قال الله عز وجل :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾(الجمعة:5)
أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لأحبار بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به عموم اليهود ، مَثَّلهم فيه في حملهم للتوراة ، وعدم انتفاعهم بها بحمار يحمل أسفارًا . فكما أن الحمار لا ينتفع بما في تلك الأسفار من العلوم النافعة ، ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ؛ كذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم نبذوها وراء ظهورهم ، وتركوا العمل بها ، واقتنعوا من العلم بأن يحملوها دون فهم ، وهم يحسبون أن ادخار أسفارها ، وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها ، وتحقير من لم تكن بين أيديهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :
﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾(آل عمران:187)
ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنه تعالى لمَّا أثبت في الآيات السابقة التوحيد والنبوة ، وبيَّن سبحانه في النبوة أنه ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾(الجمعة:2) ، أخذت اليهود ذلك ذريعة لإنكار سعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى العرب خاصة ، ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية .
والمشهور عن اليهود أنهم كانوا ينتظرون مبعث الرسول منهم ؛ ليجمعهم بعد فرقة ، وينصرهم بعد هزيمة ، ويعزهم بعد ذل ، ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾(البقرة:89) . أي : يطلبون الفتح بذلك النبي المنتظر ، ويقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث ، ﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:89) .
وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون ذلك النبي المنتظر من العرب ، لا من اليهود . فقد علم الله تعالى أن اليهود قد فرغ عنصرهم من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية ، وأنهم لم يعودوا يصلحون لحمل الأمانة ؛ لأنهم زاغوا وضلوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة والهداية ، فأزاغ الله قلوبهم ، فلم تعد صالحة للهدى ، وكتب عليهم الضلال أبدًا لفسقهم . وفي ذلك يقول الله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾(الصف:5) .
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله تعالى ، وانتهى دورهم في حمل أمانته ، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر ، وهم على هذا الزيغ والضلال ، ولم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحيَّة البصيرة ، المدركة الواعية ، المتجردة العاملة بما تحمل ، والعالمة لما تحمل ؛ ولذلك مثَّلهم الله تعالى بالحمار الذي يحمل أسفارًا .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ مثل ، وقوله :﴿ مَثَل الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ مثل آخر ، وبين المثلين وجه شَبَهٍ ، دلَّت عليه كاف التشبيه ؛ وهو عدم الانتفاع بما من شأنه أن يُنتفَع به انتفاعًا عظيمًا لسمو قيمته ، وجلال منزلته .. وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ؛ ولذلك ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾ .
وقد أوضح الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر ، فقال :﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:146) ، فأخبر سبحانه أنهم يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في كتابهم بأنه النبي الموعود ؛ كما يعرفون أبناءهم ، بحيث لا يلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم . وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلاً منهما يتعذر الاشتباه فيه ، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم رسالته ، ولم تنفعهم معرفتهم به .
فبنوا إسرائيل ﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾ . أي : كُلِّفوا أن يقوموا بحقها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ . أي : لم يفوا بما كلفوا به ، ولم يعملوا بموجبه ؛ لأن حملَ التوراة يبدأ أولاً بالفهم والفقه والإدراك ، وينتهي ثانيًا بالعمل ؛ لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع ، ولكن سيرة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدَّروا هذه الأمانة حقَّ قدرها ، ولا أنهم فقهوا حقيقتها ، ولا أنهم عملوا بها ، ومن ثَمَّ كان مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا ، بل كانوا أسوأ حالاً من حال ذلك الحمار ؛ لأن الحمار لا فَهْمَ له ولا فقه ولا إدراك ، فهو لا يدري : أسِفْرٌ على ظهره ، أم صخر ، أم غير ذلك ؟ وهؤلاء القوم لهم قلوب وعقول ، ولكنهم لم يستعملوها فيما ينفعهم ، بل استعملوها فيما يضرهم ، فأوَّلوا التوراة ، وبدلوا فيها وحرفوا ؛ ولهذا كانوا :﴿ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾(الأعراف:179) .
وفي التعبير عن تكليفهم العمل بما في التوراة ، وعن تركهم لذلك التكليف بقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ إشعارٌ بأن هذا التكليف منه جل وعلا لهم كان عهدًا مؤكدًا عليهم ، حتى لكأنهم تحملوه ، كما يتحمل الإنسان شيئًا قد وضع فوق ظهره أو كتفيه ، ولكنهم نبذوا هذا العهد ، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال ، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده .
فقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾ ليس من الحِمل على الظهر ، وإن كان مشتقًّا منه ؛ وإنما هو من الحَمالة ، بفتح الحاء ، بمعنى : الكَفالة والضَّمان . ومنه قيل للكفيل : الحَميل . و( ثُمَّ ) في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ أداة عطف للتراخي الرتبي ، فإن عدم وفائهم بما عُهِدَ إليهم أعجب من تحملهم لهذه العهود ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾(الأحزاب:72) .
والأسفار واحدها : سِفْرٌ ، بكسر السين ، وهي الكتب الكبار الجامعة للعلوم النافعة على ما تشعر به صيغة التنكير ( أَسْفَارًا ) . وأوثر لفظ السِّفر ، لما فيه من معنى الكشف . وقد قيل : سُمِّيَ السِّفر سِفرًا ؛ لأنه إذا قرىء يسفِر عن الحقائق . أي : يبيِّنها ويوضِّحها . وقيل : يعني كتابًا ، بلغة كنانة . وقيل : الكتاب بالنبطية يسمَّى : سِفْرًا . والسَّفَرَةُ ، محركةً : الكَتَبَةُ ، جمع : سافِر ، وهو بالنَّبَطِيَّة : سافرا . والسَّفَرَةُ : كتَبَةُ الملائكة الذين يحصون الأعمال . قال الله تعالى :﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾(عبس:15) ، وما بأيديهم هو الأسفار .
وجملة ﴿ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ حال من الحمار لكونه معرفة لفظًا ، أو صفة له ؛ لأن تعريفه ذهني ، فهو في معنى النكرة ، فيوصف بما توصف به على الأصح . ونسب أبو حيان للمحققين تعيُّنَ الحالية في مثل ذلك . ويؤيد الوصفية قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ كَمَثَلِ حِمَارٍ ﴾ ، بالتنكير .
ثالثًا- ولسائل أن يسأل : لماذا قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ ﴾ ، فمثَّلهم بالحمار ، ولم يمثِّلهم بالإبل مثلاً ، فيقول :﴿ كَمَثَلِ الإِبِلِ ﴾ ، مع أن المشهور عن العرب أنهم يستعملون الإبل في حمل أثقالهم وأمتعتهم ، وكانوا يسمُّونها : سفينة الصحراء ؟
ويجاب عن ذلك بأن الله تعالى جعل الإبل آية من آياته ، ودعا إلى النظر في خلقها نظر تأمل وتفكر واعتبار ، فقال سبحانه :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾(الغاشية:17) ، وجعلها أيضًا من شعائر دينه ، فقال سبحانه :﴿ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ (الحج:36) . وأهل الكفر والضلال لا يحسُن أن يمثَّلوا بما جعله الله تعالى آية من آياته ، وشعيرة من شعائره ؛ وإنما يمثَّلون بما هو مَثَلٌ للسَّوْء ، وليس هناك مثلٌ أسوأ من مَثَل الحمار في هذا المقام يمثَّلون به ، فكان هذا التمثيل إشعارًا بكبر مقت الله تعالى لهم وغضبه عليهم .
وأما لفظ ( الْحِمَارِ ) فيقع على الذكر والأنثى ، ويجمع على : حمير ، وحُمُر . ويستخدم منذ القدم فــي حمل الأمتعة وحرث الأرض ، وهو شديد التحمل والصبر . وتخصيصه هنا بالتمثيل به ؛ لأنه كالعلَم في الجهل والبَلَه والضلال ، وأنه مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك هو في استعمال العرب ، والحديث الشريف ، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا » .
وإنما شبِّه هذا المتكلم بالحمار يحمل أسفارًا ؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع ، وقد تكلف المشقة ، وأتعب نفسه في حضور الجمعة ، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه ، فالجامع بينهما هو عدم الانتفاع .
وعن علي بن الجعد قال :« سمعت شعبة ، يقول : مَثَل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية ، مَثَل الحمار عليه مِخْلاةٌ ، لا عَلَفَ فيها » . وقال حماد بن سَلمَة :« من طلب الحديث ، ولم يتعلم النَّحْوَ . أو قال : العربية ، فهو كمَثَل الحمار تُعلَّق عليه مِخْلاةٌ ، ليس فيها شعير » .
ومن استحياء العرب ذكر اسم الحمار أنهم يكنون عنه ، ويرغبون عن التصريح به ، فيقولون : الطويل الأذنين ؛ كما يكنون عن الشيء المستقذر ، وقد عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة . ومن العرب من لا يركبه استنكافًا ، وإن بلغت به الرحلة الجهد . وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعًا ، وتذللاً لله تبارك وتعالى . وقالوا في وصف الحمار : إذا وقفته أدلى ، وإن تركته ولَّى ، كثير الرَّوْث ، قليل الغَوْث ، لا تَرْقَأُ به الدماء ، ولا تُمْهَر به النساء . وقالوا : الحمار حيوان وقِح شهْواني شبِق لدرجة أنه لا يرعوي عن مواقعة أنثاه في قارعة الطريق ، على عكس غيره من الحيوانات ، كالجمل والخروف .
ويشتهر الحمار من بين الحيوانات كلها بصوته العالي الذي يُعَدُّ من أقبح الأصوات وأوحشها ، ويسمَّى صوته : نهيقًا ، وأوله شهيق ، وآخره زفير . وقد وصفه القرآن الكريم بأنه أنكر الأصوات على الإطلاق ؛ لما يسببه من إزعاج وأذى . قال تعالى على لسان لقمان الحكيم يعظ ابنه :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾(لقمان:19) .
والغضُّ من الصوت هو التنقيص من رفعه وجَهارته ، وهو أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه ، ورفعه يؤذي السمع ، ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرق الغشاء داخل الأذن . وقد شبِّه الرافعون أصواتهم في الآية السابقة بالحمير وأصواتهم ، ولم يؤت بأداة التشبيه ؛ بل أخرج ذلك مخرج الاستعارة . وهذا أقصى المبالغة في الذم ، والتنفير من رفع الصوت .
وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به . قال الحسن رضي الله عنه :« كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرُدَّ عليهم بأنه لو كان خيرًا ، فُضِّل به الحمير » . وقال سفيان الثوري :« صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير » . وعن صهيب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« إذا نهق الحمار ، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم » . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا سمعتهم صياح الديكة ، فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكًا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانًا » .
وذهب بعضهم إلى أن سبب قبح صوت الحمار يرجع إلى قلة حركته وعدوه ، خلافًا للحصان الذي اشتهر بكثرة حركته وشدة عدوه وخفة صوته ؛ ولهذا سمِّيَ صوت الحمار : نهيقًا ، وسمِّيَ صوت الحصان : صهيلاً . قال تعالى :﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾(العاديات:1) . والضَّبْحُ هو صوتٌ بين الصهيل والحمحمة ، لا يزعج الإنسان ، كما يزعجه النهيق . وقد اكتسبه الحصان بفضل عدوه ؛ لأن العدو يذيب الشحوم المتراكمة حول الأحبال الصوتية ، بعد أن تتعرض تلك الأحبال للإحْماء والشدِّ من خلال رياضة العدْو ، فيَشْبَه ذلك شدَّ أوتار المعازف ؛ لكي تحصل على صوت عالٍ ذي نبرة رفيعة جميلة .
وأما صورة الحمار فهي صورة كريهة في القرآن والسنة ، ولكراهتها حرِّمت علينا لحومها . جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله :« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل » . وروي عنه أيضًا :« أكلنا زمن خيبر الخيل ، وحُمًر الوحش ، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي » . وفي مجمع الزوائد عن بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« إن نفس المؤمن تخرج رشحًا ، وأن نفس الكافر تسيل كما تخرج نفس الحمار » .
رابعًا- فهل بعد ذلك كله يوجد مَثَلٌ أسوأ من هذا المَثَل الذي مَثَّل الله تعالى به أولئك اليهود في جهلهم وضلالهم وتكذيبهم بالتوراة والقرآن ؟ ولهذا ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾ . و( بِئْسَ ) لفظ جامع لأنواع الذمِّ كلها ، وهو ضد ( نِعْمَ ) في المدح ، وهما جامدان ، لا يتصرفان ؛ لأنهما أزيلا عن موضعهما . فنِعْم منقول من قولك : نَعِم فلان ، إذا أصاب نعمة . وبِئْس منقول من بَئِس فلان ، إذا أصاب بؤسًا . فإذا قيل : بِئْس الرجل ، دلَّ على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه . وإذا قيل : نِعْم الرجل ، دلَّ على أنه قد استوفى المدح الذي يكون في سائر جنسه . وعليه فإن هذا المثل قد دل على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر أمثال السَّوْء . وفيه تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب ، أن يتعلم معانيه ، ويعلم ما فيه ، ويعمل بما فيه من أمر ونهيٍ ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق أولئك اليهود . فهو تنديد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذير لعامة المسلمين من أن يكونوا كاليهود ، في عدم الانتفاع بما فيه دواء من كلِّ داء ، وشفاء لما في الصدور .
ومن هنا قيل : هذا المثل ، وإن كان قد ضرب لليهود ، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن ، أو العلم ، فترك العمل به ، ولم يؤده حقه ، ولم يرعه حق رعايته . روي عن ميمون بن مهران أنه قال :« يا أهل القرآن ! اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم » ، ثم تلا هذه الآية .
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ فاعل ( بِئْسَ ) ، وقد أغنى ذكره عن ذكر المخصوص بالذم ؛ لحصول العلم بأن المذموم هو مثل القوم المكذبين ، فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير ؛ لأنه قد سبقه ما بيَّنه بالمثَل المذكور قبله في قوله :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ ، فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات . وهذا من أساليب القرآن البديعة وتفنُّنانه الفريدة في النظم .
وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إخبار عنهم بأن سوء حالهم لا يرجَى لهم منه انفكاك ؛ لأن الله تعالى حرَمَهم اللطف والعناية بإنقاذهم ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم دون نظر ، وجحودهم لآيات الله تعالى دون تدبر . قال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعب ، فقال : أسلم كعبٌ في زمان عمر . أقبل ، وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر ، فقال : يا كعبُ ! أسلم . قال : ألستم تقرؤون في كتابكم :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ ، وأنا قد حملت التوراة ، فتركه . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلاً من أهلها ، يقرأ هذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾ (النساء:47) .
فقال كعب : يا رب آمنت ! يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع ، فأتى أهله باليمن ، ثم جاء بهم مسلمين » .
خامسًا- بقي أن أشير إلى أن أكثر المفسرين يجعل التشبيه في هذا المثل من قبيل التشبيه المفرد ، وأن وجه الشبه فيه مفرد ، وهو عدم الانتفاع بالمحمول ، كالتشبيه في قول الشاعر :
كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول
والظاهر مما تقدم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي المركب ، فهو تشبيه صورة مركبة من عدة أجزاء بصورة أخرى مثلها ، ووجه الشبه مركب أيضًا من مجموع كون المحمول كتبًا نافعة ، وكون الحامل لها حمار لا علاقة له بها ، بخلاف ما في البيت السابق ؛ لأن العيس في البيداء يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه . أما الحمار فلا ينتفع بالأسفار ولو نشِرت بين عينيه . وفي ذلك إشارة أيضًا- كما تقدم- إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كليَّة أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل بها ، فنقلها الله تعالى إلى قوم أحق بها وبالقيام بأعبائها ، والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق