الأحد، 12 فبراير 2012

الفرق بين هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا



قال الله عز وجل في امرأة العزيز :﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 23- 24) ، فأثبت سبحانه لامرأة العزيز مراودتها ليوسف عليه السلام ، وهمَّها به ، وأثبت ليوسف عوذه بالله من مراودتها ، وهمَّه بها ، لولا أن رأى برهان ربه .

فما حقيقة هذا الهم الذي أُبْهِم أمره على أكثر الناس ، فتكلموا فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام ؟ وهل هو كهمِّ امرأة العزيز به ، من حيث الفعل الذي أرادته ، أو أن بين الهمين فرقًا ، من حيث المعنى ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- الهمُّ - في اللغة - يطلق على الحزن الذي يذيب صاحبه ، وهو مأخوذ من قولهم : هَمَمْتُ الشحمَ . أي : أذبته . ويطلق على الهمِّ الذي في النفس ، وهو قريب من الأول ؛ لأنه قد يؤثِّر في نفس الإنسان كما يؤثِّر الحزن ؛ ولذلك قال حذيفة بن أنس الهذلي :

وكَانَ لَهُمْ في أَهْلِ نُعْمَانَ بُغْيَةٌ ... وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ

أي : إنك إذا هممت بشيء ولم تفعله وجال في نفسك ، فأنت في تعب منه حتى تقضيه .

وحكي عن بعض العلماء قوله في الهمِّ الذي في النفس :« الهمُّ همَّان : همٌّ يخطر بالبال من غير أن يبرز إلى الفعل ، وهمٌّ يخطر بالبال ويبرز إلى الفعل . فالأول مغفور ، والثاني : غير مغفور ؛ إلا أن يشاءَ الله » . وأحسن من هذا ما حكي عن بعض أهل الحقائق من قوله :« الهمَّ همَّان :

أحدهما : هم ثابت ، وهو ما كان معه عزم وعقد ورضًا .

والثاني : هم عارض ، وهو الخُطُرَةُ وحديثُ النفس ، من غير اختيار ولا عزم » .

والعزم هو تصميم القلب على فعل الشيء ، والنفاذ فيه بقصد ثابت إليه ، وليس كذلك الهمُّ ؛ فقد يهمُّ المرء بأمر كان قد عقد عليه العزم ، وقصد إليه قصدًا وهو راضٍ ، فيكون الهمُّ على هذا آخر العزم ، وهذا هو الهمُّ المراد به همُّ الفعل . وقد يهمُّ المرء بأمر قد يعرض له ويخطر بباله فجأة ، فيميل إليه في لحظة ضعف ، لما يصحبه من مغريات ، من غير أن يقع عليه عزم منه ، ولا قصد إليه ، وهذا هو الهمُّ المراد به همُّ النفس . والأول همٌّ غير مغفور يعاقب عليه ؛ لأنه معصية ، والثاني همٌّ مغفورٌ لا يعاقب عليه ؛ لأنه ليس بمعصية .

فمن الهمِّ الأول قوله تعالى :﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾(المائدة: 11) . أي : صمَّموا النية على ذلك ، وعقدوا العزم عليه ، وقصدوا تنفيذه ، فكفَّ الله أيديهم عنه . ومنه قوله تعالى :﴿ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ (التوبة: 74) . أي : قصدوا إلى ما لم يصلوا إليه بعد أن عقدوا العزم عليه . قيل : كان طائفةٌ من المنافقين قد عقدت العزم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ ، فوقفوا له على طريقه . فلما بلغهم ، أَمر عليه الصلاة والسلام بتنحيتهم عن طريقه ، وسمَّاهم رجلاً ، رجلاً . ونظير ذلك قوله تعالى :

﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ (التوبة: 13) .

﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ (غافر: 5) .

فالهمُّ في ذلك كله ونحوه من الهمِّ بالفعل ، ويقوي هذا قول عمير بن ضابىء البرمجي :

هَمَمْتُ ولَمْ أفْعلْ وكِدْتُ ولَيْتَني ... ترَكْتُ على عُثْمانَ تبْكِي حَلائِلُهْ

أي : هممت بقتله ، ولم أفعل ما هممت به ، وكدت أقتله . أي : قاربت قتله ، وليتني تركت زوجاته يبكين عليه ؛ لأن عثمان رضي الله عنه سجن أباه على هجائه وفحشه في القول ، ثم أعاده إلى السجن بعد أن أطلق سراحه ، فظل في سجنه حتى مات . ومن ذلك على ما قيل : سمِّي الهُمام هُمامًا ؛ لأَنه إِذا هَمَّ بأَمر أَمْضاه ، لا يُرَدُّ عنه ؛ بل يَنْفُذ كما أَراد .

ومن الهمِّ الثاني قوله تعالى :﴿ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا (آل عمران: 122) . وهذا يعنى : أن الفشل خطر ببالهم وحدثتهم به نفوسهم . ولو كان ذلك عن عزم منهم وقصد ، ما كان الله وليهما ؛ لأن العزم على المعصية معصية ، ولا يجوز أن يكون الله سبحانه وليَّ من عزم على الفرار عن نصره . وقيل : الطائفتان هما حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، لما انهزم عبد الله بنُ أُبّيٍّ همَّت الطائفتان باتِّباعه ، فعصمهم الله تعالى ، فثبتوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام . فهمُّهم بذلك لا يدل على أن معصية وقعت منهما ، وعلى فرض أن يقال : إن ذلك الهمُّ منهما معصية ، فإنها تعدُّ من باب الصغائر لا من باب الكبائر ، بدليل قوله تعالى :﴿ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا ؛ فإنه لو كان من باب الكبائر ، لما بقيت ولاية الله لهما . ويقوِّي هذا المعنى قول كعب بن زهير :

ومِنْ فَاعِلٍ للْخَيْرٍ إنْ هَمَّ أو عَزَم ... وكمْ فيهمُ منْ فارسٍ مُتَوَسِّعُ

ففرق بين الهَمِّ ، والعَزْم . ولو كان المراد من الهمِّ : العزْمَ ، لما جاز التفريق بينهما .

وعلى الهمِّ الأول الذي هو همُّ الفعل يُحمَل همُّ امرأة العزيز بيوسف عليه السلام :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾(يوسف: 24) . أي : همَّت به همَّ الفاحشة بعد أن عقدت العزم على ذلك ، وقصدت إليه قصدًا ، بدليل قوله تعالى قبله :﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ (يوسف: 23) ، وقوله تعالى عقبه :﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ (يوسف: 25) .

وعلى الهمِّ الثاني الذي هو همُّ النفس يُحمَل همُّ يوسف عليه السلام بها :﴿ وَهَمَّ بِهَا (يوسف: 24) . أي : مال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ، دون عزم منه وقصد إليه ، بدليل قوله تعالى ردًّا على دعوتها السافرة :﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (يوسف: 23) ، وقوله تعالى حكاية قولها :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف: 32) .

واحتج القاضي أبو يعلى ، على أن هِمَّة يوسف لم تكن من جهة العزيمة ؛ وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة ، بقوله تعالى :﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ﴾(يوسف: 23) ، وقولِه تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾ ، وكل ذلك إِخبار من الله تعالى ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية .

وقال بعض العلماء :« كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء . وإِنما ابتلاهم بذلك ؛ ليكونوا على خوف منه ؛ وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم ؛ وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة » . وقال الحسن :« إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيرًا لهم ؛ ولكن لئلا تقنطوا من رحمته » . يعني : أن الحجة للأنبياء ألزم . فإذا قبل التوبة منهم ، كان إِلى قبولها من الناس أسرع . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :« ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة ، أو عملها إِلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهمَّ ، ولم يعملها » .

وذهب عيَّاضٌ إلى أن الأنبياء عليهم السلام منزَّهون قبل النبوة من كل عيب ، ومعصومون من كل ما يوجب الرَّيب ، ثم قال بعد ذلك :« وأما قولُ اللَّه سبحانه :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ، فعلى طريق كثيرٍ من الفقهاء والمحدثين أن همَّ النفس لا يؤاخذ به ، وليس بسيِّئة ؛ لقوله عليه السلام عن ربِّه : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ ، فلا معصية في همه إذًا . وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهمَّ إذا وُطِّنَتْ عليه النفس سيئة ، وأَما ما لم توطَّن عليه النفس من همومها وخواطرها ، فهو المعفو عنه . وهذا هو الحق ، فيكون إن شاء الله هَمُّ يوسف من هذا ، ويكون قوله :﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ (يوسف: 53) . أي : من هذا الهَمِّ » . وهذا كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ، كما قال الرازي .

فثبت بذلك أن همَّ امرأة العزيز كان همَّ المعصية ؛ لأنه كان منها عن عزم وقصد وإصرار . أما همُّ يوسف فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس ، من غير عزم منه ولا قصد إليه ، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنبًا ؛ لأن هذا اللون من الهمِّ لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ؛ فإن الرجل الصالح قد يخطر بباله ، وهو صائم شرب الماء البارد في اليوم الحار ، فتميل نفسه إليه ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بهذا الميل ؛ كذلك كان همُّ يوسف ، وهو ما يفصح عنه قوله مناجيًا ربه :﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾(يوسف: 33) .

وهذا فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته ، كعادة الأنبياء والصالحين ، فيما عزم عليه ، ووطَّن عليه نفسه من الصبر. وقوله :﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ . أي : أملْ إليهن ، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ، لا بمباشرة المعصية ، وهي من الصَّبْوَة ، وهي الميل إلى هوى النفس بمقتضى الطبيعة البشرية ، وحكم القوة الشهَويَّة . ومنها ( ريح الصَّبا ) ؛ لأن النفوس تصبو إليها ؛ لطيب نسيمها ورَوْحها .

وروى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :« إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به ، أو تعمل به » . وعن صلى الله عليه وسلم قال :« هلك المصرّون » ، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب ، ففرَّق عليه الصلاة والسلام بين حديث النفس ، وعزم القلب . وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهِمَّة ؟ فقال :« إِذا كانت عزمًا » .

ثانيًا- فإذا تأملت ما تقدم ، تبين لك أن قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾(يوسف: 24) صريح في إثبات الهمِّ إلى امرأة العزيز وإلى يوسف معًا ؛ ولكن همَّ يوسف عليه السلام مغاير لهمها . وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه :« لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهم بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمَّين » ، مستدلاً بذلك على أن همَّ يوسف من جنس همَّ امرأة العزيز ، فلا يصح إلا على قول من يرى أنهما كانا متفقين على فعل الفاحشة قبل الهمِّ بها ؛ كأن تكون المراودة عن النفس واقعة من الطرفين ، فيكون التعبير حينئذ : ولقد هما معًا . أو : همَّ كل منهما بالآخر ؛ كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إذا التقى المسلمان بسيفيْهِما فالقاتل والمقتول في النار». فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :« لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه » .

فيوسف عليه السلام لم يلتق مع امرأة العزيز على المعصية ، ولم يشاركها في المراودة ، بدليل أنها هي التي راودته ؛ كما أخبر الله تعالى عنها :﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهٍِ (يوسف: 23) ، وهذا ما صرحت به امرأة العزيز بقولها أولاً :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (يوسف: 32) ، وقولها ثانيًا :﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (يوسف: 51) ، وما جاء في السورة أصلاً أنه راودها عن نفسها ، فكيف يقال بعد هذا : لا اختلاف بين الهميَّن ، وهمُّه بها عليه السلام لم يكن عن عزم ولا قصد ؛ كما كان همُّها به ؟

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن قولنا : همَّ بالشيء ، لا يعني : أنه فعل ما همَّ به ، أو قارب من فعله ، أو ابتدأ بفعله ، ثم تركه قبل أن يتم ؛ لأن الهمَّ بالشيء- كما تقدم- هو آخر العزيمة ، إن كان همَّ الفعل ، ولا يعني الدخول بالفعل ، أو مقاربته ، ويشهد لذلك قول عمير بن ضابىء البرمجي الذي تقدم ذكره :

هَمَمْتُ ولَمْ أفْعلْ وكِدْتُ ولَيْتَني ... ترَكْتُ على عُثْمانَ تبْكِي حَلائِلُهْ

ومن هنا لا يصح ما اتفق عليه كثير من المفسرين ، من أن همَّ امرأة العزيز بيوسف عليه السلام وهمَّها به يعني : أنها استلقت له ، وأنه جلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة كما روي عن ابن عباس ، أو حلَّ سراويله كما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وأكثر المتقدمين ، أو غير ذلك من الأقوال الكاذبة والملفقة على السلف ؛ إذ كيف يليق بنبي أن ينسب إليه مثل ذلك الفعل الشنيع ؟ والله تعالى يقول :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾(يوسف: 22) ، والحكم هو العمل بمقتضى العلم ، وقد عمل يوسف عليه السلام بما علَّمه الله تعالى من تحريم الزنا وتحريم خيانة السيد أو الجار أو الأجنبي في أهله ، فما تعرض لامرأة العزيز ، ولا أناب إلى المراودة بحكم المراودة ؛ بل أدبر عنها وفرَّ منها . وهذا- والكلام للشيخ ابن عربي- يطمس وجوه الجَهَلَة من الناس والغَفَلَة من العلماء ، في نسبتهم إليه ما لا يليق به .

كيف ، والله سبحانه يقول :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾(يوسف: 24) ؟ والسوء هو المراودة والمغازلة ، والفحشاء هي الزنا ، فما ألمَّ بشيء من ذلك ، ولا أتى بفاحشة ، وقد شهد له النسوة اللاتي قطعن أيديهن بطهارته ونزاهته وببراءته مما نسبه إليه بعض المفسرين ، فـ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾(يوسف: 51) ، تعجبًا من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها ، وهذه هي شهادتهن الثانية بعد شهادتهن الأولى ، حيث قلن :﴿ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف: 31) . ثم تأتي شهادة امرأة العزيز نفسها التي أقرَّت في المرة الأولى بطهارته ، حيث قالت :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم (يوسف: 32) ، وفي المرة الثانية ، حيث قالت :﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾(يوسف: 51) ، وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي (يوسف: 26) . ولا مزيد على شهادتهنّ وشهادتها له بالبراءة والنزاهة ؛ لأنهنّ خصومه . وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل ، لم يبق لأحد مقال .

قال الشيخ ابن عربي :« فإن قيل : فقد قال الله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (يوسف: 23) ، قلنا : قد تقصَّينا عن ذلك في كتاب الأنبياء من شرح المُشكلين ، وبينا أن الله سبحانه ما أخبر عنه أنه أتى في جانب القصة فعلاً بجارحة ؛ وإنما الذي كان منه الهمُّ ، وهو فعل القلب ، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثًا ، ويقولون : فعل ، وفعل ؟ والله إنما قال :﴿ وَهَمَّ بِهَا ، لا أقالهم ، ولا أقاتهم الله ، ولا عالهم » .

وذهب أكثر المتأخرين إلى القول بأن الكلام قد تمَّ عند قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ ، ثم ابتدىء الخبر عن يوسف بقوله تعالى :﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ ، وتأولوه على التقديم والتأخير . أي : لولا أن رأى برهان ربه ، لهمَّ بها ؛ لكنه امتنع همُّه بها لوجود رؤية برهان ربه ، فلم يحصل منه همٌّ البتَّة ، وبهذا يُتَخلَّص من الإشكال الذي يورد ، وهو : كيف يليق بنبي أن يهم بامرأة ؟ وقال أبو حيان في البحر المحيط :« والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همٌّ بها البتة ؛ بل هو منفي لوجود رؤية البرهان ؛ كما تقول : لقد قارفتَ ، لولا أن عصمك الله . ولا تقول : إن جواب ( لولا ) متقدم عليها ، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك » ..

والقول بأن جواب ( لولا ) متقدم عليها هو مذهب الكوفيين ، وإليه ذهب قطرب من البصريين ، وأنكر جمهور البصريين هذا القول ؛ لأنه شاذ ومستكره ، ولا يوجد في فصيح كلام العرب ؛ ولذلك قالوا بأن جواب ( لولا ) محذوف دلَّ عليه ما قبلها ، وقدَّره الزجاج بقوله :« لولا أن رأى برهان ربه ، لأمضى ما هم به » ، وقدَّره ابن الأنباري بقوله :« لولا أن رأى برهان ربه ، لزنا » .

ومن المحدثين الذين مالوا إلى القول بتقديم جواب ( لولا ) عليها الشيخ عبد الوهاب النجار ، والدكتور محمد أبو شهبة الذي قال عنه بعد أن حكاه :« إنه القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء ، ويدعو إليه السابق واللاحق » . ومنهم الشيخ الدكتور أحمد الكبيسي في ( أحسن القصص ) الذي قال عنه ما نصُّه :« وأفضل تفسير تطمئن إليه نفسي أن هناك تقديمًا وتأخيرًا في الآية » ، ثم قال :« ولولا أن رأى برهان ربه ، لهم بها .. يستقيم هذا التفسير مع عصمة الأنبياء .. كما يستقيم مع روح الآيات التي تلحقه مباشرة » .

وأنا أقول : ليس هذا القول بأنه القول الجزل ، وأنه أفضل تفسير تطمئن إليه النفس ، ولا يدل عليه العقل من عصمة الأنبياء ، أو يستقيم مع عصمتهم ، ومع روح الآيات التي تسبقه أو تلحقه ، وأول ما يؤخذ عليه ، من حيث النظم ، أنه لعب بألفاظ الآية الكريمة وعبث بها ، وكلام الله عز وجل نصٌّ محكم في نظمه ومعناه ، ولا يجوز لأحد أن يعبث به بتقديم وتأخير ، أو بحذف منه وزيادة عليه . وأما من حيث المعنى فإن قوله تعالى :﴿ وَهَمَّ بِهَا جملة خبرية قائمة بنفسها مستقلة بذاتها ، وقوله :﴿ لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ عبارة شرطية قيديَّة جاءت قيدًا على الأولى ، واستعملت فيها أداة الشرط ( لولا ) دون غيرها من أدوات الشرط ؛ لتدل على أن همَّ يوسف عليه السلام بامرأة العزيز ثابتٌ ؛ ولكنه لم يخرج عن همِّ النفس إلى همِّ الفعل . وفرق كبير- عند من يعرف جوهر الكلام ويدرك أسرار البيان- بين أن يقال :

( ولولا أن رأى برهان ربه ، لهم بها ) ، وأن يقال :

( وهمَّ بها ، لولا أن رأى برهان ربه ) .

فالأول جملة شرطية مكونة من عبارة شرطية وعبارة جوابية وأداة شرط ، والكلام فيها مبنيٌّ على الشرط من أوله ، وتدل على امتناع الهمُّ ، لوجود رؤية البرهان .

وأما الثاني فهو جملة خبرية ، مقيَّدة بعبارة شرطية قيديَّة ، والكلام فيها مبني على الجملة الخبرية من أوله ، وتدل على أن الهمَّ موجود ؛ ولكنه لم يتجاوز ميل النفس . ومن هنا لا يجوز أن يقال على مذهب الكوفيين : إن جواب ( لولا ) مقدم عليها . أو يقال على مذهب البصريين : إن جوابها محذوف ، دل عليه ما قبلها .

ومن يتأمل قوله تعالى :﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ حق التأمل ، يتبين له أن المنفيَّ لوجود البرهان هو ما يترتب على الهمِّ من فعل ، وليس الهمُّ نفسه ، بدليل قوله تعالى عقبه :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ، وهو ما يترتب على الهمِّ من فعل ، يصح أن يوصف بـ( السوء والفحشاء ) ، وليس كذلك الهمُّ .

قال الشيخ ابن عربي :« كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية ، وأي إمام ، يعرَف بابن عطاء ، تكلم يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته من مكروه ما نسب إليه ، فقام رجل من آخر مجلسه ، فقال له : يا سيدي ! فإذًا يوسف همَّ ، وما تمَّ . فقال : نعم ؛ لأن العناية من تمَّ » . وعقَّب على ذلك بقوله :« فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم ، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله ، وجواب العالم في اختصاره ، واستيفائه ؛ ولذلك قال علماء الصوفية : إن فائدة قوله :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (يوسف: 22) أن الله أعطاه العلم والحكمة إبَّانَ غلبة الشهوة ؛ لتكون له سببًا للعصمة » .

وأما ما ذهب إليه بعضهم ، من أن المراد من الآية : همَّت بضربه بعد أن رفض الإذعان لهواها ، وهو همَّ بضربها ، فهو قول بعيد عن الصواب ، ولا دليل لهم عليه . وإليه ذهب صاحب تفسير المنار ، وقال عنه صاحب كتاب ( المعنى القرآني في ضوء اختلاف القراءات ) ، بعد أن حكى الأقوال السابقة :« ولعل ذلك أرجح الآراء في تفسير الآية ، ولقد ذكرت في كتابي عن الإسرائيليات مسوغات هذا الترجيح ؛ ومنها :

1- أن هذا الرأي موافق لترتيب الآيات القرآنية ، كما جاءت في سورة يوسف ؛ إذ الهمُّ بالفاحشة لا يكون بعد المراودة ؛ بل هو مرحلة سابقة على المراودة . فإذا ذكر القرآن المراودة قبل الهم ، فقد دل على أن الهمَّ هنا من نوع آخر غير الهم بالفاحشة ، وتفسير الهم بالضرب والبطش مقنع .

2- ومن ذلك أيضًا أن في هذا التفسير اتحادًا لمعنى الفعلين : همَّت وهمَّ ، وهو الذي ينبغي أن يكون لمجيئهما في سياق واحد » .

وقد سبق ذلك قول هذا الباحث :« وقيل : إن المراد بالهمِّ من جهتها طلب الفاحشة ، ومن جهته عليه السلام حديث النفس أو الخطرة التي تمر بالقلب ، ثم تمضى .. وقد يُعترَض عليه بأنه لا دليل على صَرْف فعليِّ الهمِّ على معنى يغاير الآخر في كل واحد منهما » .

وهذان القولان منه مبنيَّان على فهم غير صحيح لمعنى ( المراودة ) ، ومعنى ( الهمِّ بالشيء ) ، وجهل واضح بترتيب الآيات .

أما ( المراودة ) فهي المطالبة برفق ولين ، من : راد يرود ، إذا جاء وذهب لطلب الشيء ، وهي هنا ( مفاعلة ) من واحد ؛ نحو قولهم : داويت المريض . وراودت المرأة في مشيها ترودُ رَوَدَاناً . والأغلب فيها أن تكون من اثنين . يقال : راود جاريته عن نفسها ، وراودته عن نفسه ؛ إذا حاول كل واحد منها مواقعة الآخر . والرِّيادةُ : طلب النِّكاح . والرَّوْدُ : الرفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها .

فقوله تعالى مخبرًا عن امرأة العزيز :﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾(يوسف: 23) يعني : أنها طلبت منه مواقعتها برفق ولين ، وأنه ردَّ على طلبها برفق ولين أيضًا ، فقال :﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (يوسف: 23) . وعُدِّيَ فعل المراودة بـ( عن ) ، لما فيه من دلالة على معنى المخادعة . والتشديد في ﴿ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ﴾ ، للدلالة على التكثير ، أو المبالغة ، وجيء بلفظ ( هَيْتَ ) الذي يدل بحروفه على أنه ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ﴾ ؛ وذلك بدءًا من الهاء المفتوحة ومخرجها من الجوف ، ثم الياء الساكنة ومخرجها من وسط الحلق ، ثم التاء المفتوحة ومخرجها من الثنايا .

وأما ( الهمُّ بالشيء ) فقد بيَّنا بما فيه الكفاية أن ﴿ هَمَّتْ بِهِ ﴾ مغاير لـ﴿ هَمَّ بِهَا ، ومغايرة الأول للثاني من وجهين :

أحدهما : أن همَّها به همٌّ ثابت ، وكان منها عن عزم وعقد ورضًا ، خلافًا لهمِّه بها :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ .

والثاني : أن همَّها به أتى مطلقًا ، بخلاف همِّه بها ؛ إذ أتى مقيَّدًا برؤية برهان ربه :﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ .

وواضح مما تقدم أن ( الهمَّ ) همَّان ، وأن دعوى اتحاد الفعلين باطلة ، وأنه يأتي ، من حيث الترتيب بعد ( المراودة ) ، كما ورد ذلك في الآية الكريمة ، وهل هناك أحسن من كلام الله سبحانه ترتيبًا ؟ فكيف يقال بعد هذا :« الهمُّ بالفاحشة لا يكون بعد المراودة ، بل هو مرحلة سابقة على المراودة » ، والعكس هو الصحيح ؟ وهنا أجدني مضطرًّا لأن أردِّدَ قول الشيخ ابن عربي الذي تقدم ذكره :« فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا » ؟

ثالثًا- وأختم بما قاله ابن جزي ، وسيد قطب في تفسير هذه الآية الكريمة التي طوَّل المفسرون فيها ، وخلطوا بين الأقوال الصحيحة ، والأقوال السقيمة التي نسبوا فيها ليوسف عليه السلام ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق .

أما ابن جزي فقد حكى عنه ابن عجيبة في البحر المديد أنه قال :« أكثَرَ الناس الكلام في هذه الآية ، حتى ألفوا فيها التآليف ، فمنهم مفرط ومُفرّط ؛ وذلك أن منهم من جعل هَمَّ المرأة وهَمَّ يوسف ، من حيث الفعل الذي أرادته ، وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها ، وحلِّه للتكَّة ، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به ؛ لضعف نقله ؛ ولنزاهة الأنبياء عن مثله . ومنهم من قال : همت به لتضربه على امتناعه ، وهَمَّ بها ليقتلها أو يضربها ؛ ليدفعها . وهذا بعيد يرده قوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ .. ثم قال : والصواب إن شاء الله : أنها همَّت به من حيث مُرادُها ، وهَمَّ بها كذلك ؛ لكنه لم يعزم على ذلك ، ولم يبلغ إلى حدِّ ما ذُكِر من حلِّ التكَّة ؛ بل كان همُّه خطرة خطرت على قلبه ، ولم يتابعها ؛ ولكنه بادر إلى التوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه ، لمَّا رأى برهان ربه . ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء ؛ لأن الهمَّ بالذنب ليس بذنب ، ولا نقص في ذلك ؛ لأن من همَّ بذنب ثم تركه ، كتب له حسنة » . وعقَّب ابن عجيبة على ذلك بقوله :« قلت : وكلامه حسن ؛ لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها ، وبمجاهدة مخالفتها فُضِّل البشر على جنس الملائكة » .

وأما سيد قطب فقال ما نصُّه :« لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعًا شبقًا , والله يدافعه ببراهين كثيرة ، فلا يندفع .. صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضًا على أصبعه بفمه ، وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن . أي : نعم من القرآن ، تنهى عن مثل هذا المنكر , وهو لا برعوي حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي , فجاء فضربه في صدره ، إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة ، وهي واضحة التلفيق والاختراع .

وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همَّت به همَّ الفعل , وهمَّ بها همَّ النفس , ثم تجلَّى له برهان ربه ، فترك . وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي ، وقال : إنها إنما همَّت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها ، وهي السيدة الآمرة , وهمَّ هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب ، فلحقت به وقدَّت قميصه من دبر .. وتفسير الهمِّ بأنه ( همُّ الضرب ، وردُّ الضرب ) مسألة لا دليل عليها في العبارة , فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن همِّ الفعل ، أو همِّ الميل إليه في تلك الواقعة ، وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .

أما الذي خطر لي ، وأنا أراجع النصوص هنا , وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف , في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة , وقبل أن يؤتى الحكم والعلم ، وبعدما أوتيهما .. الذي خطر لي أن قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ هو نهاية موقف طويل من الإغراء , بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم .. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة ؛ ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ; لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضًا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة , وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك ، فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله ، والاعتصام في نهايته , مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ؛ ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعًا .

هذا ما خطر لنا ، ونحن نواجه النصوص ونتصور الظروف ، وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية ، وإلى العصمة النبوية ، وما كان يوسف سوى بشر .. نعم إنه بشر مختار ، ومن ثم لم يتجاوز همُّه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه بعد لحظة الضعف الطارئة , عاد إلى الاعتصام والتأبي » .. والله تعالى أعلم بأسرار كلامه ، نسأله سبحانه أن يعصمنا من الزلل في القول والفعل ، فإنه لا عاصم إلا هو !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق