الأحد، 12 فبراير 2012

الفرق بين الإيتاء والإعطاء



أولاً- قال الجويني :« لا يكاد اللغويون يفرقون بين ( الإيتاء ) ، و( الإعطاء ) ، وظهر لي بينهما فرق ينبئ عن بلاغة كتاب الله تعالى ، وهو أن ( الإيتاء ) أقوى من ( الإعطاء ) في إثبات مفعوله ؛ لأن الإعطاء له مطاوع . تقول : أعطاني فعطوت . أي : فتناولت ، ولا تقول في الإيتاء : آتاني فأتيت ؛ وإنما تقول : آتاني فأخذت . فالفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الفعل الذي لا مطاوع له ؛ لأنك تقول : قطعته فانقطع ، فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفًا على قبول في المحل ، لولاه ما ثبت المفعول ؛ ولهذا يصح : قطعته فما انقطع ، ولا يصح ذلك في ما لا مطاوع له ، فلا يجوز : ضربته فانضرب . أو : ضربته فما انضرب ، ولا : قتلته فانقتل . أو: قتلته فما انقتل ؛ لأن هذه أفعال ، إذا صدرت من الفاعل ، ثبت لها المفعول في المحل ، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها ؛ فالإيتاء- إذًا- أقوى من الإعطاء » .

ثانيًا- فمن الإيتاء قوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء (آل عمران:26) ، وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾(البقرة:258) ، فعبَّر عن ذلك بلفظ ( الإيتاء ) ؛ لأن الملك شيء عظيم ، لا يُعطَاه إلا من له قوة ، وكذلك الحكمة في قوله تعالى :﴿ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ﴾(البقرة:269) ، ونظيرهما قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾(الحجر:87) ، فقال سبحانه : آتيناك ، ولم يقل : أعطيناك ؛ وذلك لعظم السبع المثاني والقرآن العظيم . وقال تعالى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (النساء 54) ، فعبَّر سبحانه عن ذلك بلفظ ( الإيتاء ) دون لفظ ( الإعطاء ) ، للعلَّة التي ذكرتها .

ومن الإعطاء قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (الكوثر:1) ؛ لأنه مَورودٌ في الموقف ، مُرتَحَلٌ عنه ، قريبٌ إلى منازل العز في الجنة ، فعبَّر فيه بلفظ ( الإعطاء ) ؛ لأنه يُتْرَك عن قرب ، ويُنتقَل إلى ما هو أعظم منه .

وقال تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾(الضحى:5) ، فعبَّر فيه بلفظ ( الإعطاء ) ؛ وذلك لِمَا فيه من تكرير الإعطاء ، والزيادة إلى أن يرضى كل الرضا . وكذا قوله :﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (طه:50) ، فعبَّر فيه بلفظ ( الإعطاء ) ؛ لتكرر حدوث ذلك ، باعتبار الموجودات .

وقال تعالى :﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ (الحج:41) ، وقال تعالى :﴿ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ﴾(الأنبياء:73) ، فخَصَّ دفع الزكاة بلفظ ( الإيتاء ) ، لمكانتها في الإسلام . وقال :﴿ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة:29) ، فخَصَّ دفع الجزية بلفظ ( الإعطاء ) ؛ لأنها موقوفة على قبول منا ، وإنما يعطونها عن كره ، بخلاف الصدقة ؛ ألا ترى إلى قولهم : أعطى يده ، إذا انقاد وأطاع ؟ وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة ، وألا يكون كإعطاء الجزية .

ثالثًا- قال الفاضل النيسابوري :« في الإعطاء دليل التملك دون الإيتاء » ، وعقَّب عليه أبو هلال العسكري بقوله :« ويؤيده قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (الكوثر:1) ، فإنه كان له منع من شاء منه كالمالك للملك . وأما القرآن فحيث أن أمته مشاركون له في فوائده ، ولم يكن له منعهم منه ، قال :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾(الحجر:87) » .

وحقيقة القول في ذلك أن ( الإعطاء ) هو إيصال الشيء إلى الآخذ له . ألا ترى أنك تعطي زيدًا المال ؛ ليرده إلى عمرو ، وتعطيه ؛ ليتَّجر لك به ، وتعطيه الثوب ؛ ليخيطه لك . وهذا لا يقتضي إخراج الشيء المعطَى من الملك ، وبالتالي لا يقتضي التمليك ، بخلاف الهبة التي تقتضي التمليك ، فإذا وهبته له ، فقد ملكته إياه ، ثم كثر استعمال الإعطاء ، حتى صار لا يطلق إلا على التمليك ، فيقال : أعطاه مالاً ، إذا ملكه إياه ، والأصل ما تقدم . ويبين لك ذلك أن الله تعالى جعل الملك الذي آتاه سليمان عليه السلام ( عطاء ) في قوله :﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (ص:39) ، ولم يجعله ( إيتاء ) ؛ لأن سليمان- عليه السلام- سأل ربه عز وجل أن يكون ذلك الملك هبة منه جل وعلا له ، يتصرف به كيفما يشاء ؛ لأن الهبة تقتضي التمليك والتصرف ، فقال عليه السلام :﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (ص:35) ، فكان جواب ربه عز وجل :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (ص:36-38) .. والحمد لله على ما وهب وأعطى وآتى ، له الفضل والمنَّة .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

1 التعليقات:

Unknown يقول...

المصدر بكامل معلوماته لطفًا....

إرسال تعليق