قوله تعالى :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء: 88) .
أولاً- هذا خطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يأمره فيه على لسان رسل ملائكة الوحي أن يخبر كفار مكة بعجزهم عن الإتيان ﴿ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ ، وقد عمَّ بهذا الخبر المؤكَّد بالقسم جميع الخلق ؛ إنسهم وجنهم ، معجزًا لهم ، قاطعًا بعجزهم مجتمعين أو منفردين عن الإتيان بـ﴿ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ إلى يوم القيامة ، ولو تظاهروا عليه . وهذا من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام في أول الأمر عند كل من سمع هذا الكلام من المشركين وغيرهم من الكفرة والملاحدة .
وفي سبب نزول هذه الآية ذكر ابن عطية :« أن جماعة من قريش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر نحن على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرِّحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنسًا وجنًّا على ذلك ، لم يقدروا عليه » ، فتكون الآية ردًّا لما قاله الكفار :﴿ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴾(الأنفال :31) ، وإكذابًا لهم .
وقال الألوسي :« روي أن طائفة من اليهود قالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به ، أحق من عند الله تعالى ، فإنا لا نراه متناسقًا كتناسق التوراة ، فقال صلى الله عليه وسلم لهم : أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى ، قالوا : إنا نجيئك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله تعالى هذه الآية » .
وافتتاح الآية الكريمة بهذا الأمر الإلهي الحاسم ﴿ قُلْ ﴾ لإِظهار العناية بما بعد القول ، والتنويه بشرف هذا القرآن العظيم ، والامتنانِ على الذين آمنوا به ؛ إذ كان لهم شفاء ورحمة ، وهو افتتاح مُوحٍ بأن الأمر في هذه العقيدة هو أمر الله تعالى وحده ، ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه شيء ؛ إنما هو الله الآمر الذي لا مردَّ لأمره ، والحاكم الذي لا رادَّ لحكمه .
واللام في قوله :﴿ لَئِنِ ﴾ هي الموطِّئة للقسم ، دخلت على ( إن ) الشرطية للتوكيد . والمراد من اجتماع الإنس والجن : اتفاقهم وتعاضدهم ، واتحاد آرائهم ؛ سواء كان ذلك مع مشافهة ، أم لا ؛ لأنه لا يشترط في الاجتماع اللقاء والاتصال ، فقد يكون الاجتماع على غير المقارنة والاتصال ، فلا يكون لقاء ، كاجتماع القوم في الدار ، وإن لم يكن هناك اتصال مباشر بينهم.
وقدِّم ﴿ الْإِنْسُ ﴾ على ﴿ الْجِنُّ ﴾ ؛ لأنهم هم المعنيون أولاً بهذا الخطاب ؛ ولأنهم كانوا يزعمون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين على محمد صلى الله عليه وسلم ، فردَّ عليهم القرآن بقول الله تعالى :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء:210-212) .
وقوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ جواب للقسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة ، وساد مسد جواب الشرط ، وقد أتى منفيًا بـ( لَا ) ؛ كما في قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ ﴾(الحشر: 12) . ومن حق هذا الجواب أن يأتي منفيًّا بالأداة ( مَا ) ، فيقال :( لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، مَا يأتون بمثله ) ؛ لأن ( مَا ) تكون جوابًا عن دعوى ، وهؤلاء الكفرة ادعوا أنهم يأتون بمثله ، فكان وجه الكلام أن يرد على دعواهم الباطلة تلك ، فيقال : ( ما يأتون ) ؛ ولكنْ عُدِلَ عنه إلى القول :﴿ لَا يَأْتُونَ ﴾ ؛ لأن ( لا ) تدل على نفي الجنس نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن الدائم والمستمر ، مع طول النفي وامتداده إلى ما يشاء الله تبارك وتعالى ، فأفاد النفيُ بها أن الإتيان ﴿ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ غير ممكن أبدًا على مرِّ الزمن ، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن ؛ وذلك بخلاف ما لو نفي ذلك بـ( ما ) ، فقيل : ( ما يأتون بمثله ) .. ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة مفحمة للكفار ولغيرهم ، وللعالم كله إنسه وجنه في التحدي بإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم إلى يوم القيامة ، وأنهم لا يقدرون على ذلك ، مهما حاولوا .
ثانيًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما هذه المِثلية التي تُعجِز الإنس والجن عن الإتيان بها ، وما المراد منها ؟ وهل للقرآن الكريم مثل ؟ وإن كان له مثل ، فما هو ، وأين هو ؟
وقبل الإجابة عن ذلك لا بد من الإشارة إلى أن المراد من قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ نَفْيُ قدرة الإنس والجن مجتمعين أو منفردين عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، وليس المراد مطالبتهم بالإتيان بهذا المثل ، ويدل على ذلك أمران :
أحدهما : أنه لو كان المراد مطالبتهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لوجب أن يقال : فأتوا بمثل هذا القرآن . أو يقال : فليأتوا بمثل هذا القرآن ؛ كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ (البقرة: 23) ، وقوله تعالى :﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ (الطور: 34) .
والآخر : أنه ليس من المعقول أن يثبت الله عز وجل عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن على سبيل القطع والجزم ، ثم يطالبهم أن يأتوا بهذا المثل . فالقرآن نفسه أعذر حين أنذر بأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله ، وإن اجتمعوا له ، وتظاهروا عليه .
فثبت بذلك أن المراد بقوله ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ : إثبات عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، وأن ذلك فوق طاقاتهم وقدراتهم .. وهذا هو التحدي الأكبر ، وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام .
وإذا ثبت عجز الإنس والجن مجتمعين أو منفردين عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، كان عجز الإنس عن ذلك من باب أولى . وإنما جمع بين الإنس والجن ؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ إلى الثقلين معًا . فقد ثبت بنص القرآن والسنة أن الجن منهم المؤمنون ، ومنهم الكافرون ، وأن الكافرين منهم كانوا يستمعون إلى القرآن وهو يتلى ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بهم ، ويقرأ القرآن عليهم ، ويدعوهم إلى الإيمان ، وأن كثيرًا منهم من آمن به ، وأن كثيرًا منهم من بقي على كفره ، فمثلهم في ذلك مثل الإنس ؛ ولذلك جمعت الآية الكريمة بينهما في هذا الخطاب :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾(الأنعام: 130)
ومن هنا نرى أنه لا داع لقول من قال : إن التحدي وقع للإنس دون الجن . أو : إنه وقع للعرب دون العجم . أو غير ذلك من الأقوال التي لا تغني من الحق شيئًا . وهو دليل أيضًا على أن اجتماع الإنس والجن ممكن ، خلافًا لمن ذهب إلى أن المثلية مقدرة مفروضة ، لا يمكن للعقل أن يتصوَّرها ؛ لأن الآية ابتدأت عندهم بافتراض اجتماع الإنس والجن . وهذا الافتراض- كما قال بعضهم- لا يتصور عقلاً ، ممَّا يعني أن نتيجة هذا الافتراض ، وهو المجيء بمثل هذا القرآن ، لا يُتَصوَّر عقلاً ؛ لأن الكلام مسوق مساق التعجيز .
ثالثًا- إذا ثبت مما تقدم أن هذه المثلية التي أعلن الله تعالى على سبيل القطع والجزم عجز الإنس والجن عن الإتيان بها ليست بمثلية مفروضة ، فهذا يعني أنها مثلية معلومة ، وأن للقرآن مِثلاً يماثله في تمام حقيقته وماهيته ، وهذا ما يفهم من قوله تعالى :﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ .
فقوله تعالى :﴿ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ صريح في أن المتحدَّى به هو ( مثل هذا القرآن ) ، لا القرآن نفسه ، وأن الإشارة بقوله :﴿ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ إشارة إلى حاضر موجود ، والتحدِّي إنما وقع بمِثْل هذا الحاضر الموجود . ولو كان مثلاً مقدَّرًا مفروضًا ، لما صحَّ أن يكون مناط تحدٍّ ؛ لأنه لا يجوز التحدِّي بشيء لا يُعلَم ولا يُدْرَى ما هو ؟
ثم قال تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ ، فكرر لفظ ( المِثْل ) على سبيل التأكيد والتوضيح ؛ لئلا يتوهم متوهم أنه ليس للقرآن مِثْل ، فبُيِّن ذلك بتكرار ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ ، ولم يأت التركيب ( لا يأتون به ) ، دفعًا لذلك التوهم ، وأن المراد نفي الإتيان بالمثل ، لا نفي الإتيان بالقرآن .
ومن الغريب أن بعض المفسرين كالشوكانيِّ وأبي السعود والألوسيِّ قد فهموا عكس المراد من هذا التكرار ، فقال الشوكانيُّ :« أظهر في مقام الإضمار ، ولم يكتف بأن يقول : ( لا يأتون به ) ، على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور ؛ لدفع توهم أن يكون له مثل معين ، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان » . وقال أبو السعود والألوسي :« وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور ؛ احترازًا عن أن يتوهم أن له مِثْلاً معينًا ، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثلٍ مَّا » .
وهذا الخطأ في فهم ( المِثْل ) قد قادهم إلى خطأ آخر ، فقال أبو السعود في قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ بعد أن نفى أن يكون للقرآن مثل معين :« أي : لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذكر من الصفات البديعةِ ، وفيهم العَربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ » . وقال ابن عاشور بعد أن قرر أن المثلية مقدرة مفروضة ، وأن الكلام مسوق مساق التعجيز :« المراد بالمماثلة للقرآن : المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع ، وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي » .
أما المعتزلة فتمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق ، فقالوا :« إنه عليه السلام تحدَّى العرب بالقرآن ، والمراد من التحدِّي : أنه طلب منهم الإتيان بمثله . فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه . وهذا إنما يمكن ، لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة . ولو كان قديمًا لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي » .
حكى ذلك عنهم الفخر الرازي ، ثم عقَّب عليه قائلاً :« والجواب : أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى ، وعلى هذه الحروف والأصوات . ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة ، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة »(22) .
وقال الباقلاني في كتابه ( إعجاز القرآن ) ، ( فصل فيما يتعلق به الإعجاز ) :« إن قال قائل : بيِّنوا لنا : ما الذي وقع التحدي إليه ؟ أهو الحروف المنظومة ؟ أو الكلام القائم بالذات ؟ أو غير ذلك ؟ قيل : الذي تحداهم به : أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمها متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها ، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له ..
وإن كان كذلك ، فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها ، وهى حكاية لكلامه ، ودلالات عليه ، وأمارات له ، على أن يكونوا مستأنفين لذلك ، لا حاكين بما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم » .
وأضاف الباقلاني قائلاً :« وقد جوز بعض أصحابنا : أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه . والذي عوَّل عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره ، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس »(23)
رابعًا- وتحقيق القول في هذه المسألة التي كثر الخلاف فيها ، وما زال الناس فيها يختلفون : أن للقرآن الكريم مِثلاً يماثله في تمام الحقيقة والماهية ، وأن هذا المِثْلَ معلوم بنصِّ الآية الكريمة . وهذا المِثْل هو الذي أخبر الله تعالى بعجز الثقلين مجتمعين أو منفردين عن الإتيان به ، رغم تظاهرهم وتعاونهم على ذلك .
وأذكِّر هنا بما قلته في المبحث الثاني من هذا البحث ، من أن لكل شيء مِثلاً يماثله في تمام الحقيقة والماهية إلا الله سبحانه وتعالى ، فلا شِبْهَ له ولا مِثْل .. وأن مِثْل الشيء يؤخذ من الشيء نفسه ، إذا ما تعذر وجود مِثْل له في الواقع . وأن المأخوذ فرعٌ والمأخوذ منه أصل ، ولفظ المِثْل يطلق على كل من الأصل ، والفرع .
وأضيف إلى ذلك : أن لفظ ( المِثُل ) من الألفاظ المتضايفة التي يقْتَضي وجودُ أحدها وجودَ الآخر ؛ كالنِّصْف ، والزَّوْج ، والضِّعْف ، وكلُّ لفظ من هذه الألفاظ هو ترَكُّب قدْرَيْن متساويين في تمام الحقيقة والماهيَّة . وهذا يعني- كما ذكرنا- أن للقرآن الكريم مِثْلاً معلومًا ، وأن ذلك المثل المعلوم هو الأصل ، وهذا المِثْل الذي هو الأصل هو الذي أعلن الله عز وجل عجز الإنس والجن عن الإتيان به ، ولم يطالبهم أن يأتوا به . وأما القرآن الذي بين أيدينا فهو فرع مأخوذ من ذلك الأصل . ولمعرفة هذا الأصل الذي أخذ منه مِثْل القرآن الذي بين أيدينا نقرأ قول الله تعالى :
﴿ ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ (ق:1-2) ، ثم قوله تعالى :
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ (البروج: 21- 22)
فنجد في آية ( ق ) أن الله تعالى قد أقسم بالقرآن المجيد ، ونجد في آية ( البروج ) قرآنًا مجيدًا ، في لوح محفوظ . فما هذا القرآن المجيد الذي أقسم الله تعالى به ، ثم أخبر عنه بصيغة التنكير أنه في لوح المحفوظ ؟
والجواب : أن القرآن هو مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية ، ابتداء من خلق الكون ( الانفجار الكوني الأول ) ، وانتهاء إلى قيام الساعة ، وهو كلمات الله القديمة التي لا تبديل لها ، وسمِّي مجيدًا ؛ لأن السيطرة الكاملة له ، ولا يمكن الخروج عنه ، وهو مطلق ، واللوح المحفوظ هو لوحة التحكم في الكون ، وفي هذا اللوح توجد تلك القوانين الناظمة لهذا الوجود .
والمجيد في اللغة هو العظيم والرفيع ، وهو من صفات الباري جل وعلا ، تمجَّد بأفعاله ، ومجَّده خلقه لعظمته . قال تعالى :﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾ (هود: 73) ، وقال :﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ (البروج: 15) ، فوصف سبحانه نفسه بأنه مجيد ، وجعل صفة القرآن من صفته ؛ لأنه كلام المجيد . وجاء في لسان العرب عن أبي إسحق :« القرآن المجيد ، يريد : الرفيع العالي . وفي حديث عائشة رضي الله عنها : ناوليني المجيد . أي : المصحف » .
وأما اللوح- كما جاء في لسان العرب- فهو مستودع مشيئات الله تعالى . وكل عظم عريض لوح ، والجمع منهما : ألواح .. وقيل : هو في الهواء فوق السماء السابعة ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وهو من درة بيضاء ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وقوله تعالى :﴿ مَّحْفُوظٍ ﴾ يعني : مُصَانٌ ، لا يمكن للشياطين أن تتنزَّل بشيء منه ، أو تغيِّر منه شيئًا . وهذا ما أخبرت عنه الآية الكريمة :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ (الشعراء:210-212) .
فهل ذلك القرآن المجيد الموجود في لوح محفوظ من الشياطين هو قرآننا الذي بين أيدينا ، أم هو قرآن غيره ؟! وإن لم يكن هو ولا غيره ، فما قرآننا إذًا ، إن لم يكن مِثلاً مأخوذًا منه ؟
ثم نقرأ قول الله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ (الواقعة: 75- 79) ، فنجد كيف نفى الله تبارك وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم- على عظمة القسم بها- على أن القرآن كريم ، وأنه في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون .
والمراد بالكتاب المكنون في أصح الأقوال : الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله تعالى :﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾(عبس: 13- 16) . وقيل : هو البرنامج الذي بموجبه تعمل قوانين الكون العامة كمعلومات .
والمكنون : المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر ، هكذا قال السلف . وقال الكلبي : مكنون من الشياطين . وقال مجاهد : لا يصيبه تراب ولا غبار . وقال أبو إسحاق : مصون في السماء .
ووصفه بكونه ( مكنونًا ) ، نظير وصفه بكونه ( محفوظًا ) ؛ فقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾ ؛ كقوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ .
ووصفه بأنه ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ دليل على أنه بأيدي الملائكة لا يمسُّه غيرهم ، خلافًا لمن زعم أن المراد به المصحف الذي بين أيدينا ، وأنه لا يمسُّه إلا طاهر ؛ إذ لو كان كذلك ، لوجب أن يقال : ( لا يمسُّه إلا المتطهرون ) ؛ كقوله تعالى :﴿ ِإنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾(البقرة:222) ، فالمتطهِّر فاعل التطهير ، والمطهَّر الذي طهَّره غيرُه . قال حرب في مسائله :« سمعت إسحق في قوله :﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ قال : النسخة التي في السماء ، لا يمسها إلا المُطهَّرون . قال : الملائكة » .
ويدل على ذلك أيضًا أن الآية الكريمة سيقت تنزيهًا للقرآن أن تنزل به الشياطين ، وأن مَحلَّه لا يصِل إليه ، فلا يَمَسُّه إلا الملائكة المَطهَّرون ، فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه ، أو يَمَسُّوه ؛ كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ (الشعراء:210-212) ، فنفى الفعل وتأتِّيه منهم وقدرتهم عليه ، فما فعلوا ذلك ، ولا يليق بهم ، ولا يقدرون عليه ؛ فإن الفعل قد ينتفي عمَّن يحسُن منه ، وقد يليق بمن لا يقدر عليه ، فنفى عنهم الأمور الثلاثة . وكذلك قوله :﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾(عبس:13-16) ، فوصف محلَّه بهذه الصفات ، بيانًا أن الشياطين لا يمكنهم أن يتنزلوا به .
وأنت إذا تأملت الآية :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ ، وجدتها من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا القرآن جاء من عند الله ، وأن الذي جاء به روح مُطهَّر ، فما للأرواح الخبيثة عليه من سبيل ، ثم وجدتها أخت الآية الأخرى :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ ، وثبت لك بذلك أن القرآن المجيد الموجود ﴿ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ ، والقرآن الكريم الموجود ﴿ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) ليس هو القرآن الذي هو بين أيدينا ؛ وإنما هذا القرآن الذي بين أيدينا هو فرع من ذلك الأصل ونسخة منه ، وذلك الأصل هو المراد ﴿ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ .
وهذا القرآن الحاضر الموجود بين أيدينا قد تمت برمجته في اللوح المحفوظ قبل إنزاله إلى سماء الدنيا ، وصيغ صياغة إنسانية بلسان عربي مبين ، ثم نزِّل على محمد صلى الله عليه وسلم منجَّمًا ؛ ليبين لقومه معانيه ؛ كما نصَّت على ذلك الآية الكريمة :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ (إبراهيم: 4) ، فبينت الآية العلة التي أرسل لأجلها الرسول بلسان قومه . وقال تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (يوسف:2) ، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (الزخرف: 3) فبين أن القرآن لم يكن عربيًّا قبل إنزاله ، ثم جعل عربيًّا ، وذكر العلة التي لأجلها أنزل عربيًا ، وجعل عربيًّا :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ .
فقضية عروبة القرآن هذه أن يفهم على قوانين لغة العرب ؛ وإلا فلا يرجى أن يفهم ما يحويه ولا أن يعقل ما فيه ؛ ذلك معنى قوله :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ . وهذه الصيغة العربية التي صيغ بها القرآن هي صيغة محدثة بلسان إنساني ، وليست بقديمة ، وقد أطلق الله عز وجل عليها مصطلح ( الذكر ) ؛ وذلك ليذكر بها القرآن من الناس ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾(الأنبياء:2) .
فإذا عرفنا ذلك ، تبين لنا أن ما فهمه علماء التفسير من هذه المثلية ، وروجوا له ، وألفوا فيه المؤلفات الكثيرة ليس هو المراد من هذه المثلية ، وأنها ليست بـ( مثلية مفروضة ) على قول الأكثرين ، أو ( غير مفروضة ) على قول من قال إن المراد بها كلام العرب الذي هو من جنسه في فصاحته أو بلاغته وحسن نظمه ، أو أنها ( مثلية وحي وتنزيل ) ، وأن المراد منها أن يأتوا :﴿ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ﴾(القصص: 49) ، أو غير ذلك من الأقوال التي لا تفسِّر أسلوبًا ، ولا توضح معنى ؛ بل المراد منها : أن للقرآن الكريم مِثلاً يماثله في تمام حقيقته وماهيته ، وأن هذا المثل معلوم ، وهو الذي أخبر الله تعالى بعجز الإنس والجن مجتمعين أو منفردين عن الإتيان به ، ولو تظاهروا عليه . وبهذا الفهم لمعنى المثلية المتحدَّى بها تنحل المعضلة الكبرى التي نشأت بين المعتزلة ، وخصومهم حول خلق القرآن.
ولو كان المراد بهذه المثلية شيئًا مما ذكروا ، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَقولونَ مِثْلَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ ؛ كما حكي عنهم قولهم :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾(الأنفال:31) ، فتأمل وتدبر ، واعتبر الأمور بأمثالها ، تصب خيرًا وتنطِق صوابًا ، إن شاء الله !!!
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق