الأحد، 12 فبراير 2012

بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ






قال الله عز وجل :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾(الرحمن:19-23) .


أولاً- هذه الآيات الكريمة من سورة ( الرحمن ) ، وفي تعلقها بما قبلها قال الرازي :« لما ذكر تعالى المشرق والمغرب ، وهما ﴿ أََلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15- 16) . حركتان في الفلك ، ناسب ذلك ذكر البحرين ؛ لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك ، كما يجري الإنسان في البحر . قال تعالى :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (الأنبياء:33) ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ؛ ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر ، لانحصار البَّر والبحر بين المشرق والمغرب ، لكن البَّر كان مذكورًا بقوله تعالى :﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا (الرحمن:10) ، فذكر ههنا ما لم يكن مذكورًا » .

وقال ابن عاشور في مقدمة تفسيره لهذه الآيات :« خبر آخر عن الرحمن ، قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار ؛ وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته . ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ، ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما والامتنان بما أودعهما من منافع الناس » .

ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ من المَرْجِ . والمَرْجُ- في لغة العرب- له معان كثيرة ؛ منها : الإرْسالُ والخَلْطُ ، وبهما فُسِّرت الآية ؛ فقيل : مرج البحرين : خلطهما ، فالتقيا . وقيل : أرسلهما ، لا يلتبس أحدهما بالآخر . وهذا أولى بالمقام ، وهو من قولهم : مرَج الدابة ، بفتح الراء ، وأمرجها : أرسلها ترعى في المَرْج . أي : تركها تذهب حيث تشاء . والمَرْجُ : أرض واسعة فيها نبت كثير تُمرَجُ فيها الدواب . أما الأول فهو المرَجُ ، بالتحريك ، مصدر قولك : مَرِجَ الخاتَمُ في إصبعي ، بالكسر . أي : قَلِقَ . ومَرِجَ الدين والأمر : اختلط واضطرب . ومنه قولهم : الهَرْجُ والمَرْجُ . وسُكِّن لأجل الهَرْج ، ازدواجًا للكلام . وأمر مَريجٌ . أي مختلط . وقوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (الرحمن:15) المارج : لهب النار المختلط بسوادها . ومعنى الآية على الأول : أرسل البحرين ، لا يحبس ماءهما عن الجري برزخ . و﴿ يَلْتَقِيَانِ : يتصلان ، بحيث يصب أحدهما في الآخر .

والمراد بالبرزخ الذي بينهما في قوله تعالى :﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾ : الحاجز الذي يفصل بين الماءين : العذب والملح ، بحيث لا يُغيِّر أحد البحرين طعم الآخر بجواره ؛ وذلك بما في كل ماء منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به . وهذا معنى :﴿ لَا يَبْغِيَانِ ﴾ . أي : لا يبغي أحدهما على الآخر . بمعنى : لا يغلب أحدهما على الآخر ، فيفسد كل واحد منهما الآخر ، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه ؛ فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي الذي حقيقته الاعتداء والتظلم .

و( اللؤلؤ والمرجان ) في قوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ حيوانان بحريَّان :

أما ( اللؤلؤ ) فيهبط إلى الأعماق ، وهو داخل صدفة من المواد الجيرية ، تقيه من الأخطار . ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه ورقة معيشته ؛ فإنه شبكة دقيقة كشبكة الصياد عجيبة النسج ، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه ، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها ، وتحت الشبكة أفواه الحيوان ، ولكل فم أربع شفاه . فإذا دخلت ذرة رمل أو قطعة حصى أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة ، سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها ، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة . وعلى حسب حجم تلك الذرة يختلف حجم اللؤلؤة .

وأما ( المرجان ) فيهبط إلى أعماق ، تتراوح بين خمسة أمتار وثلاثمائة متر ، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخرة أو عشب ، وفتحة فمه التي في أعلى جسمه محاطة بعدد من الزوائد تستعملها في غذائه . فإذا لمست فريسة هذه الزوائد ، وكثيرًا ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء ، أصيبت بالشلل في الحال ، والتصقت بها ، فتنكمش الزوائد نحو الفم ، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان . ومن دلائل قدرة الخالق أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التذرُّر ، وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تذررت منها ، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميك ، تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها ، ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمترًا . والجزر المرجانية الحية ذات ألوان مختلفة ، نراها في البحار صفراء برتقالية ، أو حمراء قرنفلية ، أو زرقاء زمردية ، أو غبراء باهتة . والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان .

ثالثًا- واختلفوا في المراد من : ( الْبَحْرَيْنِ ) على أوجه ، أصحها وأظهرها : أنه البحر العذب ، والبحر الملح ، بدليل قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ (فاطر:12) ، والعرب تطلق عليهما معًا لفظ ( البحر ) ، والتعريف فيهما للعهد الجنسي .

واستشكلت الآية- على تفسير البحرين بالعذب والملح- بأن المشاهد خروج الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ من أحدهما ، وهو الملح ، فكيف قال تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ، واللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح ؟ وللعلماء في الإجابة عن ذلك أقوال ، ليس بعضها أولى من بعض :

أحدها : أنه لما التقى البحران وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما ؛ كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميعه ؛ ولكن من بعضه ، وكما تقول : خرجت من البلد ؛ وإنما خرجت من محلة من محالِّه ، وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم . وعلى هذا القول جمهور العلماء ، ونظير ذلك عندهم قوله تعالى :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا (فاطر:12) ؛ وإنما تخرج الحلية من الملح .

والثاني : أن العذب منهما كاللقاح للملح ، فهو كما يقال : الولد يخرج من الذكر والأنثى . أي : بواسطتهما .

والثالث : أنهما بحران ، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان .

والرابع : أنه يتولد في ملتقاهما ، ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالبًا للملوحة ، كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل الحمل ، فيثقل هناك ، فلا يمكنه الدخول في العذب .

رابعًا- وهكذا اختلفت أقوالهم في الإجابة عن هذا الاستشكال المزعوم في الآية ، وإذا اختلفت الأقوال لم يكن بعضها أولى من بعض ، فضلاً عن أنها مخالفة لكلام الله تعالى مخالفة صريحة . ولعل الصواب أن يقال : إن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين كليهما ، كما نصَّت على ذلك الآية ، وكلام الله تعالى– كما قال الرازي- أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس ، وأضاف قائلاً :« ومن أعلم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب ؟ وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح ؛ ولكن لم قلتم : إن الصدف لا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح ؟ وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد ، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ؟ » .

وقال صاحب أضواء البيان :« واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية ، من أن قوله ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ يراد به البحر الملح خاصة دون العذب ، غلط كبير لا يجوز القول به ؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى ؛ لأن الله ذكر البحرين : الملح ، والعذب بقوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ (فاطر:12) ، ثم صرَّح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منها جميعًا بقوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا (فاطر:12) ، والحلية المذكورة هي : اللؤلؤ ، والمرجان ، فقصره على الملح مناقضٌ للآية صريحًا ، كما ترى » .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق