الاثنين، 13 فبراير 2012

فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ

فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ

أولاً- سأل أحدهم : هل هذا التوجيه صحيح :﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾(النحل:29) حُذف منها ( من ) ، فيكون تقدير الكلام : فادخلوا من أبواب جهنم ؛ لأن الدخول يكون من الأبواب ، والحذف هنا إنما أتى للدلالة على المبالغة في تأكيد هذا الدخول ؛ فكأنهم دخلوا في نفس الأبواب ؟

وأجاب أحدهم عن ذلك بأنه جاء تعبير ( الدخول من أبواب ) مرة واحدة في سورة يوسف في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾(يوسف:67) . أمّا في باقي آيات الكتاب فقد جاء فعل الدخول متعديًا بنفسه ، كما في قوله تعالى :﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾(النحل:29) .

وأضاف صاحب هذا الجواب قائلاً موجهًا كلامه للسائل : توجيهك مقبول أخي ؛ إلا أنني ارتأيت أن كون التعبير ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾ متعديًا بنفسه يشير إلى سرعة الدخول ؛ وكأنه أراد منهم أن يكونوا في داخل جهنم مسرعين . فأنت تقول آمرًا ولدك : ادخل الباب ، وتعني : أن عليه أن يكون داخل المنزل . أما قولك له : ادخل من الباب ، فأنت تقوله عندما يتوفر مدخل آخر غير الباب للمنزل .

وعقَّبَت أخرى على ذلك بقولها : أيُّ الصورتين هي الأصل : تعدي الفعل ( دخل ) بنفسه ، أم بحرف ( من ) ؟ وما السر البياني الذي أفاده هذا الحرف ( من ) ؟ هل يمكن أن يكون للابتداء ؟

ثانيًا- وفي الإجابة عن ذلك كله أقول بعون الله وتعليمه :

1- يجب التفريق بين قول القائل : دخلت المسجد من الباب ، وقوله : دخلت في المسجد من الباب ؛ لأن الأول يتعدى إلى المفعول بنفسه ، والثاني يتعدى إلى المفعول بأداة الجر( في ) . والمفعول في الموضعين هو ( المسجد ) .. أما ( الباب ) فيهما فهو اسم مجرور بـ( من ) ، وهي هنا لابتداء الغاية المكانية .

2- الفعل ( دخل ) يُعدَّى إلى المفعول بـ( في ) ، ولا يُعدَّى بـ( من ) ؛ لأن المجرور بـ( من ) ليس مفعولاً في المعنى ، بخلاف المجرور بـ( في ) . والذي يُعدَّى بـ( من ) هو الفعل ( خرج ) نقيض ( دخل ) . يقال : دخلت في الكوفة ، وخرجت منها .

3- الدخول يعني : الانتقال من مكان بسيط من الأرض إلى مكان منها غير بسيط ، فإذا كان المنقول إليه مكانًا غير مختصٍّ ، وجب إدخال ( في ) قبله ، كقولك : دخل في عالم الغيب . ومنه قوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم (الأعراف:38) ، وقوله :﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾(النمل:19) . فهنا لا يحوز إسقاط ( في ) ؛ لأن ما بعدها مكان غير مختص .

وإذا كان المنقول إليه مكانًا مختصًّا ، جاز إدخال ( في ) قبله ، وجاز إسقاطها ، وإسقاطها أبلغ من إدخالها ، لما فيه من دلالة على سرعة الدخول ، كقولك : دخلت في المسجد ، ودخلت المسجد . ومن إسقاطها قوله تعالى :﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ (المائدة:21) ، وقوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل:32) . ولو قيل : ادخلوا في الأرض المقدسة ، وادخلوا في الجنة لكان ذلك جائزًا ؛ لأن كلاًّ من الأرض والجنة مكان مختص . وقد اجتمع ذكر في ، وإسقاطها في قوله تعالى :﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:29-30) .

4- قوله تعالى :﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ (النحل:29) ليس كقوله تعالى :﴿ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ (يوسف:67) ؛ لأن الأبواب في الأول مفعول به ، وهي المدخول فيه ؛ ولهذا قال المفسرون : المعنى : فادخلوا جهنم . وأصل الكلام : ادخلوا جهنم من أبوابها . فقدمت الأبواب على ( جهنم ) بعد إسقاط ( من ) ، وحلت محلها في المعنى ، والإعراب . ويقاس على ذلك بقية الآيات . والدليل قوله تعالى عقب ذلك :﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ (النحل: 29) ، فقال : مثوى ، وهو مكان يراد به جهنم ، لا أبوابها . أما الأبواب الثانية في آية يوسف فهي اسم مجرور ، والمفعول به محذوف ، تقديره : ادخلوا مصر من أبواب متفرقة . و( من ) قبلها لابتداء الغاية المكانية .

وبذلك يتضح الفرق بين قول القائل : ادخلوا الباب ، وقوله : ادخلوا من الباب . فالأول دخول في الباب ، والثاني دخول من الباب .. ولهذا يجوز في الأول : دخلت في الباب.

5- قال تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (البقرة:58) ، والمعنى : وإذ قلنا : ادخلوا في هذه القرية .. وادخلوا في الباب سجدًا ، ثم أسقطت ( في ) تنبيهًا على سرعة الدخول . وإنما جاز ذلك في القرية والباب ؛ لأن كلاًّ منهما مكان مختص . وجاز ذلك في الباب ؛ لأنه في معنى القرية ، والدليل قوله تعالى :﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ (المائدة:32) ، فقال : دخلتموه ، والمراد : دخلتم فيه .. والله تعالى أعلم !

ثالثًا- وعن السؤال الآتي : هل ( البيت ) في قولنا : دخلت البيت ، منصوب على أنه مفعول به ، أو منصوب على نزع الخافض ، أو أنه منصوب عليهما ؟ أجبت بالجواب الآتي :

1- الفعل في النحو العربي من حيث التعدي ، واللزوم ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول يكون فيه الفعل لازمًا ، وهو الذي يتعدى إلى المفعول بوساطة أداة الجر ، والقسم الثاني يكون فيه الفعل متعديًا ، وهو الذي يتعدى إلى المفعول بدون وساطة أداة الجر.

2- قد تحذف أداة الجر مع بعض الأفعال اللازمة ، فينتصب الاسم على المفعول به اتساعًا ؛ كقول العرب : ذهبت الشام ، ومررت الديار . والأصل فيهما : ذهبت إلى الشام ، ومررت على الديار ، ومررت بالديار . قال الشاعر :

تمرون الديار ولم تعوجوا ** سلامكم علي إذًا حرام

فهذا ممَّا حذفت منه أداة الجر اتساعًا ، لسر بلاغي من أسرار البيان ، فانتصب الاسم بعده على نزع الخافض ؛ إذ الأصل فيه اللزوم . ومنه قوله تعالى :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾(الأعراف:155) . والأصل فيه : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً ؛ فكأن قومه كلهم هم هذا العدد المذكور .

3- قد ترد بعض الأفعال المتعدية متعدية بأنفسها تارة ، ومتعدية بأداة الجر تارة أخرى ؛ كقول العرب : سبَّح اللهَ ، وسبَّح لله . وشكر الله ، وشكر لله . ونصح القوم ، ونصح للقوم . فانتصاب الاسم مع هذه الأفعال على المفعول به ؛ لأن الأصل فيها التعدي ، وأمثلتها في القرآن كثيرة لمن أراد أن يتتبعها .

4- الفعل ( دخل ) يستعمل لازمًا تارة . ومتعديًا تارة أخرى . ومتعديًا ولازمًا تارة ثالثة :

أ - أما كونه لازمًا فلأن مصدره على : فعول ، وهو غالب في الأفعال اللازمة ؛ ولأن نظيره ونقيضه كذلك : عبَر ، وخرج ، وكلاهما لازم . ويتعين كونه لازمًا ، إذا كان المدخول فيه مكانًا غير مختص ؛ كما في قوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم ﴾(الأعراف:38) ، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السَّّلْمِ كَآفَّةً )البقرة:208) .

فإذا كان المدخول فيه مكانًا مختصًّا ؛ فإما أن يكون ذلك المكان متسعًا جدًّا ، بحيث يكون كالبلد العظيم . أو يكون ضيِّقًا جدًّا ، بحيث يكون الدخول فيه ولوجًا وتقحمًا . أو يكون وسطًا بينهما .

فإن كان الأول ، لم يكن من نصبه بدٌّ ؛ كقول العرب : دخلت الكوفة ، والحجاز ، والعراق . ويقبُح أن يقال : دخلت في الكوفة ، وفي الحجاز ، وفي العراق ، مع جوازه . ومن الأول قوله تعالى :﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾(المائدة:21) ، وقوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(النحل:32) .

وإن كان الثاني ، لم يكن من جره بدٌّ ؛ كقولهم : دخلت في البئر .

وإن كان الثالث ، جاز فيه النصب والجر ؛ كقولهم : دخلت المسجد ، وفي المسجد . ونصبه أبلغ من جره . وانتصابه على المفعول به ، لا على نزع الخافض ؛ لأن الأصل في الفعل ( دخل ) المتعدي إلى المكان المختص أن يتعدى بنفسه ، خلافًا للفعل ( ذهب ) في قولهم : ذهبت الشام ؛ لأن الأصل في هذا اللزوم . ومنه قوله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (النمل:18) .

ومما يدل على ما ذكرنا : أن الفعل ( ذهب ) مقصور على مكان معين ، وهو ( الشام ) ، فلما كان ( دخل ) شائعًا في سائر الأمكنة ، دل على أنه متعد . أما ( ذهب ) فمتفق على كونه غير متعد بنفسه ، وقد حذف منه حرف الجر اتساعًا ؛ ولهذا الذي ذكرته لا يجوز في أسماء الأمكنة المختصة بعد الفعل ( دخل ) النصب على نزع الخافض ؛ لأن الأصل أن يتعدَّى إليها بدون .. والله تعالى أعلم !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق