الأحد، 12 فبراير 2012

تذكيرُ الفعل مع الصيحة وتأنيثه


قال الله عز وجل في قوم صالح عليه السلام :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود:67) ، وقال في قوم شعيب عليه السلام :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود:94) ، فأتى سبحانه في الآية الأولى بفعل الأخذ مذكرًا مع الصيحة ، وأتى به في الآية الثانية معها مؤنَّثًا .

ولسائل أن يسأل : لم أتى الفعل ( أخذ ) في الآية الأولى بالتذكير ، وفي الثانية بالتأنيث ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( الصيحة ) ؟ وفي الإجابة عن ذلك أقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- ( الصَّيْحَةُ ) هي الصوتُ الشديد ، على وزن ( فَعْلَةٌ ) مصدر مرة ، يدل على حدوث الفعل مرة واحدة . قال تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾(القمر:31) ، والصَّيحة من الصياح ، مصدر : صاح . يقال : صاح يصبح صياحًا ، وصيحة ، إذا صوَّت بقوة ، ومن الأول قول الشاعر :

فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب

ومن الثاني قول الآخر :

صاح الزمان بآل زيد صيحة ... خروا لشنتها على الأذقان

ومنه قوله تعالى في المنافقين :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾(المنافقون:4) ، وقوله :﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ ﴾(ق:42) . أي : يسمعون النفخة الثانية من إسرافيل- عليه السلام- يوم البعث . وتأنيث ( الصيحة ) مجازي ، مثلها : ( الرجفة ) و( الزجرة ) .

أما ( الأَخْذُ ) فهو حَوْزُ الشيء وتحصيله ، ويكون ذلك تارة بالتناول ؛ نحو قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ (يوسف:79) ، ويكون تارة أخرى بالقهر ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود:102) . وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:67) ، وقوله :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:94) ، وهي صيحة جبريل عليه السلام ، صاح عليهم صيحة واحدة ، فماتوا جميعًا .

ثانيًا- ويكاد يجمع علماء العربية على أن ( الصيحة ) من الألفاظ التي يجوز معها التذكير والتأنيث ؛ لأنها مؤنث مجازي ، ويقول ابن هشام في المغني :« قولهم المؤنثُ المجازيُّ يجوز معه التذكير والتأنيث ، وهذا يتداوله الفقهاء في محاوراتهم ، والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازي ، وبكون المسند فعلاً أو شبهه ، وبكون المؤنث ظاهرًا ؛ وذلك نحو : طَلَعَ الشمسُ .. وأَطَالِعٌ الشمسُ ؟ ولا يجوز : هذا الشمس ، ولا : هو الشمس ، ولا الشمس هذا ، أو هو » .

ويفهم من قول ابن هشام هذا أنه لا يجوز أن يقال : يجوز مع الصيحة التذكير والتأنيث ؛ لأنها مؤنث مجازي ، فلا يجوز أن يقال : هذا الصيحة ، ولا هذه الصيحة ؛ وإنما يقال : يجوز في الفعل المسند إلى الصيحة التذكير والتأنيث ؛ لأنها مؤنث مجازي . ومع ذلك فقد زعم الدكتور فاضل السامرائي أن الصيحة مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث ، لا معها ، وزعم أن ذلك قاعدة معروفة ؟ هذا ما أجاب به في برنامج ( لمسات بيانية ) عن السؤال الآتي : ما الفرق بين ( أخذ ) ، و( أخذت ) مع ( الصيحة ) ، أيهما أصوب في ميزان اللغة ؟ فقال ما نصُّه :« كلاهما صائب ، هذه قاعدة معروفة ( صيحة ) هذه مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث » ؛ وكأنه لم يسمع بقول ابن هشام السابق في المغني ، وهو أشهر من أن يخفى عن عالم في النحو كالسامرائي .

فـ( الصيحة ) مؤنث مجازي ، والقول بأنه يجوز معها أو فيها التذكير والتأنيث خطأ ، لا ينبغي الركون إليه ، وعلماء النحو والتفسير متفقون على أنه يجوز في الفعل المسند إلى الصيحة : التذكير ، والتأنيث ؛ سواء باشرها الفعل ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:67) ، أو فصل بينها ، وبين الفعل فاصل ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:94) . والتأنيث مع المباشرة أحسن ، والتذكير مع الفصل أحسن ، إظهارًا لفضل المؤنث الحقيقي على غيره ، وكلاهما عربي فصيح .

أما الوجه في تأنيث الفعل مع ( الصيحة ) فهو ظاهر ؛ وهو كونها مؤنثًا غير حقيقي . أي : مجازي ؛ ولأن المراد منها : الواحدة من المصدر .

وأما تذكير الفعل معها ففيه ثلاثة أوجه ، ذكرها أبو البقاء العُكبَرِيُّ في ( إملاء ما من به الرحمن ) :

أحدها : أنه فصل بين الفعل والفاعل .

الثاني : أن التأنيث غير حقيقي .

الثالث : أن الصيحة بمعنى الصياح ، فحمل على المعنى .

والجمهور على الوجه الثاني ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول ، ومنهم من اختار الوجه الثالث ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول . قال الرازي :« إنما قال :( أَخَذَ ) ، ولم يقل :( أَخَذَتْ ) ؛ لأن ( الصيحة ) محمولة على ( الصياح ) ، وأيضًا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث » .

واختار الشيخ السهيلي الوجه الثاني ، حكى ذلك عنه الشيخ ابن قيِّم الجوزية ، ونصُّ قوله في ذلك :« فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم ، وفاعله مؤنث غير حقيقي ، فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل ، وحذفها في قصة صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:67) ؟ قلت : الصيحة في قصة صالح في معنى ( العذاب والخزي ) ؛ إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه :﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (هود:66) ، فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي ، وعن العذاب المذكور في الآية ، فقوي التذكير ، بخلاف قصة شعيب ، فإنه لم يذكر فيها ذلك .. هذا جواب السهيلي » .

وأضاف ابن قيِّم الجوزية قائلاً :« وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله ، وهو : أن الصيحة يراد بها المصدر ، بمعنى : الصياح ، فيحسن فيها التذكير ، ويراد بها الواحدة من المصدر ، فيكون التأنيث أحسن . وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ :

أحدها : الرجفة في قوله في الأعراف :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾(الأعراف:78) .

الثاني : الظلة بقوله :﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ (الشعراء:189) .

الثالث : الصيحة ، وجمع لهم بين الثلاثة ، فإن الرجفة بدأت بهم ، فأصحروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم ، فصهرتهم الشمس بحرها ، ورفعت لهم الظلة ، فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم منها العذاب ، وفيه الصيحة ، فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح ، وكان ذكر ( التاء ) .. والله أعلم ! » .

ثالثًا- وواضح مما تقدم أن سبب تذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:67) هو أن المراد من الصيحة فيه : الخزي الذي هو عبارة عن العذاب ، أو أنها بمعنى : الصياح ، وكلاهما مفرد مذكر ، وعليهما يكون المعنى :

وأخذ الذين ظلموا الخزي أو العذاب . أو : وأخذ الذين ظلموا الصياح .

وكلاهما حسن ؛ ولكن الثاني أحسن . وأما تأنيث الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود:94) فلأن المراد من الصيحة فيه : الواحدة من المصدر . ولو كان المراد من ( الصيحة ) في الآيتين واحدًا ، لكان تذكير الفعل معها أحسن من تأنيثه ، لاستوائهما في الفصل ، ولما في تذكير الفعل من دلالة على سرعة الأخذ ، بخلاف تأنيثه . والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق