الاثنين، 13 فبراير 2012

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَة


وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَة

أولاً- سأل أحدهم : عن سبب مجيء الفعل ( قال ) بالتذكير مع ( نسوة ) في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾(يوسف:30) ومجيئه بالتأنيث في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا (الحجرات:14) ، وعن وجه ذلك في العربية ؟

وهذا السؤال كان قد وُجِّه إلى الدكتور فاضل السامرائي في برنامج ( لمسات بيانية ) ، فأجاب عنه بما يأتي :

« تذكير الفعل يستعمل مع جمع التكسير ؛ ليفيد القِلّة ؛ كما جاء في الآية في سورة يوسف :( وَقَالَ نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) ؛ لأن النسوة كانوا قِلّة ، وهذا بخلاف تأنيث الفعل ، فإنه يفيد الكثرة ؛ كما قال تعالى في آية أخرى في سورة الحجرات :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا )(الحجرات: 14) ، ( قالت ) ، تفيد الكثرة هنا ؛ لأن الأعراب كثرة ، وفيهم قبائل متعددة ، فتاء التأنيث في الفعل تفيد التكثير » .

وفي لمسة أخرى قال الدكتور فاضل :« نحن لدينا قاعدة كنت غافلاً عنها ( أن التأنيث يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) . ربنا قال :( وَقَالَ نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) . قال :( قال ) ؛ لكن قال :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ )(الحجرات: 14) ؛ لأن النسوة قليل ، والأعراب كثير . هذا في القرآن كثير ؛ فالتأنيث يفيد الكثرة » .

وذكر الدكتور فاضل أيضًا هذه القاعدة في لمسة أخرى ، فقال :« جمع التكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث :( نسوة ) ، جمع تكسير ، يبقى السبب ، تقول : أقبل الرجال ، وأقبلت الرجال . قالت الرسل ، وقال الرسل .. يبقى الاختيار ، نحن عندنا في هذا قاعدة ( أن التذكير يدل على القِلّة ، والتأنيث يدل على الكثرة ) . ( قال نسوة ) قليلة ، ( قالت الأعراب ) كثير » .

ثانيًا- وفي الجواب عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :

1- لفظ ( النِّسْوَة ) ، بكسر النون ، فيه ثلاثة أقوال :

أولها : أنه جمعُ تكسير للقلَّة ؛ كالصِّبْيَة والفِتْيَةِ والغِلْمَة ، ونصَّ بعضهم على عدم اطَّراده ، وليس له واحدٌ من لفظه .

والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة ، قاله الزمخشريُّ .

والثالث : أنه اسم جمع ، قاله أبو بكر بنُ السَّراج ؛ وكذلك أخواتها ؛ كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ ، والغِلْمَة .

وقيل : تأنيثه على كُلِّ قولٍ غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ ؛ ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث .

وأشهر هذه الأقوال القول الأول ، والمشهور فيه كسر النون ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة أحدهم . قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل والسلمي . قيل : وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلاف .

والصواب : أن لفظ ( النِّسْوَة ) اسم جمع يدل على القلة ؛ سواء كسرت نونه ، أو ضمَّت ، ولا مفرد له من لفظه ، وتأنيثه حقيقيٌّ ، ويقال في جمع : المرأة . كما يقال : القوم في جمع : المرء ، ويُكسَّر في الكثرة على ( نِسْوان ) ، والألف والنون للمبالغة في الكثرة . ومثل ( النسوة ) في كونه اسم جمع لا مفرد له من لفظه ( النساء ) ، والفرق بينهما : أن لفظ ( النساء ) جمع كثرة ، ولفظ ( النسوة ) جمع قلَّة ، يقال : نساء كثير ، ونسوان كثير ، ولا يقال : نسوة كثير ؛ وإنما يقال :( ثلاثُ نسوة ) إلى ( عشر نسوة ) ، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾(يوسف: 30) ، قال أبو حيان :« ونسوة كما ذكرنا جمع قلة ، وكنَّ على ما نقل خمسًا : امرأة خبَّازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوَّابة ، وامرأة سجَّانة ، وامرأة صاحب دوابه» . وقال الزمخشري : وكنّ خمسًا :« امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب » .

أما لفظ ( الأعراب ) فقيل : هو جمع تكسير ، وقيل : هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه . والأول هو الصحيح ، ويدل بصيغته على القلة ، ومفرده ( أعرابي ) ، ويُكسَّر في الكثرة على ( أعاريب ) ، ويطلق على جماعة من سكان البوادي الجفاة ؛ سواء كانوا من العرب ، أو من مواليهم . ويقابله لفظ ( العرب ) ، وهو اسم جنس جمعي كالروم والفرس ، ومفرده ( عربيٌّ ) . قال الأزهري في فقه اللغة :« ويجمع ( الأعرابي ) على ( الأعراب ) ، و( الأعاريب ) . والأعرابيُّ إذا قيل له : يا عربيُّ ! فرح بذاك وهشَّ له . والعربيُّ إذا قيل له : يا أعرابيُّ غضب له . فمن نزل البادية ، أو جاور البادينَ وظعَن بظعْنهم فهم ( أعراب ) ، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب ، فهم ( عرب ) ، وإن لم يكونوا فصحاء » .

ودلالة ( الأعراب ) على القلة ظاهرة ، وهو من العام الذي يراد به الخاص ، وذكر المفسرون أن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ (الحجرات: 14) نزل في جماعة منهم ، وهم من بوادي العرب ، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طمعًا في الصدقات ، لا رغبة في الإسلام ، فسمَّاهم الله عز وجل ( الأعراب ) ، ومما يدل على أنهم جماعة مخصوصة قول الله تعالى في بعضهم :﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾(التوبة: 99) . ومثلهم الذين ذكرهم الله تعالى ووصفهم بقوله :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً (التوبة: 97) ؛ وذلك لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن سماع القرآن . قال الواحدي في أسباب النزول : قوله تعالى :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً نزلت في أعاريب من أسد وغطفان ، وأعاريب من أعاريب حاضري المدينة » .

2- أن الأصل في لفظ ( النسوة ) ، إذا أسند إلى فعل أن يُذكَّر ذلك الفعل ، فتقول :( قال النسوة ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه اسم جمع ؛ كـ( رهط ، وقوم ) ؛ وكأنه قيل : وقال جمع النسوة . ولولا أن فيه تاء التأنيث ، لفتحت التاء في فعله ؛ ولكنه قد يجوز أن يقال :( قالت نسوة ) ، بإثبات التاء ؛ لأن تأنيثه حقيقي ؛ إلا أن حذف التاء ههنا أبلغ وأحسن من إثباتها للعلة التي ذكرناها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، ولم يقل :( وقالت نسوة ) .

3- أن الأصل في لفظ ( الأعراب ) ، إذا أسند إلى فعل أن يؤنَّث ذلك الفعل ، فتقول :( قالت الأعراب ) ، فتثبت التاء ، ويجوز أن تقول :( قال الأعراب ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه جمع تكسير ؛ كـ( الأنصار ) . وجمع التكسير يجوز تأنيث الفعل معه ، وتذكيره ، فتقول :( قالت الأنصار ) ، و( قال الأنصار ) ، فتثبت التاء في الفعل ، وتحذفها . أما حذفها فلتذكير اللفظ ، وأما إثباتها فلأنه في معنى الجماعة ؛ وكأنه قيل : قالت جماعة الأعراب . وإثبات التاء ههنا أبلغ من حذفها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، ولم يقل :( قال الأعراب ) .

قال ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في بدائع الفوائد :« فإن كان الفاعل جمعًا مُكَسَّرًا ، دخلت التاء للتأنيث ، وحذفت لتذكير اللفظ ؛ لأنه بمنزلة الواحد ، في أنَّ إعرابَه كإعرابه ، ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس » . ثم قال :« وزعموا أن التاء في ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ ﴾ ، ونحوه ، لتأنيث الجماعة ، وهو غير حقيقي ، وقد كان على لحوق التاء في :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ أولى ؛ لأن تأنيثهن حقيقي » .

وأما ما ذهب الزمخشري إليه في قوله تعالى ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ من أن التاء لم تلحق الفعل ؛ لأن تأنيث ( النسوة ) غير حقيقي ، فهو مبني على قوله :« والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة » . وأما ما ذهب إليه أبو حيان وغيره من أن تاء التأنيث لم تلحقه ؛ لأنه جمع تكسير المؤنث ، فقد ذكرنا أن الصحيح فيه أنه اسم جمع للقلة ، لا مفرد له من لفظه ، وهذا ما صرح به ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في قوله السابق .

ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن كلاً من لفظ ( نسوة ) ، ولفظ ( الأعراب ) يدل بصيغته على القلة ، وأن تذكير الفعل ، أو تأنيثه معهما لا يدل على قلة ، ولا كثرة ، ويبدو الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن لفظ ( النسوة ) اسم جمع لا مفرد له من لفظه وتأنيثه حقيقي ، وأن لفظ ( الأعراب ) جمع تكسير ، مفرده ( أعرابي ) ، وتأنيثه غير حقيقي . فإذا أسند كل منهما إلى الفعل ، جاز في هذا الفعل التذكير ، والتأنيث .

أما تذكير الفعل مع ( نسوة ) فلأنه في معنى الجمع ؛ لأنه اسم جمع . وأما تأنيثه فلتأنيث اللفظ ؛ لأن تأنيثه حقيقي .

وأما تذكيره مع ( الأعراب ) فلتذكير اللفظ ؛ لأنه جمع تكسير . وأما تأنيثه فلأنه في معنى الجماعة ؛ لأن تأنيثه غير حقيقي .

والثاني : إذا تأخر الفعل عن ( النسوة ) ، وجب اتصاله بضمير جمع المؤنث ، فيقال على هذا :( النسوة قلن ) ، والشاهد قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ (يوسف: 31) . أما ( الأعراب ) إن تأخر الفعل عنه جاز اتصاله بضمير جمع المؤنث ، وضمير جمع المذكر ، فيقال على هذا :( الأعراب قلن ) ، و( الأعراب قالوا ) ، والتذكير بضمير جمع المذكر أحسن ، وعليه ورد قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا (الحجرات: 14) ، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَمِمَّن حَولَكُم مِّنَ الأَعرابِ مُنافِقونَ (التوبة: 101) ، فأخبر الله عز وجل عنهم بجمع المذكر ، وهم : جهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار .

إذا عرفت هذا فاعلم أن الدكتور فاضل السامرائي في جوابه السابق قد خلط بين ( النسوة ) ، و( الأعراب ) ، فجمعهما معًا تحت مسمًّى واحد ، وهو جمع التكسير ، ثم زعم أن ( الأعراب ) كثير ، بخلاف ( النسوة ) ؛ إذ هم قليل . والظاهر أنه قاس لفظ ( الأعراب ) على لفظ ( النسوة ) ، ونظر إليهما من مرصده الخاص ، فرأى أن ( الأعراب ) كثير بالنسبة إلى ( النسوة ) ، وكان عليه أن يقيس ( النسوة ) على ( النسوان ) ، أو ( النساء ) ، وأن بقيس ( الأعراب ) على ( الأعاريب ) ؛ ولكنه أخطأ القياس ، فوقع فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه . ثم زعم أن تذكير الفعل مع ( نسوة ) يفيد القلة ، وأن تأنيثه مع ( الأعراب ) يفيد الكثرة ، وذكر في ذلك قاعدة ، كان قد نسيها ، ثم تذكرها ، وهي :« أن التذكير يفيد القلة ، والتأنيث يفيد الكثرة » ، وخلص من ذلك إلى أن قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ بالتذكير يفيد القلة ، وأن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ بالتأنيث يفيد الكثرة ، فوقع ثانية فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه .

وإن كان من سبب آخر لتذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، وتأنيثه في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ غير الذي ذكرناه ، فهو أن حذف التاء من الفعل في الأول يفيد سرعة حدوث الفعل ، بخلاف إثباتها في الثاني ، ويبين لك ذلك أن النسوة كُنَّ حريصات على أن ينشرن قصة مراودة امرأة العزيز لفتاها بأقصى سرعة ممكنة ، وقد تمَّ لهن ما أردن ، فانتشرت القصة في أهل مصر كانتشار النار في الهشيم ، وقد ساعد على ذلك حذف التاء من الفعل . ولو جاء التعبير بالتاء :( وقالت نسوة ) ، لما دل على سرعة حدوثه ؛ كدلالته مع حذفها . وأما قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ فليس فيه من سبب يستدعي سرعة الفعل ؛ فلذلك ثبتت الفاء فيه .. هذا ، وقد ذكر الألوسي في ذلك علة طريفة ، فقال :« النكتة في اعتبار التأنيث في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ الإشارة إلى قلة عقول الأعراب ، على عكس ما روعي التذكير في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ » . وأما أن يقال :« التذكير يفيد القلة ، والتأنيث يفيد الكثرة » ، فهذا قول لم يقل به أحد .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق