البيعة
أحمد صبحى منصور
البيعة
1 ـ كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قد اشترط على أهل الموصل حين بايعوه بالخلافة أنهم إذا ثاروا عليه فإن دماءهم حلال ، وحدث أن ثاروا سنة 148 هـ فجمع الخليفة المنصور كبار الفقهاء ـ وفيهم أبو حنيفة ـ وقال لهم أهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علىّ ،وهاهم قد خرجوا ، وحلت لي دماءهم . فقال له فقهاء السلطة : إن عفوت يا أمير المؤمنين فأنت أهل العفو ، وإن عاقبت فبما يستحقون، وأمتعض أبو حنيفة ، فقال له المنصور : أراك سكت يا شيخ !! فقال أبو حنيفة : أنهم ـ أى ـ أهل الموصل ـ قد أباحوا لك ما لا يملكون ، وأنت اشترطت عليهم ما ليس لك ، أرأيت لو أن امرأة أباحت لك جسدها بغير زواج أيجوز ذلك لها ؟ أى أن الدماء والأعراض حرام بشرع الله ليس لأحد أن يعطى دمه أو عرضه إلا وفق الشرع ، وأضطر الخليفة للسكوت بسبب شجاعة أبى حنيفة.
وقد تألم أبو جعفر المنصور من موقف أبى حنيفة وأحس بخطورته على سلطانه ، وأضطهده وعذبه وقتله بالسم فيما بعد ( سنة 150 هـ ) وخلا الجو لفقهاء السلطة ، واكتسبت البيعة للخليفة مفهوما جديدا يعنى أن تكون له حرية التصرف فى أموال المسلمين ودماءهم وربما أعراضهم . وسار على ذلك الخلفاء من ذرية أبى جعفر المنصور وغيرهم. وتوارثنا المبايعة للسلطان أو الخليفة بهذا المفهوم ، وأصبح من مظاهر الدجل السياسي أن يكتب المنافقون مبايعة بالدم للسلطان ، وأن يهتفوا له " بالروح بالدم نفديك يا فلان " فإذا سقط صريعا انفضوا عنه واستداروا يتندرون عليه ..!!.
إن التجارة بالإسلام قد أعمت أصحابها عن تأصيل المفاهيم الإسلامية الحقيقية فى الشرع وشئون الحكم ، فليس لديهم من الوقت للفصل بين الحق الذي جاء به القرآن والذي طبقه خاتم النبيين عليه السلام وبين الزيف الذي أخترعه فقهاء السلطة وجرى عليه العرف حتى أصبح دينا وما هو من الدين من شيء . وموضوع المبايعة للسلطان يدخل فى ذلك الإطار .
2 ـ المبايعة لها مفهوم فى القرآن ، ما لبث أن حوره الفقهاء ليرضى. استبداد السلطان .. والأجدر بنا إن كنا نحب الإسلام حقا أن نتعرف على حقيقته بدلا من أن نتاجر باسمه العظيم فى سبيل حطام الدنيا ..
كان الدخول فى الإسلام فى عهد النبي يقترن بمبايعة النبي على التمسك بشريعته ، حنى لو كان من يدخل فى الإسلام من النساء ، والله تعالى يقول " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الممتحنة : 12 )" . أى كانت النساء يدخلن فى الإسلام بالمبايعة على طاعة الله ورسوله ، أى أن دولة الاسلام تكون بعقد يشارك فيه الجميع على قدر المساواة ، بلا فارق بين رجل وامرأة . ويكون هذا العقد فى صورة عهد تكون الطاعة فيه لله تعالى ، ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق حتى لو كان ذلك المخلوق هو النبى محمد عليه السلام.
وهذا هو موقع البيعة الأول فى الاسلام .
3 ـ وهناك موقع آخر للبيعة ـ أوالعهد أوالميثاق ـ وكلها بمعنى واحد .
كان الرجال يبايعون النبي أيضا على الجهاد ، وكذلك فعل الأنصار فى بيعتي العقبة الأولى والثانية وكانوا يجددون البيعة فى الأزمات كما حدث فى بيعة الشجرة التى قال عنها رب العزة " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح 18 ) ".
وهذه المبايعة كانت عهدا أمام الله تعالى ومع الله تعالى على الطاعة والفداء ، وكان النبي عليه السلام أول المؤمنين فى الطاعة لله وقائدهم فى المعارك، ولأنها بيعة لله تعالى فى الأصل فإن الله تعالى يقول للنبي على بيعة الشجرة " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(الفتح : 10 ) وهكذا جعل الله تعالى المبايعة عهدا معه .
وحين هوجم المسلمون فى المدينة فى غزوة الأحزاب بايعوا النبي على القتال فى سبيل الله ، ونكث المنافقون فقال الله عنهم " وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ( الأحزاب 15").، ولكن المؤمنون أوفوا بالعهد فقال تعالى عنهم " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب 23).
ولأنها عهدا مع الله تعالى رأسا دون واسطة فإن الله تعالى يجعلها صفقة بينه وبين المؤمنين الذين يبذلون دماءهم فى سبيل الله ويكافئهم الله تعالى على ذلك بالجنة يقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة ".
وكانت تلك المبايعة على الموت فى سبيل الله تأتى فى إطار القتال الدفاعى للمسلمين حين تهاجمهم قوة حربية باغية ، وذلك ما حدث فى غزوة الأحزاب ، وبعدها حين غدرت قريش بالمسلمين واحتجزت مبعوثيهم فى التفاوض .
فيما بعد تحولت المبايعة من قتال دفاعى فى سبيل الله إلى قتال فى سبيل الدنيا ، وبعد أن كانت تضحية فى سبيل المولى عز وجل أصبحت مبايعة لحاكم مستبد يتملك لنفسه رقاب المسلمين وغيرهم .. وبعد أن كانت المبايعة جهادا أصبحت استبدادا ، وبعد أن كان المجاهد يهتف : من يبايعني على الموت فى سبيل الله أصبح المنافق يصيح بالروح بالدم نفديك يا عباس .. وإن شئت الدليل ـ عزيزي القارئ ـ فاقرأ الموضوع من بدايته .
1 ـ كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قد اشترط على أهل الموصل حين بايعوه بالخلافة أنهم إذا ثاروا عليه فإن دماءهم حلال ، وحدث أن ثاروا سنة 148 هـ فجمع الخليفة المنصور كبار الفقهاء ـ وفيهم أبو حنيفة ـ وقال لهم أهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علىّ ،وهاهم قد خرجوا ، وحلت لي دماءهم . فقال له فقهاء السلطة : إن عفوت يا أمير المؤمنين فأنت أهل العفو ، وإن عاقبت فبما يستحقون، وأمتعض أبو حنيفة ، فقال له المنصور : أراك سكت يا شيخ !! فقال أبو حنيفة : أنهم ـ أى ـ أهل الموصل ـ قد أباحوا لك ما لا يملكون ، وأنت اشترطت عليهم ما ليس لك ، أرأيت لو أن امرأة أباحت لك جسدها بغير زواج أيجوز ذلك لها ؟ أى أن الدماء والأعراض حرام بشرع الله ليس لأحد أن يعطى دمه أو عرضه إلا وفق الشرع ، وأضطر الخليفة للسكوت بسبب شجاعة أبى حنيفة.
وقد تألم أبو جعفر المنصور من موقف أبى حنيفة وأحس بخطورته على سلطانه ، وأضطهده وعذبه وقتله بالسم فيما بعد ( سنة 150 هـ ) وخلا الجو لفقهاء السلطة ، واكتسبت البيعة للخليفة مفهوما جديدا يعنى أن تكون له حرية التصرف فى أموال المسلمين ودماءهم وربما أعراضهم . وسار على ذلك الخلفاء من ذرية أبى جعفر المنصور وغيرهم. وتوارثنا المبايعة للسلطان أو الخليفة بهذا المفهوم ، وأصبح من مظاهر الدجل السياسي أن يكتب المنافقون مبايعة بالدم للسلطان ، وأن يهتفوا له " بالروح بالدم نفديك يا فلان " فإذا سقط صريعا انفضوا عنه واستداروا يتندرون عليه ..!!.
إن التجارة بالإسلام قد أعمت أصحابها عن تأصيل المفاهيم الإسلامية الحقيقية فى الشرع وشئون الحكم ، فليس لديهم من الوقت للفصل بين الحق الذي جاء به القرآن والذي طبقه خاتم النبيين عليه السلام وبين الزيف الذي أخترعه فقهاء السلطة وجرى عليه العرف حتى أصبح دينا وما هو من الدين من شيء . وموضوع المبايعة للسلطان يدخل فى ذلك الإطار .
2 ـ المبايعة لها مفهوم فى القرآن ، ما لبث أن حوره الفقهاء ليرضى. استبداد السلطان .. والأجدر بنا إن كنا نحب الإسلام حقا أن نتعرف على حقيقته بدلا من أن نتاجر باسمه العظيم فى سبيل حطام الدنيا ..
كان الدخول فى الإسلام فى عهد النبي يقترن بمبايعة النبي على التمسك بشريعته ، حنى لو كان من يدخل فى الإسلام من النساء ، والله تعالى يقول " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الممتحنة : 12 )" . أى كانت النساء يدخلن فى الإسلام بالمبايعة على طاعة الله ورسوله ، أى أن دولة الاسلام تكون بعقد يشارك فيه الجميع على قدر المساواة ، بلا فارق بين رجل وامرأة . ويكون هذا العقد فى صورة عهد تكون الطاعة فيه لله تعالى ، ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق حتى لو كان ذلك المخلوق هو النبى محمد عليه السلام.
وهذا هو موقع البيعة الأول فى الاسلام .
3 ـ وهناك موقع آخر للبيعة ـ أوالعهد أوالميثاق ـ وكلها بمعنى واحد .
كان الرجال يبايعون النبي أيضا على الجهاد ، وكذلك فعل الأنصار فى بيعتي العقبة الأولى والثانية وكانوا يجددون البيعة فى الأزمات كما حدث فى بيعة الشجرة التى قال عنها رب العزة " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح 18 ) ".
وهذه المبايعة كانت عهدا أمام الله تعالى ومع الله تعالى على الطاعة والفداء ، وكان النبي عليه السلام أول المؤمنين فى الطاعة لله وقائدهم فى المعارك، ولأنها بيعة لله تعالى فى الأصل فإن الله تعالى يقول للنبي على بيعة الشجرة " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(الفتح : 10 ) وهكذا جعل الله تعالى المبايعة عهدا معه .
وحين هوجم المسلمون فى المدينة فى غزوة الأحزاب بايعوا النبي على القتال فى سبيل الله ، ونكث المنافقون فقال الله عنهم " وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ( الأحزاب 15").، ولكن المؤمنون أوفوا بالعهد فقال تعالى عنهم " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب 23).
ولأنها عهدا مع الله تعالى رأسا دون واسطة فإن الله تعالى يجعلها صفقة بينه وبين المؤمنين الذين يبذلون دماءهم فى سبيل الله ويكافئهم الله تعالى على ذلك بالجنة يقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة ".
وكانت تلك المبايعة على الموت فى سبيل الله تأتى فى إطار القتال الدفاعى للمسلمين حين تهاجمهم قوة حربية باغية ، وذلك ما حدث فى غزوة الأحزاب ، وبعدها حين غدرت قريش بالمسلمين واحتجزت مبعوثيهم فى التفاوض .
فيما بعد تحولت المبايعة من قتال دفاعى فى سبيل الله إلى قتال فى سبيل الدنيا ، وبعد أن كانت تضحية فى سبيل المولى عز وجل أصبحت مبايعة لحاكم مستبد يتملك لنفسه رقاب المسلمين وغيرهم .. وبعد أن كانت المبايعة جهادا أصبحت استبدادا ، وبعد أن كان المجاهد يهتف : من يبايعني على الموت فى سبيل الله أصبح المنافق يصيح بالروح بالدم نفديك يا عباس .. وإن شئت الدليل ـ عزيزي القارئ ـ فاقرأ الموضوع من بدايته .