الأحد، 12 فبراير 2012

الفرق بين بلَغ وبلَّغ وأبلَغ


أولاً- بلَغ بتخفيف اللام ، وبلَّغ بتشديد اللام ، وأبلغ بهمزة في أوله ، أفعال مشتقة من ( الباء واللام والغين ) ، وهو أصل واحد يدل على الوُصول إلى الشيء والانتهاء إليه . تقول : بَلَغْتُ الشيء بلوغًا ، وأبلغته الشيء بلاغًا وإبلاغًا ، وبلَّغته الشيء تبليغًا .

1- فأما ( البلوغ ) فهو مصدر ( بلَغ ) بتخفيف اللام ، وهو عبارة عن الوصول والانتهاء إلى أقصى الشيء ، مكانًا كان أو زمانًا أو أمرًا من الأمور المقدرة ؛ ومنه قوله :﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾(آل عمران:40) ، وفي موضع آخر :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ﴾(مريم:8) ، وقوله :﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ﴾(الكهف:76) ، وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾(الأحقاف:15) . قيل : وقد تُسَمّى المُشارَفَةُ على الشيء ، وإن لم يُنتهَ إليه : بُلوغًا ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾(البقرة:232) .

2- وأما ( البلاغ ) فهو اسم مصدر ، من ( أبلغ ) على وزن : أفعل ، وهو عبارة عن نقل خبر أو أمر من جهة إلى أخرى ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾(المائدة:99) . فالبلاغ هنا اسم لما يراد تبليغه أو إبلاغه من قبل الرسول إلى الناس كافة ، أو إلى قومه خاصة . ومن هنا قيل: أصل ( البلاغ ) مصدر بمعنى ( التبليغ ) ، وبهذا فسره الراغب الأصفهاني ، ثم ذكر مجيئه بمعنى ( الكفاية ) ، ومثَّل له بقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (الأنبياء:106) : أي : إن في هذا المذكور قبل كفاية في الموعظة لهم والتذكير . وعلى المعنيين حمل قوله تعالى :﴿ هذا بلاغ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ ﴾(إبراهيم:52) ، قال الفخر الرازي :« أي : هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظة . أو : هذا تبليغ من الرسل » . وقال ابن عاشور :« ولا يستعمل البلاغ في إيصال الذوات ، والفقهاء يقولون في كراء السفن والرواحل : إن منه ما هو على البلاغ . يريدون : على الوصول إلى مكان معيَّن بين المكري ، والمكتري » .

3- وأما ( التبليغ ) فهو مصدر ( بلَّغ ) بتشديد اللام ، على وزن : فعَّل ، وهو عبارة عن نقل خبر أو أمر من جهة إلى أخرى ، دون التأكد من أن ذلك المنقول قد وصل إلى المنقول إليه ؛ ومنه قول هود– عليه السلام- لقومه في بداية الدعوة :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ﴾(الأعراف:62) ، وقوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة:67) .

4- وأما ( الإبلاغ ) فهو مصدر ( أبلغ ) ، على وزن : أفعل ، وهو عبارة عن نقل خبر من شخص إلى آخر ، مع التأكد من أن ذلك الخبر المنقول قد وصل إلى المنقول إليه ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ﴾(الأعراف:93) .

ثانيًا- وحاصل ما تقدم : أن ( بلَغ ) بتخفيف اللام ، يعبَّر به عن الوصول والانتهاء إلى الشيء ، أو المُشارَفَةُ على الشيء وإن لم يُنتهَ إليه ، ومصدره : البلوغ . أما ( بلَّغ ) بتشديد اللام ، فيُعبَّر به عن نقل ( بلاغ ) من جهة إلى أخرى ، دون التأكُّد من أن ذلك ( البلاغ ) قد وصل إلى الجهة المنقول إليها ، ومصدره : التبليغ . وأما ( أبلغ ) بهمزة في أوله ، فبُعبَّر به عن نقل ( بلاغ ) من جهة إلى أخرى ، مع التأكد من أن ذلك ( البلاغ ) قد وصل إلى الجهة المنقول إليها ، وأصبح ضمن مدركاتها ، ومصدره : الإبلاغ .

ومذهب الجمهور من علماء اللغة والتفسير أن ( بلَّغ ) كـ( أبلغ ) ؛ إلا أن ( بلَّغ ) أكثر ، لما فيه من التشديد ، وهذا ما نصَّ عليه الراغب الأصفهاني ، حيث قال : ويقال :« بلَّغته الخبر ، وأبلغته مثله ، وبلغته أكثر » . ومراده من قوله « أكثر » أن التشديد في ( بلَّغته ) للمبالغة ، وهو ليس كذلك ؛ لأن التشديد فيه للتعدية ، وليس للمبالغة ، ومثله في دلالته على التعدية الهمزة في ( أبلغ ) ، والفرق بينهما هو ما ذكرته ، وبيانه :

أن مهمة الرسول هي ( البلاغ ) ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾(المائدة:99) ، وقوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾(النور:54) ، وهذا ما عبر عنه رسل ( آل ياسين ) بقولهم :﴿ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾(يس:17) ، وهو ما أكده الله عز وجل بقوله :﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾(آل عمران:20) ، وبقوله :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (الرعد:40) .

والبلاغ - على ما تقدم - هو اسم لما يراد تبليغه ، أو إبلاغه من قبل الرسول لقومه خاصة ، أو الناس كافة . ومن المعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يرسل لقومه فقط ، وإنما أرسل كافة للناس ؛ وذلك بنصِّ قول الله عز وجل :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾(سبأ:28) . ولما كان متعذِّرًا عليه إبلاغ الناس جميعهم ، أمره ربه عز وجل بالتبليغ ، دون الإبلاغ ، فقال سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة:67) . فهذا أمر له عليه الصلاة والسلام بتبليغ رسالة ربه عز وجل ، ولو كان أمرَا بالإبلاغ ، لأتى نظم الآية هكذا :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ أَبْلِغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا أَبْلََغْتَ رِسَالَتَهُ ) ؛ ولكن الأمر أتى بالتبليغ ، والرسول عليه الصلاة والسلام قد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة على الاستيفاء والكمال ؛ كما قال في حجة الوداع :« ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد » ، وكما ورد في الحديث الذي أخرجه أحمد عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إن ربي دَاعِيَّ ، وأنه سائلي : هل بلغت عبادي ؟ وإني قائل : رب ! إني قد بلغتهم ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب » . فلو كان مأمورًا بالإبلاغ ، لقال : « ألا هل أبلغت » ، « قد أبلغتهم » بدلاً من ( بلَّغت ) ، ولما كان لقوله « فليبلغ الشاهد منكم الغائب » من فائدة ؛ لأن الإبلاغ هو أن يبْلِغ الشاهدُ الشاهدَ ، لا الغائبَ .

وأما بالنسبة لصالح ، وشعيب ، وهود – عليهم السلام – فهؤلاء قد أرسلوا إلى أقوامهم فقط ، وهم قوم عاد وقوم ثمود وقوم مدين ، وكان عددهم بالنسبة للناس في المعمورة قليل ؛ ولهذا كانت رسالاتهم رسالات ( إبلاغ ) ؛ ولهذا نجد صالحًا- عليه السلام- يقول لقومه :﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾(الأعراف:79) ، ونجد شعيبًا- عليه السلام- يقول لقومه :﴿ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾(الأعراف:93) ، ونجد هودًا- عليه السلام- يقول لقومه :﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾(هود:57) ، وقد تم إهلاك هؤلاء الأقوام عقب أبلاغهم رسالات ربهم ؛ لأنهم أصروا على كفرهم ؛ وإلا فكيف يهلك الله قومًا لم يعلموا بأي رسالة ، ولم يدركوا ما المطلوب منهم ؟

وقد يعترض على ذلك بأن يقال : إن نوحًا- عليه السلام- قال لقومه :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾(الأعراف62) ، وإن هودًا- عليه السلام- قال لقومه :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾(الأعراف:68) ، وقال أيضًا :﴿ِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾(الأحقاف:23) ، وهذا تبليغ وليس إبلاغًا ، كما ورد في الآيات السابقة ، فالجواب : أن هذا كان – كما قال أبو حيان في البحر عند تفسيره الآية- مبدأ أمره معهم ، وهو التبليغ ، كما قال :﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾(الشورى:48) ، وأما في نهاية الدعوة فكانت دعوته لهم دعوة إبلاغ ، لا تبليغ .

وقال الفخر الرازي :« قرأ أبو عمرو ( أُبَلّغُكُمْ ) بالتخفيف ، من ( أبلغ ) ، والباقون بالتشديد . قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل ، فالتخفيف قوله :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾(هود:57) ، والتشديد :﴿ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة:67) » .. فمن قرأ بالتشديد تحمل قراءته على أن ذلك كان في بداية الدعوة ، ومن قرأ بالتخفيف تحمل قراءته على أن ذلك كان في نهاية الدعوة ؛ تمَّ إبلاغ القوم كلهم .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق