قال الله عز وجل :﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾(النحل:112)
أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لكل قوم أنعم عليهم بنعمة الأمن والطمأنينة وسعة الرزق ، فأبطرتهم النعمة ، فكفروا بها ، فبدَّل الله تعالى نعمتهم نقمة ، وأمنهم خوفًا ، ويدخل فيه كفار أهل مكة دخولاً أوليًَّا ؛ لأنهم هم المقصودون بهذا المثل قبل غيرهم ، ويتضمن قياسًا من قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع ، لاشتراكهما في أمر من الأمور ، والغرض منه الإنذار والتحذير من مغبة الكفر والشرك ، والاعتبار بما حل بهذه القرية الظالم أهلها .
ووجه ارتباط هذا المثل بما قبله أن الله تعالى بعد أن توعَّد الكفار بقوارع الوعيد في الآخرة بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(النحل:104) ، وقوله :﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(النحل:106) إلى قوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ﴾(النحل:109) ، عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا ، وهو الوقوع في الجوع والخوف ، كما ذكر في هذا المثل .
وقد سبق أن ضرب الله تعالى في هذه السورة مثلين لتقريب حقيقة من حقائق العقيدة ، وهما :( مثل الله الخالق القادر ) ، و( مثل المخلوق العاجز ) ، ثم جاء هذا المثل الذي يمثل الله تعالى فيه حال مكة وقومها المشركين بحال هذه القرية الظالم أهلها ؛ ليبين لهم أن حكمهم كحكمهم ، ومصيرهم كمصيرهم ، لاشتراكهم جميعًا في كفران أنعم الله تعالى ، والشرك به سبحانه ، كما قال سبحانه وتعالى منبهًا إلى ذلك :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾(القمر:43) ، فهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة ؛ وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله ، لما لزمت التعدية ، ولا تمت الحجة .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ﴾ معناه : قدَّر الله مثلاً . أي : صاغه وأنشأه من مجموع شيئين متماثلين في الحكم ، خلافًا لمن زعم أن ( ضَرَبَ ) بمعنى : جعل . و( مَثَلاً ) مفعول ( ضَرَبَ ) . و( قَرْيَةً ) بدل من ( مَثَلاً ) وتفسير له ، والجملة استئنافية مبيِّنة لما قبلها ، خلافًا لمن زعم أنها معطوفة عليه . ولفظ ( قَرْيَةً ) بالتنكير يدل على أنها قرية غير معينة ، خلافًا لمن زعم أنها ( مكة ) ؛ لأنها ضربت مثلاً لـ( مكة ) على معنى التحذير لأهلها ، ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة ، ويدل تنكير ( قَرْيَةً ) أيضًا على أن التحذير يكون مع عدم التعيين أبلغ ، وأن التمثيل يكون أكمل .
وعلى ذلك فهي : إما قرية محققة في الغابرين كانت هذه صفتها ، فضربها الله مثلاً لـ( مكة ) إنذارًا من مثل عاقبتها . أو قرية مقدرة على هذه الصفة ؛ لأن المثل هو تصوير لحالة معينة ، وهذه الحالة قد تكون واقعة تاريخية ثابتة ، وقد تكون غير واقعة ؛ ولهذا لا يشترط في المثل صحته ، وعدم صحته على أنه واقعة ثابتة ؛ وإنما يشترط فيه فقط- إن كان تصويرًا لحالة غير واقعة- إمكان صحتها . أي : وقوعها ، حتى يتسنى للذهن تصوُّرَها ، كما لو أنها وقعت فعلاً ، كما في هذا المثل . ومن أجل ذلك فقط يمكن الربط بين المثل ، والمعنى المُمَثَّل له ، حيث يلبس نسيجًا ماديًّا محسوسًا ، يتصوره الذهن ، ويألفه الخيال .
ويترجح القول الأول من هذين القولين بقوله تعالى في الآية التالية لهذا المثل :﴿ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾(النحل:113) ، فهذا يدل على أن هذه القرية التي ضربت مثلاً لـ( مكة وأهلها ) هي قرية موجودة في الأولين ، كانت هذه صفتها ، لا أنها مقدرة على هذه الصفة ، وقد ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات ثلاثة :
الصفة الأولى : كونها ( آمِنَةً ) ، وهو من الأمن ، وأصله : طمأنينة النفس وزوال الخوف . والمراد : أنها ذات أمن لا يغار عليها ، كما قال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾(العنكبوت:67) . والأمر في مكة كان كذلك ؛ لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض . أما أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله ، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم ؛ ولهذا ذهب أكثر المفسرين إلى القول بأن المراد بهذه القرية : مكة .
والصفة الثانية : كونها ( مُطْمَئِنَّةً ) . والطمأنينة والاطمئنان هو : السكون بعد الانزعاج والقلق . والمراد : أنه لا يزعجها خوف بعد حصول الأمن لها .
والصفة الثالثة : كونها ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ) . أي : يأتيها رزقها واسعًا ، من كل جهة وناحية ، لا ينقطع عنها أبدًا .
وحكى الرازي عن الواحدي قوله في معنى الصفة الثانية :« أنها قارة ساكنة ، فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق » . ثم عقَّب عليه قائلاً :« إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف ، فهذا هو معنى كونها ( آمِنَةً ) . وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق ، فهذا هو معنى قوله : يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ) ، وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار .. والجواب : أن العقلاء قالوا :
ثلاثة ليس لها نهاية ... الأمن والصحة والكفاية
فقوله :﴿ آمِنَةً ﴾ إشارة إلى الأمن ، وقوله :﴿ مُطْمَئِنَّةً ﴾ إشارة إلى الصحة ؛ لأن هواء ذلك البلد ، لما كان ملائمًا لأمزجتهم ، اطمأنوا إليه واستقروا فيه ، وقوله :﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ إشارة إلى الكفاية » .
فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأهم ، فالأهم ، وبما هو سبب للآخر ، فالأمن سبب للطمأنينة ، والطمأنينة سبب لسعة الرزق ورغد العيش ، ومجيئها بهذا الترتيب هو غاية الحسن ونهايته ، وهذا من أسرار البيان القرآني المعجز الذي يشهد أنه تنزيل من حكيم حميد .
وإنما جاز وصف هذه القرية بهذه الصفات ، والمراد أهلها ؛ لأنها مكان لهم ، وأسماء الأمكنة يدخل فيها الحالُّ والمحلُّ ، ثم قد يعود الحكم تارة على الحالِّ وهو السكان ، وتارة على المحلِّ وهو المكان . فمن الأول قوله تعالى :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾(الأعراف:4) ، فجعل القرى هم السكان . ومن الثاني قوله تعالى :﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾(البقرة:259) ؛ فهذا للمكان لا للسكان .
وفي المجيء بالصفة الأولى والثانية مفردتين ( آمِنَةً ، مُطْمَئِنَّةً ) ، وبالصفة الثالثة جملة فعلية ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً ﴾ سرٌّ آخر من أسرار البيان القرآني ، فالصفتان : الأولى والثانية تشعران بثبوت الأمن والطمأنينة ولزومهما . والصفة الثالثة تشعر بتجدد الرزق واستمراره دون انقطاع .
وفي التعبير بالإتيان للرزق ، دون المجيء ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا ﴾ سر آخر من أسرار البيان ، فهو بالإضافة إلى ما يدل عليه من أن الرزق هو الذي يأتيهم ، لا هم الذين يأتون به ، فإنه يدل على سهولة مجيئه ويسره وكثرته ، ومنه قيل للسيل المار على وجهه : أَتِيٌّ ؛ ولهذا ناسب كونه رزقًا رغدًا ، يأتيهم من كل حدب وصوب ، صيفًا وشتاء ، خريفًا وربيعًا .
ثم إنه تعالى ، لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة ، قال :﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ ﴾ ، وفيه أن الكفر مقيد بكفر النعمة ، ويعني : جحودها . وأنعم جمع : نعمة . ومثله : نِعَم ، فإن نعمة تجمع على : نِعَم ، وأَنْعُم . والأول جمع كثرة ، والثاني جمع قلة . وفي استعمال جمع القلة دون جمع الكثرة تنبيه بالأدنى على الأعلى . يعني : أن كفران النعم القليلة ، إذا كان يستوجب العذاب ، فكفران النعم الكثيرة أولى بذلك . وهذا مثل أهل مكة ؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا به ، وبالغوا في إيذائه ، فاستحقوا بذلك أن سلط الله عليهم البلاء .
ثم قال تعالى :﴿ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ ، وأصلُ الذوق بالفم ، ثم استعمل للابتلاء وللاختبار ، فجعِل كلٌّ من الخوف والجوع مَذوقًًا على سبيل الاستعارة ، بعد أن أضيف إليهما اللباس ؛ ليشعر أنه لبس الجائع والخائف ، فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس ، بخلاف من كان الألم لا يستوعب مشاعره ؛ بل يختص ببعض المواضع . ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف ، وقدم الجوع ؛ ليلي المتأخر ، وهو إتيان الرزق .
ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابـي الأديب :« هل يذاق اللباس ؟ قال ابن الأعرابـي : لا باس ولا لباس يا أيها النسناس ! هب أنك تشك أن محمدًا ما كان نبيًا ، أما كان عربيًا ؟! » . وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية ، وهو أن اللباس لا يذاق ؛ بل يلبس ، فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع .
فلو قيل : ( فكساهم الله لباس الجوع والخوف ) ، لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم ؛ إلا بالعقل من حيث أنه يعرف أن الجائع الخائف يألم ، بخلاف لفظ ذوق لباس الجوع والخوف ، فان هذا اللفظ يدل على الإحساس بالمؤلِم ، وإذا أضيف إلى المُلِذِّ ، دلَّ على الإحساس به ، كقوله عليه الصلاة والسلام :« ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا » . فلو قيل :( فَأَذَاقَهم اللّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ ) ، لم يدل فعل الإذاقة على أنه شامل لجميع أجزاء الجائع والخائف ، بخلاف ما إذا قيل :﴿ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ .
فتأمل ، كيف جمعت هذه العبارة على وجازتها بين الذوق واللباس ؛ ليدل ذلك على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله ! فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر ، فإن الخوف قد يتوقع ، ولا يباشر ، وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن .
وقرأ الجمهور :﴿ وَالْخَوْفِ ﴾ بالجرِّ ، عطفًا على﴿ الْجُوعِ ﴾ . وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ : ﴿ وَالْخَوْفَ ﴾ بالنصب ، عطفًا على ﴿ لِبَاسَ ﴾ . ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل ، ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله : ( وَلِبَاسَ الخَوْفِ ) .
ثم قال تعالى :﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ ، فأشار إلى أن إنزال العذاب بهم إنما كان بسبب ما كانوا يصنعونه على وجه التجدد والاستمرار ؛ وهو الكفران المذكور بأنعم الله ، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم ؛ ولهذا لم يقل :( بما صنعوا ) . وقال سبحانه :﴿ يَصْنَعُونَ ﴾ ، ولم بقل : ( يفعلون ) ؛ إيذانًا بأن الكفر بأنعم الله تعالى قد صار صنعة راسخة لهم ، وسنَّة مسلوكة عندهم .
والضمير في قوله تعالى :﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ عائد على أهل قرية ، وقد أعيد الضمير أولاً على لفظ ( قرية ) ، ثم أعيد ثانيًا على ( أهل القرية ) ؛ لأنهم هم المقصودون بهذا المثل ، ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾(الأعراف:4) . هذا هو مثل مكة وأهلها الذي ضربه الله تعالى لهم ؛ وهو منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل شاخصة أمامهم وأمام كل من نهج نهجهم وصنع صنعهم إلى يوم القيامة ، وقد قال الله تعالى محذرًا :﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾(الشعراء:227) !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك
0 التعليقات:
إرسال تعليق