذللك العام وأرسل للقاء العبادلة من أبناء الصحابة , وخاطبهم فى مبايغة يزيد فاعترضوا على ذلك ورفضوا ان تكون الخلافة هرقلية كلما مات هرقل تولى هرقل , فعاد معاوية إلى دمشق غاضبا بعد ان طلب من سعيد بن العاص عامله على المدينة بان يحمل الناس على مبايعة يزيد , فأبى اهلى المدينة , واضطر معاوية إلى العودة الى المدينة فى ألف من الخيالة لارغام المعارضين على المبايعة ليزيد , وكانوا يتمثلون فى الحسين بن على وعبدالله بن عمر, وعبد الرحمن بن أبى بكر , وعبد الله بن الزبير فأوقف على رأس كل منهم حارسين يحمل كل منهما سيفه (43), وخاطب معاوية اهل المدينة معلنا موافقة المعارضين الأربعة على مبايعة يزيد , فاضطر المعارضون الأربعة الى السكوت , وبايع الناس ليزيد.

والفتنة الثانية وقعت فى عام 63 هـ ,فقد دعا عبد الله بن الزبير لنفسه بعد استشهاد الحسين فى كربلاء فبايعه الناس فى تهامة والحجاز وكان أهل المدينة قد غضبوا لمقتل الحسين بن على , فخلعوا عثمان بن محمد بم ابى سفيان عامل يزيد عليهم وطردوا مروان (44) بن الحكم وسائر بنى أمية وأقاموا عليهم عبد الله بن حنظلة فسير اليهم يزيد قوة كثيفة من الشاميين عدتها 12 ألف مقاتل (45) وقيل خمسة آلاف (46) بقيادة مسلم بن عقبة المرى لتأديب أهل المدينة والقضاء على حركة ابن الزبير أما اهل المدينة فقد ولوا على انفسهم عبد الله بن مطيع العدوى عن قريش وعبد الله بن حنظلة (47) عن الأنصار , وتلوملوا بخندق حفروه حول المدينة بعد معركة ضارية دارت بالحرة فى 27 ذى الحجة سنة 63 هـ قتل فيهاثمانون من صحابة الرسول (ص) وآلاف من سائر الناس واستباح عسكر الشاميين المدينة ودعوا أهل المدينة إلى البيعة على أنهم عبيد فبايع الناس على ذلك.

والفتنة الثالثة : وقعت فى المدينة فى خلافة ابن جعفر المنصور فقد آثار استئثار العباسيين بالخلافة دون العلويين سخط العلويين وغضبهم وكان الحسنيون أول من تحرك منهم للمطالبة بحقهم فى الخلافة وتزعم الثورة محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على فى جمادى الآخرة سنة 145 هـ ودعا الناس فبايعته (48) ولم يتردد المنصور فى اخماد هذه الحركة التى أصبحت تشكل خطرا جسيما يتهدد كيان الدولة العباسية فسير الى المدينة عيسى بن موسى ولى عهده على راس قوة عدتها أربعة آلاف فارس وألفى راجل وأردف هذه القوه القوق بجيش كثيف تولى قيادته حميد بن قحبطة والى الجزيرة وأحد كبار القادة العباسيين ودخلت قوات عيسى بن موسى المدينة يوم النصف من رمضان سنة 145 هـ وفوجىء أهل المدينة بخيالة العباسيين تطوقهم واشتد القتال واستشهد عدد لا يستهان به من أنصار النفس الزكية فتفرق كثير منهم عنه وأيقن بالهزيمة فدخل دار مروان واغتسل وصلى الظهرثم خرج لمواصلة القتال بين من تبقى من أصحابه حتى استشهد على يد حميد بن قحطبة الذى احتز رأسه (49) وبذلك قضى المنصور على ثورة الحسنيين فى المدينة ثم تجددت ثورات الحسنيين فى المدينة سنة 169 هـ فى خلافة الهادى وتولى زعامتها هذه المرة الحسين بن على بن الحسن بن الحسن وكان يتولى المدينة من قبل الخليفة العباسى آنذاك عمر بن عبد العزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب الذى اصطنع مع الحسنين بالدعوة لنفسه فبايعه أهل المدينه ثم خرج فى أنصاره الى مكه فى 24 من ذى الحجة فتصدت له عند فخ فرب مكه قوه كثيفه العدد من العباسيين بقياده سليمان بن المنصور ودارت بين الفريقين معركة عنيفة انتهت بمصرع الحسين ومعظم من كان معه (50).

وهكذا نجد أنفسنا أمام أكثر من أحتمال الا أننا نرجح الاحتمال الثالث استنادا الى رواية أوردها السمهودى على لسان الامام مالك بن انس الذى قال ان مصحف عثمان رضى الله عنه تغيب فلم نجد له خبرا بين (51) الأشياخ ومن المعروف أن مالك توفى سنة 179 هـ . كذلك يذكر السمهودى أن القاسم بن سلام المتوفى سنة 223 هـ رأى (52) مصحف عثمان المنقوط بدمه وقد استخرج له من خزائن بعض الأمراء وشاهد آثار الدماء بورقاته . وهناك نص أورده كل من ابن عبد الملك الأنصارى (53) فى الذيل والتكملة وابن مرزوق فى المسند الصحيح (54) يذكر فيه أن شخصا يدعى أبو بكر محمد بن يعقوب بن شيبة بن الصلت ذكر أنه سمع عن والده أحمد وراى بخط جده يعقوب ما يؤكد أن يعقوب هذا رأى سنة 223 هـ وقد بعث به المعتصم العباسى لتجدد دفتاه ويحلى وأنه شاهد فى أورق كثيرة من مصحف اثر دم كثير وأن أكثر هذا الدم فى سورة " النجم " , وعلى قوله تعالى " فسيكفيكهم الله " وألفى أن طول المصحف يبلغ نحو شبرين وأربعة أصابع وأن كل ورقة تشتمل على 28 سطرا .

ونخرج من هذه الرواية بالحقائق الآتية :-

1 – أن المصحف الامام كان محفوظا بالعراق زمن الخليفة المعتصم بالله .

2- أن طول المصحف كان يصل الى نحو شبرين وأربعة أصابع ون كل ورقة منه كانت تشتمل على 28 سطرا.

3- أن نقاط من الدم كانت تصبغ عددا كبيرا من أورق المصحف .

من ذلك كله نرجح أن المصحف الامام قد اختفى من المدينة فى حياة مالك بن انس وهذا يدعونا الى رفض الاحتمالين الاولين وتقبل الاحتمال الثالث ويقضى بأن المصحف الامام فقد من المدينة مع احداث الفتنة الثالثة أو وقعة فخ سنة 169 هـ و إذ أن التاريخ يتفق منطقيا مع الفتره الزمنية التى عاش فيها الامام مالك ومع طبيعة الأحداث وعلى هذه الأساس يمكننا القول بأن المصحف الامام كان محفوظا عند أحفاد عثما ن بن عفان بالمدينة وهؤلاء كانوا أقرباء للأمويين ولا يعقل ان ينتزع الأمويون مصحف عثمان من اقربائهم أحفاد عثمان بن عفان سواء فى فتنة سنة 50 هـ التىاخذت فيها معاوية بيعة أهل المدينة لا بنه يزيد قهراء إذ ليس منطقيا ان يقتحم معاوية دار حفيده خالد بن عمرو بن عفان لينتزع منة المصحف الامام فهو مهما كان الأمرحفيده وأقرب الناس الية واكثرهم موالاة له أو فى فتنة المدينة سنة 63 هـ إذ ليس من المنطقى أن يامر يزيد بن معاوية جنده الشاميين باستباحة حرمة دار خالد بن عمرو بن عثمان الذى هو ابن اخته رمله .

يضاف الى ذلك أن هذين التاريخين سواء عام 50 هـ أو 63 هـ لا يعاصران حياة مالك بن انس الذى أكد أن مصحف عثمان الذى كان يقرأ فيه ساعة استشهاده تغيب .

ونلخص من ذلك كله بأن المصحف الامام الخاص بعثمان بن عفان زالمنقوط بدمه ظل محفوظا فى دار عثمان بالمدينة طوال العصر الاموى وانه تغيب عنها على حد قول الامام مالك فى بداية العصر العباسى وربما فى الوقت الذى اقتحم فيه العباسيون المدينة سنة 169 هـ وهذا يدعونا الى الاعتقاد بأن هذا المصحف انتقل الى أرض العراق فى أعقاب الموقعة اذ ان استيلاء العباسيين على هذا المصحف الذى كان يحتفظ به بنو عثمان بن عفان أقرباء الامويين يعنى الكثير بالنسبة اليهم ومما يؤكد صحه استنتاجنا ان السمهودى المؤ رخ المشرقى وابن مرزوق وابن عبدالملك الانصارى المؤرخان المغربيان يتفقون على أن المصحف الامام المنقوط بدم عثمان كان بالعراق فى حدود سنة 223 هـ فالسمهودى يؤكد ان أبا عبيد القاسم بن سلام رأى المصحف المذكور ةقد استخرج له خزاين بعض الأمراء وانه شاهد آثار دم عثمان به (55) ولكنه لم يحدد البلد الذى رأى فيه هذا المصحف كما انه لم يعرف بالأمراء الذين كانوا يحتفظون به فى خزائنهم .

ومع ذلك فاننا استطعنا من خلال ترجمة أبى القاسم بن سلام الهروى البغدادى ومقارنة رواية السمهودى برواية ابن عبد الملك الأنصارى أن نتوصل الى تحديد الموضع الذى كان المصحف الامام محفوظا فيه , فابن سلام المذكور كان يعرف بالبغدادى لطول اقامته فى بغداد , وكان من أشهر تلاميذ الأصمعى أخذ عنه بالبصرة , كما سمع بالكوفة عن ابن الاعرابى والكسائى , واستقر به المقام بعد ذلك فى بغداد الى أن رحل الى مكة (56) سنه 214هـ ( 829 م) لآداء فريضة الحج ثم توفى بها سنة 214هـ, ونستنتج من هذه الترجمة أنه عاش فى العراق حتى سنة214هـ , وهذا يعنى أنه شاهد مصحف عثمان المنقوط بدمه فى العراق خلال هذه الفترة حيث استخرج من خزائن أمراء الدولة العباسية ببغداد التى نسب اليها سلام بحكم اقامته الطويلة بها . ومعنى ذلك أن المصحف الامام حمل من المدينة الى بغداد فى أوائل العصر العباسى الأول , وبالذات فى سنة169هـ . وهو العام الذى دارت فيه موقعة فخ , وهناك احتفظ به أمراء بنى العباس فى خزائنهم , ويؤكد ذلك رواية كل من ابن عبد الملك الأنصارى وابن مرزوق التى تؤكد أن يعقوب بن شيبة رأى بنفسه مصحف عثمان المنقوط بدمه فى العراق سنة223هـ , وهذا الإستنتاج يخالف الرأى الذى أدلى به ابن عبد الملك الانصارى والذى يذكر فيه إحتمال إنتقال المصحف إلى الأندلس مع الأمير عبد الرحمن الداخل , ويدعونا الى ترجيح الرأى القائل بوصوله أوعلى الأقل جزء منه كما سنوضح فى الصفحات التالية فى عهد الأمير(57) عبداللرحمن الأوسط (206- 238هـ). . وتختلف آراء مؤرخى الأندلس بشأن أن هذا المصحف:

فابن بشكوال يرى أن هذاالمصحف هو أحد المصاحف الأربعة التى بعث بها عثمان رضى الله عنه إلى الأمصار , وأن ما اصطبغ به من آثار دماء زيف ووهم ولا أساس له من الحقيقة وبرجح ان يكون هذا المصحف هو نفس المصحف العثمانى الشامى (58) .

ويرى ابن عبد الملك الانصارى أن هذا المصحف الذى احتفظ به الامويون فى جامع قرطبة واهتم عبد الرحمن الناصر بتزويقه والاحتفال به ثم غربمن قرطبة سنة 552 هـ إلى مراكش لم يكن النسخة الخاصة بالخليفة الشهيد عثمان بن عفان ويرجع بدوره أن يكون الأندلس سنة 138 هـ او بعثت اليه أخته من الذخائر والتحف أو يكون مما اجتلب الى غيره من ذريته (59) ومع ذلك فهو يذكر نقلا عن الرازى أن المصحف المحفوظ بجامع قرطبة هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان (60) مما خطه بيمينه كما يذكر نقلا عن ابن حيان فى أحداث سنة 354 هـ أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه خطه بيمينه (61). ويذكر المقرى أن هذا المصحف كان مصحف عثمان بن عفان وكان يقرأ فيه عندما استشهد وكان يزدان بحلية من الذهب مكللة بالدر والياقوت وعليه أغشية الديباج (62) وفى موضع آخر يؤكد أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه مما خطه بيمينه (63).ومن خلال هذا العرض للآراء المختلفة يتبين أن هناك فريقين : الأول:- يؤكد أن المصحف الذى كان بجامع فرطية هو مصحف عثمان بن عفان الخاص به كتبه بخط يده وكان يقرأ فيه لحظة استشهاده فتناثرت قطرات من دمه وتركت آثارها عليه ومن هذا الفريق الرازى وابن حيان والادريسى

أما الفريق الثانى :- فينفى أن يكون المصحف المذكور مصحف عثمان الخاص به ويميل أصحاب هذا الرأى الى أن المصحف هو أحد المصاحف الأربعة التى بعث بها عثمان الى الأمصار الأربعة ويرجحون أن يكون نفس المصحف الشامى وأنه دخل دخل الاندلس فى عهد عبد الرحمن الداخل ومن هذا الفريق ابن بشكوال وابن عبد الملك الانصارى.

ونميل الى الأخذ بالرأى القائل بأن مصحف جامع قرطبة هو نفسه أو بضع أوراق منه بمعنى أصح , المصحف الامام الذى كان يقرأ فيه الخليفة الشهيد وقت استشهاده وإن كنا لانوافق أصحاب هذا الرأى على أن عثمان بن عفان هو الذى خطه بيمينه لأن المصادر العربية تجمع على أنه عهد إلى عدد من الصحابة بنسخ المصحف على قرأءة واحدة بلسان قريش , وأنه لمن يكتب أو ينسخ بنفسه أيا من هذه المصاحف . كما نرفض رأى ابن بشكوال وابن عبد الملك الانصارى بشأن المصحف المحفوظ بجامع قرطبة ويذهب كل منهما على أن هذا المصحف هو أحد المصاحف الأربعة التى أرسلت على الأمصار الأربعة البصرة والكوفة ومكة ودمشق , وإن كانا يرجحان أن يكون مصحف دمشق . ونعتقد أن مصحف الكوفة ربما ضاع فى غمرة القلاقل والإضطرابات التى احتدمت فى الكوفة فى خلافة على بن ابى طالب وفى العصر الأموى عندما أصبحت مركزا للتشيع , وحتى لو افترضنا بوجوده فى الكوفة فلا يعقل أن يفرط أهل الكوفه فى مصحفهم العثمانى الامام ليرسل إلى الأندلس التى كان يتولى حكمها أمراء من البيت الاموى السنة . وأما مصحف مكة فقد وصلتنا أخبار عنه حتى القرن الثامن الهجرى , ومن ذلك أن ابن جبير رآه بمكة أثناء زيارته لها (64) , كما تحدث عنه الرحاله الطنجى ابن بطوطه عند زيارته للحرم المكى الشريف (65) , كما عينه أبو القاسم التجيبى السبتى فى قبة اليهودية بمكة فى أواخر سنه 696هـ وكذلك تحدث عنه السمهودى فى مصنفه وفاء (67) الوفا , وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون مصحف مكة هو مصحف قرطبة .

أما مصحف البصرة فقد أشرنا فيما سبق أن ابن بطوطه رآه فى البصرة ورجحنا أن يكون نفس المصحف الذى أرسله عثمان بن عفان إلى البصرة , وربما أنتقل فيما بعد إلى سمرقند ثم إلى طشقند , وأيا ما كان الأمر فإن رؤية ابن بطوطة لمصحف البصرة يتعارض مع الرأى القائل بأنه هو ذاته المصحف الذى كان بجامع قرطبة.

بقى علينا أن نناقش قول كلا من ابن بشكوال وابن عبد الملك بأن مصحف قرطبة هو أصلا المصحف العثمانى بدمش أنه دخل الأندلس مع عبد الرحمن الداخل سنة 138 هـ وهو قول مردود نستبعده تماما لما يأتى: ---

أولا :- أن الرحاله الذين زاروا دمشق وصفوا المصحف العثمانى الشامى فى فترات زمنية متأخرة مما يتعارض مع رأى ابن عبد الملك الانصارى فى أنه انتقل الى قرطبة زمن عبد الرحمن الداخل .

فقد رآه ابن جبير (68) ووصفه كما شاهده الهروى (69) (سنة 611هـ ) وشاهده أبو القاسم التجيبى السبتى سنة 697 هـ (70) وكذلك ابن فضل الله العمرى (71) فى القرن الثامن الهجرى وابن بطوطه فى نفس القرن (72).

ثانيا :- يذكر ابن الملك الانصارى ان حجم مصحف قرطبة يختلف عن حجم المصحف الذى رآه أبو بكر بن شيبة فى العراق كما أن آثار الدم فى مصحف العراق تبدو فى أكثر من موضع.

وأعتقد لكشف الغموض الذى يكتنف مصحف عثمان الامام أن المصحف الذى كان يقرأ فيه يوم استشهاده وانما كان يشتمل على أربع ورقات فقط أما بقية أوراق المصحف فقد تكون نسخت على نفس نظام المصحف العثمانى. ونستند فى هذا الرأى على رواية الادريسى الجغرافى الثبت المعروف بأمانته وصدقه فى الوصف ويذكر فيها أن مخزن الجامع الواقع على يسار المحراب فيه مصحف يرفعه رجلان لثقله فيه 4 أوراق من مصحف عثمان بن عفان وهو المصحف الذى خطه بيمينه رضى الله عنه وفيه نقط من دمه (73) ونخرج من ذلك بأن مصحف الاندلس اكتسب شهرته ورفيع مكانته من تلك الورقات الاربعة التى انتزعت من المصحف الأصلى واصطبغت بنقاط دمه . ومن هنا عظم أهل قرطبة مصحفهم وبجلوه وتوارثت الأجيال فى قرطبة هذا الشعور العميق بالتعظيم لهذا المصحف حتى ارتحل هذا المصحف على أيدى الموحدين فى السنوات الاولى من دخولهم الاندلس الى المغرب وبالذات سنة 552 هـ حماية له من التعرض لأى مكروه بعد الغارة الوحشية التى قام بها النصارى على قرطبة سنة 540 هـ ودخزلهم أورقة الجامع بخيولهم وانتهابهم لذخائره.

واذا كنا قد رجحنا دخول مصحف عثمان الخاص به الاندلس فى عصر الامير عبد الرحمن الاوسط فلأنه عصر الانفتاح فى الأندلس على المشرق وبالذات على العراق ووصل كثير من التحف والذخائر التى ضاقت بها خزائن بغداد والتى انتهبت فى فتنة الأمين والمأمون الى قرطبة ونستدل على ذلك من نص أورده ابن حيان نقلا عن ابن القوطية القرطبى جاء فيه أن الفتى حبيب الصقلبى دعا بعد وفاة الأمير عبد الرحمن الأوسط بالمصحف المنسوب إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه فاستحلف جميعهم لمحمد وتوثق منه ( ابن حيان المقتبس من أنباء أهل الاندلس , تحقيق دكتور محمود على مكى بيروت 1973 , ص 113 ) وظل هذا المصحف محفوظا بموضعه من جامع قرطبة فى عهد عبد الرحمن الناصر فلما شرع الحكم المستنصر فى زيارته المنسوبة اليه بالجامع من جهة القبلة فى 8 جمادى الخرة سنة 354 هـ أمر بأن ينقل الى دار صاحب الصلاة الثقة المأمون محمد بن يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن (74) الخراز احتراسا به ومبالغة فى حرصه عليه وأن يظل محفوظا لديه الى أن يفرغ البناءون (75) فى الزيادة الحكمية فيعود الى مكانه الجديد من المقصورة (76) حيث اختزن داخل الغرفة التى يؤدى اليها الباب المعقود على يسار جوفة المحراب.

وكان يتولى العناية بالمصحف الامام وكرسيه سادون الجامع وذكر ابن سعيد المغربى أنه كان يتولاه فى عهد بنى جهور زمن الطوائف وزير مما يعبر عن أهمية هذا المصحف وظل المصحف الامام محفوظا فى موضعه من الجامع فى عصر بنى جهور وعصر دولة المرابطين وقد وصفه الادريسى (سنة 560 هـ) الذى انتهى من تأليف كتابة مصنفه المسمى " بنزهة المشتاق " سنة 548 هـ قبل أن تخضع الاندلس لدولة الموحدين ومن الجدير بالذكر أن المرابطين اهتموا بهذا المصحف إهتماما كبيرا فقد وضعوا لرعايته 3 رجال من قومة المسجد لاخراجه صباح كل يوم جمعة وذكر الأدريسى ان هذا المصحف كان مغلفا بغلاف من الجلد قايم اللون (77) بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش وأدقه وأعجبه(78).

وكان أمام الجامع يقرأ من المصحف صبيحة كل يوم نصف حرب ثم يرده الى كرسيه بالمصلى مرة ثانية (79)

وعندما انضوت الاندلس فى فلك دولة الموحدين كان عبد المؤمن بن على أول خلفاء الموحدين يشعر بالقلق الشديد على هذا المصحف الجليل منذ أن تعرض الجامع القرطبى لعبث القشتاليين وانتهابهم لتفافيح المنار وأوصال المنبر ودفعه حرصه على سلامة هذا المصحف الى أن يقدم على نقله الى مراكش وتولى مهمة نقل المصحف السيدان أبو سعيد وأبو يعقوب ولدا الخليفة فى 11 شوال سنة 552 هـ (80) .

وفى هذه المناسبة نظم الوزير أبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن عبد الملك بن طفيل قصيدة منها :-

جزى الله عن هذا الأنام خليفة به شربوا ماء الحياة فخلدوا

وحياه ما دامت محاسن ذكره على مدرج الأيام تتلى وتنشد

لمصحف عثمان الشهيد وجمعه بين أن الحق بالحق يعضد

تحامته أيدى الروم بعد انتسافه وقد كاد لولا سعده يتبدد

فما هو إلا أن تمرس صارخ بدعوته العليا فصين المبدد (81)

وقد اهتم الموحدونواعتنوا بكسوته فكسوه بصفائح الذهب المرصعة باللآلىء النفيسة والأحجار الكريمة من يواقيت وزمرد وجواهر وحشدوا غلافه على تلك الصورة الرا ئعة والصنعة المتميزة عددا كبيرا من الصناع المتقنين والمهرة المتفننين فى بلاد المغرب , وكانوا يحملونه على هودج تحمله ناقة حمراء (84) قد كسيت بنفيس الديباج واحيانا جمل أبيض . وعلى الهودج أربع علامات حمر , ويتبعه الخليفة وابنه وراءه ثم يلى ذلك البنود والاعلام والطبول ثم الامراء المدبرون للدولة

واستمر الموحدون يحملون هذا المصحف المكرم معهم فى رحلاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم الى أن حمله الخليفة الموحدى المعتضد بالله أبو الحسن على بن المأمون أبى العلاء ادريس حين توجه الى تلمسان على عادة خلفاء الموحدين وكان ذلك فى نهاية عام 645 هـ , فقتل على مقربة من تلمسان فى آخر صفر سنة 646 هـ فاختل جيش الموحدين ووقع النهب فى خزائن السلطان واستولى العرب وغيرهم على معظم المعسكر ونهب المصحف الكريم ولم يدرك منتهبوه مدى القيمة التاريخية والروحية لهذا المصحف فدخلوا به تلمسان وعرضوه للبيع ونودى عليه بسوق الكتب بتلمسان بسبعة عشر درهما وضاعت منه أوراق فلماعلم أبو يحيى يغمرا سن بن زيان أمير تلمسان من بنى عبد الواد بذلك بارد بانتزاع المصحف المكرم من أيدى منتهبيه وأمر بصيانته والحفاظ عليه وأورثه أبناءه وظل المصحف فى حوزتهم حتى 702 هـ .

وهكذا ظل مصحف عثمان محفوظا فى خزائن ملوك تلمسان من بنى عبد الواد حتى قدم أبو الحسن على بن عثمان بن أبى يعقوب المرينى الى تلمسان فى أواخر شهر رمضان سنة 737 هـ (1336م) وافتتحها سنة 738 هـ فظفر بهذا المصحف فاهتم به اهتماما خاصا وكان يقدمه أمامه على عادة الموحدين عند خروجه للقتال .

واتفق أن وقع هذا المصحف غنيمة فى أيدى البرتغاليين الذين اشتركوا مع القشتاليين والآرجونيين فى موقعة طريف المعروفة فى المصادر المسيحية بموقعة نهر سلادو فى 7 جمادى الاولى سنة 741 هـ ( 1340م ) وانتهت بهزيمة نكراء منى بها المرينيون ولم يدخر السلطان المرينى جهدا لاسترداد المصحف فارسل الى البرتغاليين التاجر ابا على الحسن بن جمى من مدينة آزمور ليخلص المصحف بما يطلب فيه من مال (86) ونجح أبو على الحسن فى مهمته وأعاده الى السلطان أبى الحسن المرينى بفاس فى سنة 745 هـ وذكر ابن مرزوق أنه أنفق فى إفتداء المصحف آلاف من الدنانير الذهبية . وهكذا أعيد المصحف الأمام الى فاس بعد أن جرد البرتغليون أغشية ومزقوا ماكان على دفتيه من وشى وأحجار كريمة. واستمر المصحف محفوظا فى خزائن المرينيين . وكان ذلك آخر العهد به اذا نقطعت أخباره منذ ذلك التاريخ.

تم بحمدالله.

د‌. ســحـرالسيد عبدالعزيزسالم

مدرس التاريخ الأسلامى والحضارة الأسلاميه

بكلية الآداب – جامعة الأسكندرية



(1) أبو عبد الله البخارى , صحيح البخارى , تقديم فضيله الشيخ أحمد محمد شاكر ,النخة المنقولة عن الطبعة الأميرية , الجزء السادس , ص 230 – الامام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى , البرهان فى علوم القرآن , تحقيق أبو الفضل ابراهيم , القاهرة طبعة 1957 , ج1 ص 241 .

(2) الزركشى , المصدر السابق , ص 241 .

(3) نفسه , ص 237 , ولمزيد من التفاصيل عن المراد التى دون عليها القرآن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ص 58 , وصبحى الصالح , مباحث فى علوم القرآن , الطبعة الثانية , دمشق 1962 , ص 67 .

(4) صبحى الصالح , المرجع السابق , ص 61 – 66 , وارجع كذلك الى محمدزكى الدين محمد القاسم , مدخل الى معرفه القرآن الكريم طبعة وزارة الأوقاف , وسلسلة درسات فى الاسلام , القاهرة , العدد 240 , ص 38 – 41 .

(5) محمد عبد العزيز مرزوق , المصحف الشريف ,دراسة تاريخية وفنية , مطبعة المجمع العلمى العراقى , بغداد , 197 , ص 3 .

(6) الطبرى ( أبو جعفر محمد بن جرير ) , تاريخ الأمم والملوك , طبعة بيروت , مكتبة البيان , حوادث سنة 11 ,12 هـ وانظر البلاذرى , فتوح البلدان , تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد , ج1 , القاهرة 1956 , ص 111 .

(7) أبو عمروعثمان بن سعيد الدانى , المقنع فى رسم مصاحف الانصار , تحقيق محمد صادق القمحاوى , طبعة القاهرة 1978 , ص 13 – 14 .كما أورد كل من السجستانى والزركشى روايتين متشابهتين مع اللرواية التى أوردها الدانى عن تكليف أبى بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن. انظر السجستانى ( الحافظ أبو بكر عبد الله بن أبى داود سليمان بن الأشعث ) كتاب المصاحف , صححه ووقف على طبعه آرثر جفرى , الطبعة الأولى القاهرة , 1936 م – 1355 هـ , حتى ص 7 , الزركشى , البرهان , ص 233 .

(8) السيوطى , الاتقان , فى علوم القرآن , القاهرة , 1935 , ص 58 .

(9) المصدر السابق , ص 58 .

(10) السجستانى , كتاب المصاحف , ص 5 , 8 – الحافظ أبو الخير الدمشقى الشهير بابن الجزرى , النشر فى القراءات العشر , تصحيح الاستاذ على محمد الضباع , طبعة القاهرة , ج 1 , ص 7 .

(11) عبد العزيز مرزوق , المصحف الشريف , ص 10 , 11 وارجع إلى أرنست كونل , صنعة الخط فى الاسلام , مجلة فكر وفن الالمانية , عدد 3 , سنة 1964 , ص 26 .

(12) السجستانى , كتاب المصاحف , ص 6 .

0 التعليقات:

إرسال تعليق