الاثنين، 13 فبراير 2012

لا أقسم : أقسم هو ، أم غير قسم ؟

لا أقسم : أقسم هو ، أم غير قسم ؟

قال الله جل وعلا :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾( الواقعة : 75– 80 ) .

قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعقيبًا على هذه الآية الكريمة :« لا أقسم ، بمعنى : أقسم ، و( لا ) مزيدة للتوكيد . وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .. وبمعنى : أنه غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت .. ثم كثر هذا الاستعمال ، فصار مرادًا تأكيد الخبر ، فساوى القسم بدليل قوله عقبه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ .. وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن » .

أولاً- يصرح ابن عاشور في هذا النص بأن ) لا أقسم ) ، بمعنى :( أقسم ) ، وأن ( لا ) مزيدة للتوكيد .. ثم يذكر أن أصلها نافية ، وأنها تدل على معنيين :

أولهما : أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .

والثاني : أن القائل غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت .

ثم جعل المعنى الثاني مساويًا للقسَم من حيث التأكيد ، واستدل على ذلك بقوله تعالى عقبه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ .

ثانيًا- إذا كانت ( لا ) مزيدة للتوكيد - كما يقول ابن عاشور- فكيف يمكن التوفيق بين قوله الأول ، وقوله الثاني ؟

ثم إذا كان القائل لا يقدم على القسم ، خشية سوء عاقبة الكذب في القسم ؛ كأن يقول مثلاً :« لا أقسم على أن هذا الشيء حق وصدق » .. أو إذا كان الله تعالى غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت ، فكيف يمكن اعتبار ( لا )- على هذين القولين مزيدة للتوكيد ؟

ثالثًا- إذا كان قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ صريح في أن القسم بمواقع النجوم هو قسم عظيم ، فهل يدل على أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ بمعنى :﴿ فَأُقْسِمُ ﴾ ؛ كما قال ابن عاشور ، وكثير غيره من المفسرين والنحويين . وإن لم يكن كذلك ، فكيف يمكن التوفيق بين قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ؟

الجــواب :

أولاً- ينقسم القسم بحسب المقسَم عليه ، وبحسب الحاجة إليه إلى قسمين :

الأول : قسَم مثبت ، وهو الذي يكون فيه المقسَم عليه من الأمور التي تكون مظنة للشك من قبل المخاطب . وأمثلته في القرآن كثيرة.. منها قوله تعالى:﴿ ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (القلم: 1- 3) ، ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾(الضحى: 1- 3) ، ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: 1) ، ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (الذاريات: 23) ، ﴿ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾(يونس: 53) ، ﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ (سبأ: 3) ، ﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ (التغابن: 7) .

فالمقسَم عليه في هذه الآيات هو من الأمور التي تكون مظنة للشك من قبل المخاطب ، فيأتي القسم بما أقسم به عليه ؛ لتثبيته ، وتأكيده في ذهن المخاطب ؛ لأنه بين مصدِّق به ومكذِّب .

والثاني : قسَم مسبوق بـ( لا ) النافية ، وهو نوعان :

أولهما : يختص المقسِم فيه بالعبد ، تقول :( لا أقسم ) ؛ إما لسوء عاقبة الكذب في القسم ، أو لسبب آخر. فـ( لا ) هنا نافية للقسم. و ( أقسم ) فعل منفي بها .. وهذا واضح : تقول : أقسم ، ولا أقسم . والأول مثبت ، والثاني منفي . وهذا هو الذي قصده ابن عاشور ، وقال : إن ( لا ) فيه مزيدة للتوكيد ، وهي ليست كما قال ؛ لأنه لو كانت مزيدة ، لما عرف النفي من الإثبات ؛ ولأن الشيء لا يؤكد بنفيه ، ولا يمكن أن يقول به عاقل ؛ وإلا فكيف يكون قولنا : لا أفعل ، توكيدًا لقولنا : أفعل .

وثانيهما : يختص المقسِم فيه بالله تعالى ؛ ومنه ما وقع في القرآن الكريم من أقسام مسبوقة بـ( لا ) ؛ كما في قوله تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾( الواقعة : 75– 77 ) . فهذا ليس بقسم صريح ؛ وإنما هو تلويح بالقسم . و ( لا ) على أصلها الذي وضعت له من الدلالة على النفي ، وأدخلت على الفعل ( أقسم ) لسر بديع من أسرار القرآن ، وهو نفي الحاجة إلى القسم . والمقسِم هو الله تعالى ، والمقسَم عليه هو القرآن الكريم ، وهو من الأمور اليقينية الثابتة التي لا يتطرق الشك إليها أبدًا ، والتي لا تحتاج إلى أن تؤكد بالقسم . فالمقام هنا لا يحتاج إلى قسم ، فضلاً عن أن المقسِم هو الله جل وعلا .

ولو سلمنا أنه قسم- كما يقولون- فكيف يقسم ربنا جل وعلا على قرآن أعلن عجز الإنس والجن على الإتيان بمثله ، ولو اجتمعوا وتظاهروا عليه ، أو الإتيان بسورة من مثله ؟ ألا ترى أن في القسم عليه وضعه موضع المشكوك فيه ؟ وممَّن ؟ من الله تعالى قائل هذا القرآن . والشك في القرآن هو شك في قائله ، تعالى القرآن وقائله عز وجل عن ذلك وعلا علوًّا كبيرًا .

ومن يعرف هذا ، يدرك خطورة القول بأن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم ؛ سواء في ذلك قول من قال : إن ( لا ) مزيدة للتوكيد . أو قول من قال : إن أصلها لام أشبعت حركتها ، فصارت ألفاً . أو قول من قال : إنها نافية لكلام سبق .. ومن أصرَّ على واحد من هذه الأقوال التي تجعل من ( لا أقسم ) : ( أقسم ) ، بعد هذا البيان المفصل ، فإنه ملحد بآيات الله جل وعلا دون أن يدري . فليتنبه إلى ذلك من يفسر القرآن ، وليكن على حذر من أمره .

ثانيًا- وأما عن تسمية قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ونحوه ، قسمًا ؛ كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، فالجواب عنه:

أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لا يدل على أن ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم- كما يوحي بذلك ظاهر اللفظ- وإنما يدل على أن مواقع النجوم شيء عظيم يستحق أن يقسم به المقسمون ، لو كانوا يعلمون عظمتها . ولو أن الله جل وعلا كان بحاجة إلى القسم على أن هذا القرآن كريم ، لأقسم بها ؛ ولكنه سبحانه ليس بحاجة ألى هذا القسم . فثبت أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ليس بقسم ؛ وإنما هو تلويح بالقسم ، وأنه بمنزلة القسم الصريح .. ولتوضيح ذلك نقول:

إن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ يحتمل أن يفهم منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم ؛ لتفاهتها وحقارتها ، أو نحو ذلك ، فجاء قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ معترضًا بين التلويح بالقسم والمقسَم عليه ، صَوْنًا للمعنى من هذا الاحتمال .. ويؤكد ذلك أن المخاطبين بهذه الآيات وقت نزول القرآن لم يكونوا يعلمون عن مواقع النجوم إلا القليلَ القليل الذي يدركونه بعيونهم المجردة . وكذلك المخاطبون في أيامنا هذه لم يعلموا عن عظمة مواقع النجوم إلا القليل رغم تقدم العلم ، وإن كانت معرفتهم بعظمتها أكثر من معرفة من سبقهم بها .

ونحو ذلك قول من قال مثلاً :« لا أقسم بزيد على أن فلانًا كريم » ، فيقال له : إنك لم تقسم بزيد ؛ لأنه تافه وضيع حقير . فلدفع هذا الاحتمال ، يقول : لا أقسم بزيد- وإنه لقسم عظيم لو تعلمون- إن فلانًا لكريم . وبذلك يكون قد صان المعنى من ذلك الاحتمال الذي قد يخطر ببال المخاطبين ؛ ولهذا لم يقل الله تعالى :( كما تعلمون ) ؛ وإنما قال :﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لينفي علمهم بعظمة مواقع النجوم .

فمن يعرف جوهر الكلام الذي يتضمن هذه الأسرار الدقيقة واللطائف البديعة لابد ، وأن يسجد للخالق جل في علاه ، وإن كان نصرانيًا ، أو يهوديًّا ، أو مجوسيًّا ، أو ملحدًا .. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا نعمة الفهم لكلامه ، والإدراك لأسرار بيانه ، والحمد لله رب العالمين .

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق